في تصريح لافت أثار تساؤلات ودهشة المراقبين، قال الرئيس الفرنسي ايمانويل ماكرون "لا يوجد إجماع اليوم بشأن إرسال قوات على الأرض بطريقة رسمية ومضمونة، ولكن لا ينبغي استبعاد أي شيء"، في موقف هو الأول من نوعه الذي يتحدث فيه زعيم غربي عن احتمالية إرسال قوات غربية إلى ساحة القتال مع روسيا.

هذا التصريح يأتي في توقيت لافت حيث تتراجع القوات الأوكرانية ميدانياً، وتتخذ موقفاً دفاعياً بعد أن فشل هجومها المضاد، الذي حظي بدعم غربي واسع على المستويين المادي والتسليحي، وبعد أن سيطرت القوات الروسية على مدينة "أفدييفكا" على الجبهة الشرقية الأوكرانية، كما يأتي تصريح الرئيس الفرنسي وسط تراجع نسبي في الموقف الأميركي الداعم لأوكرانيا، بسبب خلافات حزبية داخل الكونغرس حيث يجادل الجمهوريون بشأن مواصلة تقديم الدعم العسكري والمادي السخي لكييف.

أوروبياً، يقود ماكرون الجهود لانشاء تحالف من الدول الأوروبية الراغبة في تزويد أوكرانيا بصواريخ متعددة الأمدية، حيث استضافت باريس في الخامس والعشرين من الشهر الماضي، وفي ذكرى مرور عامين على اندلاع حرب أوكرانيا، اجتماعاً للدول الأوروبية الداعمة لكييف، شاركت فيه نحو عشرين دولة، وكان الهدف الفرنسي المعلن يكمن في "إعادة التعبئة ودراسة كافة سبل دعم أوكرانيا بشكل فعال" واستهدفت باريس "دحض الانطباع بأن الأمور تنهار، والتأكيد من جديد على أننا لم نتعب وأننا مصممون على وقف العدوان الروسي. نريد أن نبعث رسالة واضحة إلى بوتين بأنه لن ينتصر على أوكرانيا".

ورغم أن الرئيس الأوكراني زيلينسكي قد رمى الكرة بأكملها في ملعب حلفائه الغربيين وأكد أن "انتصار أوكرانيا على روسيا يتوقف عليكم"، معترفاً بأن فشل الهجوم المضاد كان ضربة قاسية لأوكرانيا، فإن اجتماع باريس لم يشهد الإعلان عن مساعدات جديدة، بل محاولات لتسليم الأسلحة التي وعدت بها أوكرانيا، التي تقول إن الأسلحة الغربية الموعودة يتم تسليمها بشكل متأخر، وهذا أمر حقيقي إذ يواجه الاتحاد الأوروبي صعوبة في الإيفاء بالتزاماته، خاصة فيما يتعلق بتسليم القذائف، لذلك فقد اعتمد اجتماع باريس مقترح تشيكي، يقضي بشراء قذائف للجيش الأوكراني من جميع أنحاء العالم، وليس فقط من أوروبا.

ماكرون يلتقي في إشاراته الخاصة بتصعيد الصراع مع روسيا مع رئيس الوزراء البريطاني ريتشي سوناك، الذي يطالي بتبني إجراءات أكثر جرأة بشان مصادرة الأصول الروسية، ولكنه لا يقترب مطلقاً من فكرة إرسال القوات التي يلمح إليها ماكرون ولو من باب الضغط على روسيا، فيما تتحفظ ألمانيا على إرسال صواريخ "توروس كروز" (صاروخ ألماني أرض جو متطور مداه 500 كم) إلى أوكرانيا، وبالتالي فهي أبعد ماتكون عن مجرد مناقشة مسألة إرسال قوات إلى أوكرانيا. كما أن دولاً أخرى عديدة بحلف "الناتو" ترفض هذه المقاربة الفرنسية، التي أكد الأمين العام للحلف ينس ستولتنبرغ، أنها غير موجودة ضمن الخطط المطروحة للنقاش، حيث تبني الحلف منذ بداية الأزمة موقفاً قائماً على رفض التدخل المباشر في الحرب، بل إن قادة الحلف يتجنبون تماماً مجرد التلويح بهذه الورقة، والاعتماد حصرياً على تقديم المساعدات لأوكرانيا.

إذن، هناك تباين واضح في المواقف الأوروبية، لاسيما بين الثلاثي الأكبر أوروبياً، فبخلاف موقف بريطانيا، يرفض المستشار الألماني أولاف شولتس منح الجيش الأوكراني صواريخ "توروس"، تفادياً لاستفزاز روسيا، فيما يشير الرئيس الفرنسي ماكرون إلى عدم استبعاد فرضية إرسال قوات من الحلف لأوكرانيا، وهي درجة تصعيد لم يسبق أن تم مجرد التلويح بها بشكل مباشر أو غير مباشر.

وذكرت صحيفة "تاغس شبيغل" الألمانية أن "المستشار أولاف شولتس دخل مباشرة في نقاش مع ماكرون وأكد أنه لن يتم إرسال أي جندي إلى أوكرانيا من الدول الأوروبية أو الدول الأعضاء في الناتو، مذكرا الرئيس الفرنسي بالاتفاقيات القائمة بين الدول الأوروبية"، وذكرت الصحيفة: "لم يدخل ماكرون وشولتس من قبل في مثل هذه المشاحنة المفتوحة، وهذا الشقاق يعني أن ماكرون قد تبنى موقفاً يثير التساؤلات ويدفع للبحث عن خلفياته ودوافعه.

يمكن واقعياً تأكيد استبعاد موافقة الولايات المتحدة على رؤية الرئيس ماكرون، لا بالمشاركة الفعلية ولا حتى بمنح ضوء أخضر لأي طرف أوروبي لإرسال قوات لأوكرانيا، لأن الولايات المتحدة تدرك مسبقاُ عواقب المواجهة العسكرية المباشرة للناتو مع روسيا، والتي تفتح المجال بقوة أمام نشوب حرب نووية، وبالتالي لا يمكن للرئيس بايدن الذي يعاني بالأساس مشاكل جمة حول العالم، وتدهوراً في شعبيته بسبب إدارة الأزمات ذات الصلة بالمصالح الاستراتيجية الأميركية في مناطق عديدة، أن يضيف تعقيداً جديداً لفرصه المحتملة في الفوز بولاية رئاسية ثانية، كما لا يتوقع أن يوافق أي رئيس جمهوري محتمل، ولاسيما الرئيس السابق دونالد ترامب، على مقترح كهذا.

لم يتبق إذن سوى فرضية تبني الرئيس الفرنسي وجهة نظر فردية بإرسال قوات لأوكرانيا، وهذا أمر وارد في ضوء مواقف مماثلة لماكرون، ولكن هذا الموقف، فتح عليه أبواب المشاكل في الأوساط السياسية والحزبية الفرنسية، التي وصفت بعضها حديثه عن الفكرة بالجنون، انطلاقاً من وضعية روسيا كقوة نووية كبرى سبق لها التلويح غير مرة بامكانية اللجوء إلى السلاح النووي في مواجهة أي تهديد مصيري، لاسيما في ظل تباين موازين القوى التقليدية بين الجيش الروسي وجيوش الناتو، ناهيك عن أن روسيا قد أعلنت بشكل رسمي مباشر أن هذا الخيار (تدخل عضو أو اعضاء من الناتو) سيعتبر بمثابة إعلان حرب مع كل ما يترتب على ذلك من عواقب، وقد اعتبر نائب رئيس مجلس الأمن الروسي دميتري مدفيديف، تصريح ماكرون بأن عرض لمعاناة ماكرون مما وصفه بـ"من إسهال مزمن في الكلام"، فيما اعتبره المتحدث باسم الكرملين إعلان صدام حتمي بين روسيا والناتو.

في ضوء ماسبق كله، ووفي ظل تأكيد الرئيس ماكرون أنه "تحدث بكامل وعيه" عن امكانية إرسال قوات غربية لأوكرانيا وأنه "وزن كلماته وفكر فيها ملياً"، يرجح مراقبون أن تكون الفكرة قد طرحت فعلياً للنقاش بين القادة الأوروبيين ولو في نطاق ضيق بشكل سري في ظل تزايد احتمالات هزيمة (انهيار) الجيش الأوكراني، بكل ما يعنيه ذلك من تداعيات على الأمن القومي الأوروبي، وأن حديث ماكرون ربما يكون نوع من التسريب الممنهج للفكرة وجس النبض حولها، أو لزيادة الضغوط على الولايات المتحدة لتسريع آلية تقديم المساعدات لأوكرانيا خشية تورط حلفائها الأوروبيين في صراع مباشر مع روسيا.

في جميع الأحوال، يبقى حديث الرئيس ماكرون عن إرسال قوات لأوكرانيا حدث سياسي جلل، حتى لو كان "بالون اختبار" كما وصفته " صحف أميركية، ما يضع رئيس فرنسا في موقف صعب للغاية للخروج من هذه الورطة التي وضع نفسه فيها، حيث سعى وزير الخارجية الفرنسي ستفيان سيجورنيه إلى تبريد الأزمة بالقول إن وجود عسكريين غربيين في أوكرانيا قد يكون ضروريا لتقديم أنواع معينة من المساعدة، بما في ذلك إزالة الألغام والتدريب، وان ذلك لا يعني مشاركتهم في النزاع.