عبر التاريخ، ومنذ ظهور الإسلام، لم يكن هناك خطر على الإسلام أكثر من الجماعات والحركات والتنظيمات الجهادية والسياسية التي تدعي تمثيل الإسلام، والتي تعتبر نفسها ظل الله على الأرض، فهي تضم المؤمنين والقادة والقدوة والمفكرين والمنظرين والسياسيين والاقتصاديين، ويحق لهؤلاء ما لا يحق لغيرهم، وكل من يخالفهم كافراً، لأنه يخالف تعاليم الإسلام، وهو بالمحصلة عدو الله، ويجب محاربته، بل وقتله واجباً شرّعته عقيدتهم العوجاء، ولعل أخطر شريحة من هؤلاء من ينكل بمن يخالفه الرأي أو يرفض هيمنته تحت هذه الحجج الواهية، ويتحضر منتظرًا الفرصة المناسبة للقضاء على أعدائه المفترضين الذين هم حسب قناعته أعداء الله، ولا يتوانى عن تشكيل الجيوش لمحارب هؤلاء الأعداء المفترضين. ولعل أخطر هؤلاء من يتحرك تحت مظلة أجهزة مخابرات الدول الداعمة له، وهم يشكلون نسبة كبيرة من الفصائل الجهادية التي انخرطت في الثورة السورية، خاصة من أُفرج عن قادتها من سجون الأسد والمالكي وفصائل أخرى تم تصنيعها لتخدم هدف جماعتها أو مشغلي قادتها بغطاء إسلامي، وكان لهذه الفصائل الدور الأكبر في تفتيت الثورة والمشاركة بشكل أو بآخر في عقد الاتفاقيات المذلة لتسليم المناطق المحرَّرة، ناهيك عن الممارسات القمعية التي مارستها تلك الفصائل ضد الشعب السوري الثائر والجيش الحر وقيادات الثورة الحقيقيين من عسكريين وسياسيين ونشطاء، فقتلت تلك الفصائل الوظيفية وغيبت أحرار الثورة وعاثت فسادًا وإفسادًا في المناطق المحررة، واختلقت المعارك مع الكثير من فصائل الجيش الحر التي لم تستطع ابتلاعها، الأمر الذي أضعف تلك الفصائل واستنزف قوتها المادية والبشرية.
يمكن أن نُعرّف الفصائل (الجماعات) الجهادية بأنها مجاميع من الأشخاص الذين ينتسبون إلى الإسلام المتشدد والمتطرف في فكره، والذي ينادي ويسعى لفرض رؤيته للإسلام وتعاليمه بالقوة من وجهة نظره البعيدة جدًا عن تعاليم الإسلام الحقيقي. وبالرغم من التباين الحاصل بين تلك الجماعات من حيث الأفكار والطريقة والأسلوب المتبع للوصول إلى الهدف الاستراتيجي حسب اعتقادهم، إلا أنهم يتفقون على محاربة كل من يخالف فكرهم حتى لو كان من المسلمين، خاصة العامة منهم والتيارات الإسلامية المعتدلة، وفي كثير من الأحيان تكون الحرب على تلك التيارات المعتدلة أشد وأقوى من الحرب على الكفار حسب ادعائهم، لأن هؤلاء، وحسب منظريهم، مرتدون عن الإسلام ومن الواجب أولوية محاربتهم والتنكيل بهم وقتلهم وتنظيف صفوف الإسلام منهم، ولعل هذه الأفكار التي تعشش في أذهان هؤلاء جعلت منهم أدوات طيعة من حيث يعلمون أو لا يعلمون بأيدي أجهزة المخابرات التي صنّعت الكثير من قياداتهم بشكل مباشر وغير مباشر، واستخدمتهم في حروبها على الشعوب المنتفضة على حكامها كخدم لتلك الأجهزة وحماة مصالحها في دولهم، ولعل ما حصل منذ بداية الثورة السورية من خلال زج المعتقلين الجهاديين المفرج عنهم من سجون الأسد ومالكي العراق في الثورة السورية كقادة للكثير من الفصائل الجهادية والدور الهدام الذي مارسه هؤلاء في تفتيت الجيش الحر، الذراع القوية للثورة السورية، خير دليل على دورهم الوظيفي الذي رسمه له سجانوهم قبل إطلاق سراحهم، ناهيك عن التغلغل الاستخباراتي المهول في صفوف قادة تلك الفصائل، خاصة من قبل إيران وبعض الدول الإقليمية، التي مدّتهم بكل أنواع الدعم اللوجستي والإعلامي ليقوموا بدورهم على أكمل وجه، والذي توج بإلصاق تهمة الإرهاب بثورة الشعب السوري، الذي خرج ليحرر نفسه، فسرق هؤلاء أحلامه وداسوا على تضحياته الجسيمة التي لم يقدم مثلها شعب عبر التاريخ.
لم يكن ظهور تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش) وليد صدفة أو نتيجة جهود فردية آنية محدودة الزمان والمكان، بل كان نتاجاً لفكر ديني أيديولوجي متجذر منذ مئات السنين، أسس له بعض رجال الدين المسلمين الذين أصبحوا أئمة للأجيال التي آمنت بفكرهم وعملت على تحقيق ما نصّت عليه كتبهم، ولعل أبرز هؤلاء العالم المعروف أحمد بن حنبل (المولود عام 780 والمتوفى عام 855) المؤسس لأحد المذاهب السنية الأربعة في الفقه الإسلامي، وقد سُجن على يد الخليفة العباسي المأمون في بغداد نتيجة الكثير من الخلافات بين الرجلين، وبعد حوالى خمسة قرون، ظهر الإمام ابن تيمية، وسرعان ما قُتل في أحد سجون دمشق في عهد الناصر قلاوون، ويعتبر هذان العالمان الأبوين الروحيين لمن جاء بعدهما من علماء مفكرين وحركات عُرفت باسم المذهب السلفي، والذين يدعون إلى منهاج السلف الصالح، ثم كان ظهور المصري حسن البنا، الذي كان له الدور البارز في مد الجسور بين فكر أسلافه وبين جيل جديد من الجهاديين، وهذا مهد لظهور تنظيم القاعدة والتنظيمات المشابهة له، وكان من بين أهم معارف سيد قطب زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري الذي كان له دور بارز مع مجموعة من أصدقائه في نشر كتب سيد قطب الأربعة والعشرين التي تأثر بها أسامة بن لادن، مؤسس تنظيم القاعدة، الذي كان يعتبر قطب "مصدر الفكر الجهادي" و"فيلسوف الثورة الإسلامية"، وبات من الواضح أن قادة تنظيم القاعدة يحملون عقيدة تكفيرية يستمدونها من كتب السلف والمنهج الذي رسمه سيد قطب، وبقي هذا الفكر منتظرًا بيئة مناسبة لتطبيقه، هذه البيئة تعتمد على عاملين أساسيين: الأول ساحة قتال والثاني خبراء للتخطيط الاستراتيجي للمعركة المنتظرة، فكانت أفغانستان أُولى المحطات المناسبة لتطبيق ذلك الفكر، حيث اجتذب الغزو السوفييتي لذلك البلد أعداداً هائلة من حاملي هذا الفكر للقتال هناك تحت راية الجهاد، وبُعيد انسحاب القوات السوفييتية من أفغانستان، كان المجاهدون العرب قد اكتسبوا الكثير من المهارات والخبرات القتالية، حيث ظهر تنظيم القاعدة كأداة للجهاد العالمي واتُخذ أفغانستان قاعدة رئيسية له، وظهر من خلال ذلك زعماء جهاديون سلفيون وخبراء استراتيجيون لعبوا فيما بعد دوراً محورياً في تأسيس الدولة الإسلامية، وكان من أبرزهم الأردني أبو مصعب الزرقاوي الذي أسس بداية "جماعة التوحيد والجهاد" وأصبح فيما بعد الزعيم الروحي لتنظيم الدولة، وإبان الاحتلال الأميركي للعراق جُمع معظم قادة وعناصر هذا التيار في سجن "بوكا" الذي أصبح جامعة تخرّج منها عدد كبير من قادة تنظيم الدولة الإسلامية ومنهم البغدادي الذي عمل في السجن على تطوير علاقاته مع قادة عسكريين في الجيش العراقي السابق وكانوا فيما بعد شركاءه ورفاق دربه في تنظيم الدولة.
البدايات
عند اندلاع الثورة السورية، وجد البغدادي ورفاقه الفرصة الذهبية للتوسع خارج حدود العراق، حيث أرسل رجاله إلى هناك، وكان أول نشاط ميداني لهم في دمشق في أيلول (سبتمبر) 2011، حيث قامت جبهة النصرة والتي يتزعمها أبو محمد الجولاني موفد البغدادي إلى سورية آنذاك بتنفيذ عدد من عمليات التفجير، حيث أعلنت النصرة فيما بعد انتمائها لتنظيم القاعدة، ونتيجة تقدم الجبهة ونجاحها ميدانياً واستقطابها للكثير من الجهاديين وغير الجهاديين السوريين، ظهرت علامات تدل على مشروع الجولاني الخاص، حيث بدأت النصرة تبتعد عن تنظيم القاعدة كما ظهرت بوادر فقدان سيطرة البغدادي على قياداتها، الأمر الذي تداركه البغدادي في نيسان (أبريل) 2013 بالإعلان عن تنظيم "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، وكانت النصرة هي الفرع السوري للتنظيم، لكن الظواهري كانت له رغبة في فصل النصرة عن تنظيم البغدادي في العراق ليتبع له مباشرة، لكن البغدادي رفض الفكرة من أساسها، وأدى هذا في نهاية عام 2013 إلى تصاعد الخلاف بين الجولاني والبغدادي لدرجة الصدام العسكري بين التنظيمين، والذي خلف مئات القتلى من كلا الطرفين، وتمكنت النصرة مع حلفائها من فصائل الإسلام السياسي من التغلب على تنظيم الدولة وطرده من معظم المناطق المحررة في شمال غرب سورية، وبالمقابل استطاع تنظيم الدولة السيطرة على مدينة الرقة التي أعلنها عاصمته، ونتج عن ذلك انتقال كثير من الجهاديين الأجانب المنتمين إلى جبهة النصرة إلى الدولة الإسلامية، وفي بداية عام 2014، أعلن تنظيم القاعدة براءته من الدولة الإسلامية التي سرعان ما أعلنت الخلافة الإسلامية تحت مسمى "الدولة الإسلامية"، وبُعيد هذا الإعلان، انضمت للدولة المزعومة مجموعات مسلحة كثيرة في سورية شُكلت من الغرباء غير السوريين مثل أجناد القوقاز، والحزب الإسلامي التركستاني في سورية، وجبهة أنصار الدين، وجماعة الإمام البخاري، وجماعة أُحد أُحد، وجماعة خراسان وفصائل أخرى من مختلف البلدان العربية والإفريقية مثل ليبيا ومصر ونيجيريا، وبدأ البغدادي في تنفيذ مشروع الدولة على أرض الواقع في سورية والعراق، والتي تعتمد على نظرة البغدادي العنيفة للحكم الإسلامي، الأمر الذي أدى إلى ارتكابه الكثير من الممارسات اللاإنسانية والجرائم البشعة بحق مواطني المناطق التي سيطر عليها، مثل قطع الرؤوس والأيدي وترويع السكان الآمنين بفرض إتاوات غير مبررة، ناهيك عن القبضة الأمنية التي وصلت إلى مراحل فاقت في وحشيتها أساليب وممارسات وجرائم مخابرات الأسد.
التعليقات