احتضنت سويسرا قبل نحو أسبوع، اجتماعاً شارك فيه مستشارو الأمن القومي من 83 دولة، وذلك لمناقشة "صيغة سلام" طرحها الرئيس الأوكراني فلاديمير زيلينسكي لبلاده. المحادثات التي غابت عنها روسيا والصين، حصلت في منتجع دافوس عشية انعقاد المنتدى الاقتصادي، وكان هذه المرة تحت عنوان "إعادة بناء الثقة" التي تبدو مفقودة بين الدول الغربية... فلم يخرج المنتدى بأيّ حلّ للملف الأوكراني ولا حتى للملفات الاقتصادية العالمية، حيث سادت خطابات لكبار رجالات العالم، كلها تدور في حلقة مفرغة.
الاقتراح الأوكراني بقي على ما هو عليه منذ المؤتمرات السابقة الداعية إلى السلام في أوكرانيا، والمؤلف من 10 نقاط. لكنّ المحادثات في منتدى دافوس تركزت هذه المرة، على ستّ نقاط فقط، وهي: إنهاء الأعمال العسكرية، وطلب انسحاب القوات الروسية من أوكرانيا، وتحقيق العدالة للضحايا، وحماية البيئة، ومنع التصعيد، أخيراً العمل من أجل الوصول إلى نهاية الحرب.
ما الجديد في "دافوس"؟
أمّا أبرز ما تناوله المؤتمرون في سويسرا، فكان:
أولاً: اعترافهم المسبق بحتمية فشل مفاوضاتهم نتيجة غياب روسيا عنها، وقد أقرّ بذلك وزير خارجية الدولة المضيفة إغنازيو كاسيس، الذي قال صراحة إنّ المفاوضات "ما زالت بعيدة عن إنهاء الحرب"، وإنّه "لا يمكن تحقيق ذلك من دون وجود روسيا على الطاولة المحادثات"، داعياً في الوقت عينه إلى "إشراكها بطريقة أو بأخرى"، لأنّ السلام "لن يبصر النور من دون الاستماع إلى رأي موسكو".
ثانياً: العتب على الصين باعتبارها من بين الجهات الرئيسية الفاعلة، خصوصاً أنّها أظهرت تأييداً لروسيا، وهي من بين الجهات الفاعلة التي لم تشارك في المحادثات. ومن هذا المنطلق ذكّر رئيس مكتب الرئاسة الأوكرانية أندريه يارماك أنّ الصين دولة هامة ومؤثرة، فدعاها إلى الانضمام لتلك المحادثات، بعد أن كانت قد شاركت من قبل في اجتماعات مماثلة، في كييف وجدة السعودية.
ثالثاً: استجداء دول "بريكس" من أجل المشاركة في حلّ النزاع الأوكراني، إذ شدّد كسياس أيضاً على أهمية مشاركة البرازيل والهند وجنوب أفريقيا في المحادثات، بسبب وجودها إلى جانب روسيا ضمن مجموعة "بريكس"، ولأن مشاركة هذه الدول "مهمّة" وذلك نتيجة حفاظها على درجة عالية من الثقة مع موسكو"، متكهناً أنّ اشتراك دول "بريكس" في المفاوضات سيخلق ديناميكية جماعية من خارج الدول الغربية، ويساعد في البحث عن الحلول.
مواربة زيلينسكي
ومع انطلاق المؤتمر، حضر زيلينسكي منتدى "دافوس"، وقال في خطاب أمام الحاضرين إنّ روسيا ستواصل الحرب، حتى إذا أوقفت بلاده القتال، معتبراً أنّ محاولات تجميد الصراع في دونباس بعد العام 2014 قد فشلت، بالرغم من وجود جهات دولية ضامنة في حينه، مثل المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل والرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند.
وقصد زيلينسكي بذلك "اتفاقيات مينسك"، التي لم تلتزم بها أوكرانيا على الإطلاق، وكذلك لم يُشر إلى ما صرّح به هولاند وميركل قبل نحو سنة، يوم كشفا أنّ الاتفاقيات كانت مجّرد مهلة منحها الغرب لأوكرانيا الضعيفة من أجل التحضّر لمواجهة موسكو. أي أنّها كانت ما يشبه الخديعة وليست اتفاقاً جدياً.
اجتماع مستشاري الأمن الوطني في منتدى دافوس، كان استمراراً لثلاث "محادثات سلام" سابقة، استضافتها كل من كوبنهاغن وجدّة ومالطا، وانصبّت جميعها على النظر في صيغة السلام التي قدمها زيلينسكي في نهاية عام 2022 ولم تفضِ إلى بلورة أيّ حلّ.
بل على العكس، فقد بدأت الدول الغربية بإظهار امتعاضها من استمرار أوكرانيا بطلب المساعدات من دون تحقيق أيّ هدف ميداني يُذكر، خصوصاً مع فشل الهجوم المضاد الذي نفّذه الجيش الأوكراني خلال فصل الصيف الفائت.
تململ غربي أو عجز؟
ويبدو أنّ الأزمة أعمق من مسألة هجوم فاشل، إذ تواجه الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي صعوبات فعلية في تخصيص مساعدات كبيرة لأوكرانيا في هذا التوقيت الحرج. إذ تزامناً مع منتدى دافوس، كان رئيس مجلس النواب الأميركي الجمهوري مايك جونسون، ينفي إمكانية التوصل "بشكل سريع" إلى اتفاق مع إدارة الرئيس جو بادين من أجل تقديم مساعدات جديدة لأوكرانيا.
وقبل ذلك بيوم، أعلن وزير الخارجية أنتوني بلينكن، أنّ بلاده ليس لديها "وعاء سحري" يمكنها من تمويل أوكرانيا من دون موافقة الكونغرس، كاشفاً أنّ معظم الأموال المخصصة لكييف سيتم إنفاقها في الولايات المتحدة.
وبعيد انتهاء منتدى دافوس بأيام قليلة أيضاً، أعلن منسق الاتصالات الاستراتيجية في مجلس الأمن القومي جون كيربي، أنّ سحب الدعم الأوروبي لكييف في حال لم يدعم الكونغرس تخصيص مساعدات جديدة لأوكرانيا قد يكون "أمراً وارداً". وقال "إذا توقفت واشنطن عن دعم كييف فقد يفعل حلفاؤنا الأمر نفسه".
وبلغ الحجم الإجمالي للمساعدات الغربية المرسلة إلى أوكرانيا، منذ بداية الحرب إلى اليوم، قرابة 113 مليار دولار، من بينها 60 مليار دولار على شكل مساعدات عسكرية.
موسكو لا تبالي
أمّا روسيا فرفضت صيغة السلام تلك، ووصفتها بـ"السخيفة" و"عديمة الفائدة". وقال المتحدث باسم الكرملين دميتري بيسكوف، إنّ هذه المحادثات لن تؤدي إلى أيّ نتائج لأن روسيا ليست حاضرة.
وسبق أن كشف الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، في وقت سابق، أنّ كييف لو لم ترفض المفاوضات مع روسيا في إسطنبول بتحريض الغرب، لكانت الحرب قد انتهت منذ فترة طويلة. أضاف "هم رفضوا التفاوض بالرغم من اتفاقنا معهم على كل شيء. بعد يوم واحد ألقوا جميع الاتفاقيات في سلة المهملات، والآن يكشفون علناً أنّ رئيس وزراء بريطانيا آنذاك بوريس جونسون جاء وأقنعنا بعدم تنفيذ الاتفاق".
وجرت المفاوضات الأولى بين روسيا وأوكرانيا بداية الحرب في أوائل آذار (مارس) 2022 في بيلاروسيا، لكنّها لم تسفر عن نتائج ملموسة.
ثم لاحقاً في نهاية الشهر نفسه، عُقدت جولة تالية في إسطنبول، تلقت موسكو لأول مرة من كييف مسودة اتفاق مقترحاً، أهم بنوده، التزام أوكرانيا بالحيادية ورفضها نشر أسلحة أجنبية، بما فيها تلك النووية، على أراضيها.
إثر ذلك، انسحبت القوات الروسية من كييف وتشرنيغوف بالفعل، ولكن لاحقاً تم تجميد المفاوضات بالكامل… إلى أن أصدر زيلينسكي قراراً يقضي بـ"تجريم" التفاوض مع روسيا.
أما الخبراء الغربيون، فيعتبرون اليوم أنّ الدول الغربية ارتكبت جريمة بتعطيل تلك المفاوضات، لأنّ الاتفاق كان جاهزاً بالفعل آنذاك ووافقت عليه موسكو وكييف... لكن الغرب لم يسمح به واختار استمرار الحرب. مما يعني أنّ الغرب اليوم يستجدي ما كان مطروحاً عليه وعلى أوكرانيا في السابق، ورفضوه.
التعليقات