يُقال بأنَّ الوقت هو علاج لكل داء... بغض النظر عن منشئه، فإن الوقت كفيل بأنّ يسير بالداء إلى مستقر دائم فوق التراب أو تحت الثرى. لكن السؤال يبقى، من سيكون له السبق؟ الداء أم الوقت؟!

تمرُّ الأيام والشعور بأنَّ الاستيقاظ صباحًا هو مجرد فكرة، وأنَّ الاستهلال بها هو بداية حرب ضروس تخوضها مع أعداء كثر... من الطقس إلى البكتيريا إلى الأشخاص إلى المواقف... إلى ذاتك... أعداء تحتار في من سيتقدّم منهم للمواجهة الأولى... والمفاجأة الكبرى تكون دومًا أنَّ المتقدِّمَ عدوٌّ لم تلْحَظْه، وكنتَ قد اعتقدتَ أنَّه يُؤمنُ جانبه، فإذا به أول الغادرين، وأول الطاعنين، وأول من سنَّ السكاكين، وأول من يريق فيك الدم، وأول من يزهق فيك الروح، وأول من يأسر فيك الحياة، قبل أن يقف كجبروت يرفع كأس النصر فوق جبال من الجلاميد...

ويمرُّ وقت، وتعتاد الغدر... ويمرُّ وقت، وتعتاد أنَّ أقربهم إليك أشدهم إبداعًا للأخاديد... ويمر وقت، وتعتاد أنَّ الجذور لم تلتحم بتراب بل بنيران... ويمر وقت، وتعتاد أنَّ الشواء حفلات مستمرة، وأنَّ إغلاق الجفون بعد أن يسقط النهار هو العلاج الوحيد والترياق...

ويمر وقت، ويغلب الحزن كل شعور آخر، يستلك من يدك، ويدور بك في أحياء مدينة لم تسكنها ولا سكنتك، غريبة عنك بقدر غربتك عنها، ومع ذلك، يدور بك معلنًا أنَّك فيها مواطن استحق التكريم، لأنَّه دثّرك بردائه، لكنك لم تفقد ظل ابتسامة نسيت نفسها على ثغرك، وفوق شغاف قلبك، علّك يوم تستفيق من كبوتك، تكون هي دليلك خارج هذه المدينة، والفرس التي تقفز بك فوق أسوارها العتيدة، والجناح الذي سيحلّق بها خارج فضاءاتها، ويعلنك حرًّا حرًّا حُرًّا...

وتعود الأيام، ويمرُّ وقت، وتزورك أشهر تتمنى لو تُشطب من سير السنوات... لكنَّها لا تزال، على عادتها، تزورك كلَّ حول، تعود نبضَك بأنغام كانت لك يومًا حياة، تسحق روحك بأشواق كانت لك يومًا سناء... أشهر تتنازعك بين وهج المُحتَفِي والمُحتفَى، بين دفء حضن كان يغمرك بأمانه وصدقه، يحميك، يقيك، يحييك، يضحكك إذ يبكيك...

إنَّه الوقت... يقولون بأنّه الشافي لكل الجروح، والمبلسم لكل الأشواق، لكنَّ شوقًا واحدًا لا يبلسمه وقت ولا أيام ولا دهر ولا أبد...

إنَّه الشوق الذي يجعلنا نقفز فوق بعض التواريخ، هربًا من مواجهة نعرف أننا فيها الخاسر الوحيد... إنَّه الشوق الذي يجعلنا نرغب بمسح بعض الأشهر حتى لا يعود ألمها، ولا دمعها، ولا الآه التي صدحت ولمّا تخرج من الصدر بعد...

بعض الأحبة يرحلون وكأنهم لم يفعلوا... يمرون أمامك، طيفًا، عبقًا، ضياءً... تحاول أن تدنيهم، أن تلمسهم، أن تشتمَّ عبيرهم، فتمرّ ذراعيك عبرهم... ولا تكون إلاَّ الحاضن للذكريات رؤى، خيالاً، سرابًا... وتطفو الأمنيات...

وتتمنى... يا ليتك يوم رحلوا، معهم ارتحلت...