لا أتحدت هنا عن صراع الأجيال، وفجوة الأفكار والقيم، والتنابز بألقاب الأفضل والأسوأ، والأذكى والأغبى، وتناقض الآراء، وتنافُر التصرفات بين الأجيال، ومقدار مساحة الالتقاء الفكري والثقافي واللغوي بينهم. لا أتحدث عن سيكولوجية القهر والأحقاد والتنشئة الأسرية والمجتمعية التي أزَّمت المأزوم، وأيّست المهزوم، وجعلت دنيا الحياة صراعات ومناكفات لا تهدأ بسكون الأفعال ولا توقُّف الحركات.

حديثي عن جيل جديد قد غادر -حرْفيًّا- الثقافةَ والمعرفةَ والطموح، إلى سلطان التفاهات والميوعة والشذوذ، مُتلبِّسًا بحلم الظهور واللمعان (الغبي)، ومتسلحًا بمعارف الأغبياء، وثقافة التافهين وصناع المحتوى الهابط، ومقتديًا برجال الصولات الرقمية، وبعران التواصل الاجتماعي. جيل شغلته همسات أم فلانه الفلانية وتضاريسها السيليكونية، وجنون فلان الفلاني وحركاته البليدة، عن معرفة تاريخه وتراثه وأسرته وأساتذته وعلمائه ومفكِّريه.

فضائح الجيل العراقي الجديد تتوارد علنًا على الألسن بالصدمة والاندهاش. معرفة صفرية لا تقبل القسمةَ والطرح، جيل لا يعرف أبجديةَ العلم والمعرفة والكتب والمعلومات (البسيطة)؛ فلا يعرف تاريخ وطنه ومدنه، ويجهل جغرافية المكان ورموزه الثقافية. مصاب بجدري الجهل والجاهلية، وغيبوبة العلم والمعرفة، فهو مسكون بمخدرات الهاتف الجوال وتفاهاته، ومنهمك بالعيش في صخب حياة الغرائز، والطبخ، والسحر والأبراج، وتقليعات الملابس والرؤوس و...الأحذية المستوردة!

هل هناك فضيحة أكبر مما نراها في الواقع، فمثلًا ما نراه في برامج الفضائيات من فضيحة طلبة الجامعة، وطلبة الدراسات العليا، عندما نرى ونسمع على الهواء ما يقولونه وما يفعلونه! مما يُشعل وهج الصدمة في عقولنا بتلك المعلومات الصفرية عن الحياة المعرفية (البسيطة)!، وعن ضآلة عقولهم الخاوية من كيمياء الشغف والمحبة للمعلومة والفكرة؛ فنكتشف أن الشاعر الجواهري جنرالٌ عسكري، وبالمقابل عبد الكريم قاسم شاعرٌ عراقي! وأن (الخس) يكثر في حدائق المنازل، وأن إسبانيا والمكسيك من البلدان التي تتحدث اللغة الإنكليزية، وأن اسم رعد مشتقٌّ من كلمة سعد، وأن نجيب محفوظ رئيس جمهورية مصر العربية السابق، و(الجبايش) العراقية حيوان مفترس ؟!

هناك أزمة كبيرة، لا يصدقها العقل الظاهر، ولا العقل الباطن، المتمثل بالانحدار المعرفي للجيل الجديد، وابتعاده عن المعارف التي تبني شخصيته، وعداوته لحدائق الجمال، وهوسه بجنون عظمة (اللايك)، وجاذبية الظهور الكاذب، رغم أنه يتمتع بمزايا لم تكن متاحة للأجيال التي سبقتهم؛ فهذه فرص تعليم في أعلى مستوياته، وتلك أدوات معرفية عبر الوسائل الإلكترونية، وهذا انفتاح كبير على الثقافات والمجتمعات، وتلك رفاهية عصرية نادرة، وهذه جودة حياة لا تُقارَن بالماضي.

المشكلة الحقيقية: أننا أمام جيل ما إن فتح عينيه على الحياة إلا وقد وجد نفسه يمتلك هاتفاً محمولاً كرفيقٍ دائم، أعزّ من أقاربه؛ بل وحتى من والديه وأسرته! فبدأ منذ صغره يلعب مع الافتراضيين بألعاب الفيديو التي تجعل منه إنسانًا آليًّا في تفكيره وفي علاقاته الاجتماعية، ثم بدأ يعيش في بيئة تُنشر فيها التفاهات والدجل وصراع البطولات الخائبة، وأمراض العظمة الفردية؛ وليجد نفسَه تائهًا عن أسرته ومدرسته وجامعته ومجتمعه! يعيش فيها مغتربًا، ومصابًا بصدمة الدهشة، ومهووسًا بأحلام اليقظة، وكسولاً في تلقِّي المعرفة، ونائمًا في سرير الخداع والتضليل والأضواء الكاشفة (القاتلة)!

بالمقابل، من الخطأ الكبير أن نرمي قذائف النقد على الجيل الجديد دون أن نعرف الأسباب. فهذا الجيل هو جيل الذكاء التكنولوجي، ومهندس تقنياته البارعة، جيلٌ سبق الأجيال الماضية في معارف التقنيات وبراعة التعامل مع أدواته، جيلٌ طفله يعلم كبار الأجيال السابقة كيفيةَ استخدام (أبجديات) التكنولوجيا، ويضحك ويتندَّر على جده وجدته؛ لأنهما لا يعرفان أسرار المحمول وتقنيته! جيل محير، جعلنا لا نعرف أين نضع الصفر الرياضي، هل عن يمينه أم عن شماله!

العيب الكبير، أن هذا الجيل لم يُحسن استثمارَ التقنية‏ لفعل الخير، وتنشيط الذاكرة بالعلم والمعارف، واستلهام الرموز الإيجابية في هذا المخلوق الغريب المدهش، فحوَّلوه إلى ملعبٍ لتنشيط النزوات المريضة، وبيئةٍ لصراعات التفاهات بأنواعها؛ فقتلوا فيه أمراضهم ونزواتهم، وجعلوا علمه خارج نطاق خدمة عقولهم؛ لذلك جرَّدوه من العلم والخُلُق!

بالحكمة النافعة: ما يحدث للجيل الجديد ليس من اختراعاتهم الشخصية فقط، وإنما هو تضافُر عواملَ متداخلة ومتشابكة في خرائط السياسة والعقل والمجتمع. فالبيئة العراقية ملوَّثة بأفعال النخب السياسية المتخلفة بهوَس النهب والتخريب والتسطيح والفرعنة، وقمعها للأذكياء والمبدعين، وبطالة غارقة في البلاد والعباد، ودولة لا تخصص في موازنتها دعمًا لمشاريع الشباب الثقافية، واحتضان المواهب، وتعليم هشّ لا يُضيف سوى خُزعبلات العلم وفضلات الماضي القديمة. وهناك مجتمع مُكتظٌّ بالأفعال المنكَرة، والغيبيات والطقوس الحزينة، ومهووس بصيد المحرمات، ومغريات الحياة، وغياب الضمائر المستترة، -وغير المستترة-!

كيف نريد من هذا الجيل أن يكون حاضرًا بأناقته المعرفية، وهو يرى معلِّميه وعلماءَه ومثقَّفيه في شوارع المدن تستجدي الغذاءَ والدواء؟! كيف يمكن لنا أن نطالب الجيل الجديد بالقراءة، وهو لم يعِش جوَّ القراءة -لا في المنزل ولا في المدرسة-؟ وكيف يمكن لجيل اليوم الذي نشأ في جوِّ التفاهات، وفي زمن العاهرات وهُن يقُدن جنرالات يُفترَض أنهم يحمون أسوار الوطن، أو يرى البلوكرات والكحاشنيستات والسليكونيات يغزون الحياة العراقية بجنس تسمين الوجه ونفخ الخدود، والنفخ والتنقيح وتكبير الأرداف.

ربما يقول قائل: إن ما يجري هو جزء من إستراتيجية الدول الكبرى للسيطرة على الشعوب، وأبرزُها: إستراتيجية (الإلهاء)، عبر وابلٍ متواصل من نيران الإلهاءات والمعلومات التافهة؛ بجعل الاهتماماتِ موجَّهةً نحو مواضيعَ ليست ذات أهميةٍ حقيقيّة، وجعل "الشعب منشغلًا، دون أن يكون له أي وقت للتفكير، وحتى يعود للضيْعة مع بقيّة الحيوانات"!

سؤال صعب: أن تقرَّر بمقياس الرياضيات والجبر مسؤولية؛ مَن يقتل الشباب؟ نفايات التكنولوجيا، أم نفايات المجتمع والسياسة، أم شمَّاعة المؤامرة الإمبريالية؟ بعد أن نسمع الغرائب والعجائب والتنكيت والتبكيت من الشباب: أحدهم يقول في برنامج (عائلتي تربح) للفنان الكبير جواد الشكرجي: إن (ميادة الحناوي) شاعرة عراقية، وأخرى تقول: إن (شرم الشيخ) مدينة عراقية!، وأننا من قارة إفريقيا، ولسنا من العرق القوقازي!، ولا من نسل إسماعيل -عليه السلام -، ولا من قبيلة جرهم (العربية)!