أعرف مقدمًّا بأنني سأكون هدفًا للنقد اللاذع والعتاب البارع، من الحرس القديم أو الجديد، وسيتبارى بعضهم في الوطنية إلى حدِّ التعصُّب والادّعاء، مع الغلق التام، بالشمع الأحمر، لمنافذ البصيرة والحكمة، وسنرى آخرين ينشدون أناشيد البطولة والتباهي بالشعارات الثورية البالية.
وستجد هناك من "لا يقرأ ولكن ينتقد، أو يقرأ ولا يحسن التهجِّي، أو يحسن القراءة ولا يفهم، أو يفهم القليل ويزيغ عن الكثير، أو يفهم ولا يزيغ لكن يراوغ". وهناك من يبحث عن السمك في اليابسة، والطيور البرية في الماء، والغزلان في السماء.
أعرف أيضًا، بأنني سأسمع كلاماً من هذا الطرف أو ذاك؛ لمجرد ذكر اسم: محمد شياع السوداني، فهناك من يقول: إنه إيراني؛ لأنه جاء ومعه البطاقة الخضراء الإيرانية، ولأنه من إنتاج إحدى فصائل الأحزاب الدينية، وطرفٌ آخر يراه من زاوية أخرى؛ فهو تحصيل حاصل لعملية سياسية معقدة تتداخل فيها المصالح والأهواء والأمزجة والولاءات؛ حيث الأطراف تتنابز بألقاب العمالة: إيراني مقابل تركي، أو إماراتي، أو سعودي.
في إحدى مقالاتي قلت: "إن العراقي لا يعجبه العجب، وصعب المراس والمزاج، ولو جلبت له نبيًّا ليحكمه فلن يرضى عليه؛ فسيقتله مثلما تقتل بعض الحيوانات أبناءها". قُتل ملوك العراق غدرًا، واتهموهم بالعمالة البريطانية؛ لكنهم - ويا للأسف - بعد اليقظة تباكَوْا عليهم، وتمنَّوْا لو عادت الملكية للعراق! وهكذا هو حال الذين حكموا العراق، الذين وُضِعوا في قفص العمالة والخيانة. ازدواجية منفلقة؛ امنيه للديمقراطية، وحنين قوي للاستبداد، حتى ولو كان قاسيًا ومُذلاًّ.
أصعب شيء أن يعيش الحاكم بين شعبٍ متقلِّب المِزاج، وذاكرةٍ سريعةِ العطَب، وثقافة مليئة بالشكوى والمطالب، وفكر مؤدلج بالسياسة والدين؛ لأنه لن يحصل إلا على وجع الرأس، والقيل والقال. فلا شكر على منجز، ولا كلمة حق حتى ولو كان عابرًا من باب العرفان.
الرجل لم يحكم السويد وسويسرا، فهو يحكم بقعةً فيها ضوضاء القبائل والطوائف والقوميات، ومجتمعًا يصعب استرضاؤه وقبوله، وأصعب من ذلك تلك الأحزاب المتعصبة التي تبحث عن مصالحها فقط، بل وتمتهن المفاسد، وعملية سياسية فيها ألغام الداخل والخارج، وقوم يعيشون خارج تغطية الزمن، وأرضة فساد تنخر الدولة العراقية من الرأس حتى القدمين، وعراق مقسَّم بالمسميات والألقاب.
باختصار، هو يحكم بلدًا تتنازع وتتخاصم فيه مافيات السياسة على منابع النفط، ومناطق الموارد، وخزائن البنوك. هناك عقدة سيكولوجية تترسَّخ في النفوس اسمها التلذُّذ بمشاهد الخسارة الدائمة، ومرض لقذف ذنوبنا على الفرد الحاكم، مثلما هناك عقدة في الأحزاب ضد النجاح، حتى ولو كان من صُنعهم!
إقرأ أيضاً: قصتي مع الصحافة الجامعية
السوداني يقوم اليوم بعملية توازُن معقدة على الجبهتين - المحلية والدولية -، وإدارة المنافسة بين (النخب المتعصبة) في البلاد، ومحاولة إعادة الثقة للمواطنين بإدارة الحكم، وترضية جميع الأطراف، سواء تلك التي أوصلته إلى رئاسة الوزراء أو تلك المعارضة له، ومحاولة التوازن بين الاعتماد السياسي والاقتصادي على كلٍّ من الولايات المتحدة وإيران. ومع ذلك فالرجل يحاول، بطرق مبتكرة وذكية قدرَ الإمكان، الإفلاتَ من سيطرة الأحزاب ومطالبها المصلحية؛ من أجل تحقيق المكاسب للناس.
السوداني أيضاً ينتابه القلق المستمر في كيفية تقريب الناس روحيًّا إلى منطقة الخضراء الغنية بالثروات واللصوص والفاسدين، وإعادة الثقة لهم بالحاكم الذي جرَّبوه سنوات، ولم يحقق لهم سوى الفقر والجوع والخدمات الرديئة؛ لذلك وازن بين الخدمات الظاهرة للعيان، والمشاريع الاستراتيجية الكبرى. ومثلما يقال: ينحِت في بحر، ويغرِف من صخر!
أتذكَّر أنني شاهدت فيديو في بداية تولِّي السوداني منصبَه؛ كان لامرأة عجوز جنوبية اختزلت مشهد أزمه الثقة بين الناس والحاكم؛ حيث قالت بعفوية وتلقائية: "يمه خلصنه من جماعتنه الحرامية، وهسه جابونه "سوداني" من الخارج... ماكو عراقيين شرفاء؟!"
إقرأ أيضاً: كواتم الحرب السيبرانية
أعرف أن الناس لا يعجبها العجب، فهي مريضة بحب النقد والتندُّر، والمكاسب والمطالب، والشكوى المستمرة، فإذا صنعت لها مُنجزًا خرجت عليك بألف عيبٍ ونقد هدّام، وإذا أعطيت لها قالت: هل من مزيد؟ متواليات من الأمزجة المتقلّبة، وتقلُّبات في الرأي والحكم، وأنانية مُفرطة حدَّ جلدِ الذات. هي عين عوراء أو حولاء لرؤية الواقع، وتعصُّب أعمى!
ما أردت قوله هو أن نتفهم البيئة التي يعمل بها السوداني، وظروفه السياسية، وأثقال المطالب والتحديات. هو إنسان يعيش على قمة بركان متأهب للانفجار حسب مقياس ريختر السياسة وغيومها السوداء، فهو ليس نبياً، ولاساحراً قادراً أن يقلب دنيا العراق إلى جنة موعودة في غضون أشهر أو سنوات.
وأصدقكم القول: علينا أن نصدح بالحق المجرَّد بعيدًا عن التعصب والموقف السابق، وإن تقاطعنا مع العملية السياسية، ولو اختلفنا في الرأي؛ لأن منطق العلم يقوم على الحياديَّة، وقول الحق. وإن تعلُّمَ الحياة لا يستقيم بالتعصب الأعمى الذي لا يبني وطنًا سالمًا مكرَّمًا ومنعَّمًا بالسعادة. فالوطن والمواطنة نراهما في المنجزات والمكاسب، وفي فرح الناس.
إقرأ أيضاً: قائد بلا منصب
بالمختصر الشديد، الوطن لا يُبنى بالأحقاد والضغائن وحب الانتقام والثأر؛ بل على مداميك المحبة والتعايش والانفتاح، فنحن نحتاج إلى صوتٍ عاقل؛ لكي يرسِّخ فكرة المواطنة بالتزامن مع بناء الجسور والأبراج، ونحتاج، من الآخر، أن يفتح عقله دون تعصُّب، ولا يغلق عينيه على المنجزات.
للجميع: قد نختلف أو نتفق في الراي والاجتهاد، لكننا لا نختلف على العراق في امنه وسروره وازدهاره. لذلك لا احتاج من أحد أن يقدم لنا وصفة وطنية مؤدلجة جاهزة، ولا اطلب من السوداني أن يقول لي (براڤو). أحتاج فقط أن اسمع صوت الوطن بخير، ويزدهر عراقنا بورود الجمال، وجواهر العدالة، وسلاسل المنجزات. من الآخر: أحنّ إلى وطن يقول لي أنت مواطن، وأنا وطنك!
التعليقات