كل ما يتم التصريح به من قبل مسؤولي الدولة الصهيونية السياسيين والعسكريين ليس من باب التهويل، وهدفه ليس ردعياً بل هو مقدمة لعمل ستقدم عليه دولة الاحتلال.

طلبت واشنطن مهلة تمتد لأسبوعين في حدها الأدنى ولا تتجاوز نهاية شهر تموز (يوليو) في حدها الأقصى، بهدف التوصل إلى صفقة لتبادل الأسرى، وهو احتمال ضعيف حدوثه، والحديث الآن عن أن الحرب بمعناها التصعيدي قد انتهت، وأنَّ الاحتلال ذاهب إلى المرحلة الثالثة في حربه على قطاع غزة، لذلك يجب أيضاً أن يتم تخفيض التصعيد في جبهة الشمال إلى الحد الأدنى وإطلاق مبادرة دبلوماسية.

دولة الاحتلال تقدر أن إمكانية التوصل إلى توافق عبر مبادرة دبلوماسية غير متوفرة، بسبب طلب حزب الله وإصراره على التبادلية في أي حديث يتعلق بالترتيبات الأمنية على حدود الطرفين، وإسرائيل غير مستعدة لذلك ولن تقبل به، لذلك فمن المرجح أن الدبلوماسية القسرية التي تمارسها إسرائيل الآن عبر التهديد غير كافية، والخيار هو الذهاب لضربة انتقامية محدودة بعدها يأتي الاتفاق المطلوب.

ما زالت دولة الاحتلال تعيش وهم ما قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، وهي تظن أنها تتمتع بقوة الردع، لذلك فهي تنسى ما حدث وتمارس هواياتها القديمة الجديدة، أي التهديد والتدمير الفعلي.

هناك مسألتان هامتان لدى طرفي المعادلة، أي الدولة الصهيونية والمقاومة، هما:

أولاً - دولة الاحتلال الصهيوني ما زالت ترى في القوة المفرطة، وفي إظهار المزيد منها، يؤدي بالضرورة إلى فرض شروطها، وواضح أنها لم تأخذ دروس غزة بعين الاعتبار. الناطق باسم الجيش هاغاري يقول "بعد المعركة في الشمال سنصل لاتفاق إما مع الحكومة اللبنانية وإما مع حزب الله"... أعتقد أنَّ تقديرهم غير صحيح، فالاتفاق هذه المرة سيكون مع كل المحور بما يشمل الشمال والجنوب إذا ما اندلعت نيران الشمال والتي لن تنطفيء إلا بقرار المحور أيضاً.

ثانياً - لدى المقاومة اللبنانية وحزب الله تقديرات بأنَّ دولة الإحتلال لن تغامر بشن حرب في الشمال، خاصة مع ما حدث ويحدث في قطاع غزة حتى الآن، وما تعرض له الجيش من إنهاك، عدا عن أمور أمنية وعسكرية أخرى يحسب لها الطرف الصهيوني حساباً، ويستندان في ذلك أحياناً إلى المحللين العسكريين والسياسيين المتقاعدين الصهاينة، أو للتصريحات والتسريبات الأمريكية.

هذا تقدير، إن وجد وكان صحيحاً، فهو سطحي ولا يحاكي في الحقيقة لا العقلية الصهيونية ولا القدرة التدميرية عبر سلاح الجو والصواريخ، والتي يستند لها الاحتلال، عدا عن نظرة التكبر والإستعلاء والحاجة إلى استعادة الردع في المنطقة ككل، وبالذات أمام الدول العربية المعتدلة، وفي سياق أن دولة الاحتلال قادرة على فرض معادلات تُلجم محور المقاومة وعلى رأسه إيران، إضافة لعدم قراءة الموقف الأميركي قراءة صحيحة، وهو بمجمله يحاكي المتطلب الصهيوني ويعمل على تحقيقه كما فعل في الخداع والتضليل وشراء الوقت.

وفي تقديري الشخصي، فإنَّ الهجوم على المقاومة اللبنانية وفي قلبها حزب الله ليس ببعيد، وكل المبادرات الدبلوماسية الأميركية كانت ولا تزال تهدف إلى منع التصعيد في جبهة الشمال بالتزامن مع التصعيد في الجنوب، بل المحافظة على تصعيد منخفض في الشمال حتى الانتهاء من جبهة الجنوب، وهذا ما نجحت أميركا في تحقيقه حتى الآن، بمعنى أنها نجحت في شراء الوقت الكافي الذي تحتاجه الدولة الصهيونية، وسيثبت ذلك في الأسابيع القادمة. وكما نجحت أنجيلا ميركل ونيكولا ساركوزي في شراء الوقت لتحضير أوكرانيا للحرب لمواجهة روسيا بطلب أميركي عبر اتفاق مينسك عام 2014، نجحت دولة الاحتلال وتحملت تسعة شهور من انتهاك حدودها وتفريغ مستوطني الخطوط الأولى من جبهة الشمال، وحافظت على تصعيد منخفض في الشمال لإتاحة الفرصة لها لتدمير قطاع غزة، وفي نفس الوقت نجح الأميركي في البقاء بعيداً عن التدخل المباشر بقوات على الأرض، والتي كان بالتأكيد سيفعلها لو كان التصعيد في الشمال كما في الجنوب.

متطلبات الأمن الجديدة للدولة الصهيونية لا تعني ردعاً ولا خفضاً للتصعيد ولا منع له، بل أكثر من ذلك بكثير هو اجتثاث أي تهديد على مستوطني الدولة وفقاً لما حدث في السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ويعني ذلك فرض المخطط الأمني في الجنوب اللبناني وفق رؤية أمنية صهيونية، وهذه ستكون البداية إذا ما استطاعت إسرائيل تحقيقها.

أخيراً، انتهى عهد التسويات، وفقاً لما كان عليه الواقع الجيوسياسي قبل السابع من تشرين الأول (أكتوبر)، ونحن الآن في خضم خلق وقائع جديدة سيحددها الميدان، وفقط الميدان، فالطاؤوسية السياسية والعسكرية للدولة العبرية سُحقت، وما فعلته في غزة وما تخطط لفعله في الجنوب اللبناني، لن يُعيد تلك الكرامة التي فقدت، بل سيتعمق فقدها إذا ما ذهبت وفق حسابات خاطئة لتوجيه ضربة تسميها انتقامية للجنوب اللبناني.