مشهدان في لبنان يستحقان التوقف امامهما في محاولة لسبر اغوار العقلية اللبنانية في التعاطي مع الهوية الوطنية.
الاول: احتشاد ما يزيد على 22 الفا من اللبنانيين، مساء السبت الماضي، في وسط بيروت لحضور حفل الفنان المصري عمرو دياب الذي استقبله رئيس الوزراء نجيب ميقاتي "تقديرا لمجهوداته" - ولا ادري اي مجهود يقصده دولة الرئيس اذ لم نسمع ان ريع الحفل ذهب الى "شبكات الامان" مع ارتفاع معدل الفقر في لبنان أكثر من ثلاثة أضعاف خلال العقد الماضي إلى 44% من مجموع السكان، وفقا لتقرير جديد للبنك الدولي.
أما المشهد الثاني: احتشاد مئات اللبنانيين امام اطلال منازلهم في الجنوب بعد ليلة وليال من الاعتداءات الاسرائيلية التي لم ترحم البشر ولا الحجر، وكم هو بسيط ومؤلم ومباشر لسان مواطن جنوبي يرثي بستانه الذي اكلته نيران القصف "خلاص راح الحقل.. راحوا الرزقات".
بين هذا المشهد وذاك، سيطل رأي ليقول إن أهل الجنوب يدفعون فاتورة انجرارهم وراء المحور الايراني.
هنا اقدر معاناة الشعوب من تجربة الاحزاب الشمولية واحيي القلة القليلة من الشعب اللبناني المؤمنة بمفهوم السيادة وتعمل بموجبه.
بيد ان الاراء السطحية، الفئوية، السخيفة التي تحركها قناعة المثل اللبناني الشهير "يقلعوا شوكهم بايديهم" لا يمكن ان تساعد في اعادة بناء وطن. فقدر اهل الجنوب ان يكونوا جيران الدم لكيان لا يؤمن الا بلغة الدم.
اليوم حديث عن احتمال اشتعال جبهة الجنوب اللبناني وثمة مخاوف حقيقية من تكرار سيناريو غزة في الجنوب. وليس خافيا ان حفنة قليلة من اللبنانيين تختزن من الغباء ما يجعلها تنتظر الهجوم الاسرائيلي المدمر!
في كلا الحالتين سواء وقعت الحرب ام لم تقع فان العطب الوطني وقع.
منذ تفجر طوفان الاقصى في السابع من اكتوبر الماضي، القناعة واحدة وراسخة، بالنسبة لي على الاقل، وهي ان اسرائيل لن تخوض حربا بالمعنى الحرفي للكلمة ضد حزب الله لاسباب عدة من المفيد تكرارها وابرزها باختصار على الشكل التالي:
- ان الجيش الاسرائيلي منهك بعد قرابة 9 اشهر من الحرب في غزة، وخزينة المجهود الحربي تعاني. وفتح جبهة جديدة في جنوب لبنان بحاجة الى ترتيبات مالية وسياسية ولوجستية معينة. ولن تحصل على ما تريده تل ابيب من واشنطن الغارقة في حمى انتخابات رئاسية، ولا من حلفائها الاوروبيين الذين يبحثون عن مخرج للمأزق الامني والاقتصادي المتمثل في الحرب الروسية الاوكرانية.

- الازمة السياسية التي تعصف بالحكومة الاسرائيلية تشكل عائقا كبيرا، فقرار الحرب يحتاج تكاتفا سياسيا وشعبيا. ثم الى متى تتحكم حكومة نتانياهو في "صبر" ما يزيد على 300 الف اسرائيلي هجروا منازلهم في المناطق المحاذية للبنان وتحولوا الى نازحين في الداخل؟

- عدم التوصل الى هدنة حقيقية توقف حرب غزة، فضلا عن نيران الغضب الجاثمة تحت بساط الفقر والظلم في الضفة الغربية يعني ان اسرائيل امام تحديات وربما مغامرات جديدة.

- ثم وثم ان دخول اسرائيل في حرب مفتوحة في لبنان لن تكون نزهة للجيش الاسرائيلي على الاطلاق رغم فارق التوازن العسكري. الناس ستقاتل الجيش الاسرائيلي في بيوتها ومزارعها وحقولها مهما كانت القوة التدميرية عالية، كما تدرك تل ابيب ان النيران ستطال كل مناطقها ومدنها. وهل تتحمل حكومة تل ابيب تبعات الخسائر البشرية والمعنوية وهي التي قطعت شوطا كبيرا في في مد جسور العلاقات مع دول المنطقة؟

- في البعد الاقليمي، لن تسمح ايران بان تفقد احد اذرعتها التي وصلت من خلالها الى البحر الابيض المتوسط، وهذا يرشح بقوة ان تدخل طهران بشكل او بآخر من اجل حماية درة التاج الايراني في المنطقة. فهل تتحمل اسرائيل المنقسمة سياسيا جبهات في الداخل الفلسطيني وفي الخارج؟

عودة الى الداخل اللبناني. من الواضح ان قيادات سياسية تجيد قراءة المتغيرات بدأت بما يمكن وصفه بـ"اعادة تموضع سياسي" محليا واقليميا. وقيادت اخرى ترفض الخروج من عقدتي التميز والمظلومية! فيما الشعب اللبناني غارق في التخبط. عين على عمرو دياب واخرى على أطلال... المجهول.