لما رأيت كثيرًا مِن الناس يسعى أن يكون في قرب مدير أو كبير أو وَجِيه، موظفًا بمكتبه، أو حاجبًا ببابه، أو قائمًا بحاجته؛ فينال بذلك حاجة مقضية، وحُسن عطية، وجَاهًا عند من هو دونه، وسببًا يوصله بمن هو فوقه، فقد أتيت يومًا صاحبًا لي يهمني أمره فقلت له: مالي أراك كاسدًا لا تلتمس الأبواب، ولا تقف بالأعتاب فيصيبك ما أصاب القوم من الخير؟ ولم أعلم أني بسؤالي إياه قد وقعت له في حِمَى، وتعديت له على حَرَم، فقد أقبل عَلَيَّ بمُحاضرات في فلسفة الأخلاق، وفي علم نفس الشخصيات وقد كان بَعُدَ عهدي بمذاكرتهما، فقال: قد كنت أظنك تعرفني خيرًا من ذلك!

يا أخي، ليست كل الأنفس في طبائعها وتربيتها سواء، وما ترتضيه نفس تأنف منه أخرى، وما يعده بعضهم مطعمة شهية، يعده آخر عضًّا بحنظل، وإنك لتعلم أن عطايا القوم ورغائبهم لا تُنال إلا بما رأيت من طول التقرب، وإدامة التزلف، والسعي بين أيديهم، وقضاء حوائجهم وحوائج أهليهم، ومحاباة الساقطين إن كانوا من أهل مودتهم، مع إلانة الجانب، وخفض الجناح، وغض الصوت، وأثقل من ذلك، وأشد منه كلفة أنك إذا انصرفت من عند هذا الوجيه لم تملك قلبك، بل أنت مشغول أبدًا بِوَلِيِّ النعمة، إما طمعًا في زيادته، أو خشية من تَحَوُّله، أو احتيالًا لمرضاته، وتلك كلها خصال (لِمَن لم يألفها، أو يُطبع عليها) تكدر عليه صفِيَّ يومه، وتنغص عليه رضِيَّ عيشه، وتجعله حُرًّا أشبه بعبد، وتخلع عليه لقب شَمَاشِرْجِي (الساعي بحاجة الهانم والعيال) وإن كان وزيرًا، وأنا لست بذلك، ولست أُحسن أن أكونه، ولست أرضى أن أكون بعض من يحسنونه، وليست تُواتينى تلك الخصال إلا طوعًا لوالد كريم، أو لكبير، أو لقريب، أو لذي حق، فأما من سواهم فأنا له ند، وبه شبيه، وإن اختلفت بنا الرتب، فكيف أقوم ببابه، وأسعى في ركابه؟!

إقرأ أيضاً: !هتMove onأسرع¡‎

يا صاحبي، لئن كان القرب من هؤلاء الكبراء، والوجهاء مما يغبط الناس عليه بعضهم بعضًا ويتنافسون فيه، فأنا قانع بأن أكون سيد نفسي، ووجيهها، والمُقَدَّم عندها، وتلك نعمة من أَجَلٍّ النعم.

فما فرغ من قوله إلا وقد وَلَّانِي ظهره وانصرف غير مُتَلَبِّث ولا مُتَمَهِّل، وإذا حديثي إليه قد زاده ثباتًا على مذهبه من حيث أردت أن أصرفه عنه، وأوجهه إلى غيره، فعزمت ألا أخاطبه في ذلك، وأن أتركه وسجية نفسه، وأن أتدبر ما وعظني هو به لعلي أنتفع به.