لم يسبق أن شهدت فترة في تاريخ المغرب هذا الزخم الهائل من الإصلاحات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية الذي عرفه المغرب في عهد الملك محمد السادس.
هذه الإصلاحات تُذكِّر المؤرخين بالإصلاحات التي قام بها السلطان محمد الثالث (1757-1790) لتحديث الدولة المغربية بعد ثلاثين سنة من الفتنة التي تلت موت المولى إسماعيل سنة 1727. شملت هذه الإصلاحات تطوير الزراعة والتجارة والصناعة، وتقوية الأسطول البحري، وتحديث الجيش، وتعزيز الدفاع ضد الهجمات الأوروبية، وإنشاء المدارس، وإرسال البعثات إلى أوروبا (عبد الله العروي، "مجمل تاريخ المغرب" 1970؛ وسوزان جيلسون ميلر، "تاريخ المغرب الحديث" 2013).

غير أن الإصلاحات التي باشرها الملك محمد السادس كانت ولا تزال قوية ومتوالية وعميقة، حيث غيَّرت وجه المغرب واقتصاده ومؤسساته تغييرا سيكون له الصدى الكبير لدى المؤرخين عبر العقود والقرون المقبلة. أثر هذه الإصلاحات على المغرب والمغاربة بادٍ للعيان في الوقت الحاضر كذلك. مغرب 2024 هو أكثر حرية، وأكثر ضمانا وصونا للحقوق، وأكثر ديمقراطية، واقتصاده أكثر حركية، وقواه العاملة أكثر دينامية، ومقاولاته أكثر قوة وصلابة مما كانت عليه الأمور في 1999. تضاعف الناتج الداخلي الخام والدخل الفردي ثلاث مرات، وتوسعت الطبقة الوسطى وصارت ضعف ما كانت عليه في سنة 2000، وتم تقريبا القضاء على الفقر المطلق، وصارت مساهمة المرأة في الحياة السياسية والاقتصادية متميزة.

كما ارتفعت القدرة التصديرية للاقتصاد المغربي وبرزت مقاولات رائدة في الصناعة والتجارة والخدمات واكتسبت خبرة مهمة على المستوى الوطني والدولي. لهذا أصبحت الكثير من الدول تنظر بحذر وحسبان للتنافسية المتصاعدة للمنتوج المغربي في ميدان السيارات والأسمدة والطيران وصناعة الجلد والصناعات الكيماوية وقطاعات الأسماك والنسيج واللوجستيك وصناعة المواد الغذائية. ومن أهم الإصلاحات السياسية تجربة العدالة الانتقالية، ومدونة المرأة، ودستور 2011.
وضع الملك محمد السادس "هيئة الإنصاف والمصالحة" سنة 2003 للتأسيس لفترة انتقالية تتميز بالمصالحة مع الماضي وجبر الضرر وصون الذاكرة الفردية والجماعية فيما يخص تجاوزات الماضي في ميدان حقوق الإنسان. كانت هذه تجربة فريدة تستهدف الكشف عن حقيقة تجاوزات الماضي، ووضع آليات لتصالح المتضررين خصوصا والمغاربة عموما مع ذواتهم ومع مؤسسات الدولة. وما زالت هذه الآلية المتفردة من العدالة الانتقالية تشكل نموذجا يُحتذى به في أنساق تاريخية وسياسية مختلفة عبر العالم، وتشكل موضوع دراسة في شعب القانون والعدالة وحقوق الإنسان في كثير من الجامعات ومراكز البحث والتفكير.


الملك محمد السادس يعطي إنطلاقة إحدى المشاريع

أما "مدونة المرأة" فكانت ثمرة تحكيم ملكي عيَّن بموجبه الملك محمد السادس عام 2003 لجنة من الحكماء بقيادة السياسي المحنك الراحل محمد بوستة لتقريب وجهات نظر طرفين كانا منغمسين في تقاطب أيديولوجي عمّر لأكثر من سنتين. لإمارة المؤمنين دورٌ محوري في تدبير الحقل الديني، وهو ما اقتضى التدخل من طرف الملك محمد السادس إعمالا لمبدأ أسس له آنذاك، والذي يقول بأنه "لا يُحرِّم ما حلَّل الله ولا يُحلِّل ما حرَّم الله" (وهو نفس المبدأ الذي قال به العاهل المغربي في 2023 حين أوصى بإصلاح المدونة من جديد لملاءمتها مع تطور المجتمع المغربي وتطور المنظومة الحقوقية المغربية في علاقتها مع التحولات التي يعرفها العالم). النتيجة كانت مدونة متطورة وملائمة لمقتضيات العصر والنص الديني في آن واحد. كان إعمال مبدأ الاجتهاد الخلاّق نبراسا للتدخل الملكي آنذاك كما الآن، وهذا ما يميز التجربة المغربية في علاقتها مع الدين الإسلامي والمنظومة الحقوقية ذات الأبعاد القيمية الدولية.

من بين الإصلاحات السياسية الأخرى فتح الحقل السياسي ليشمل معارضي الأمس سواء كانوا من أقصى اليسار أو الحركة الإسلامية، وهو مسلسل بدأ مع الملك الراحل الحسن الثاني، وتم تكريسه بقوة وإرادة في عهد الملك محمد السادس، إضافة إلى تكريس مبدأ التناوب على السلطة، ووضع مفهوم جديد للسلطة، وبلورة تقرير الخمسينية، وتنظيم الانتخابات في وقتها، كل هذه الإصلاحات عبَّدت الطريق للتعامل الذكي مع رياح الربيع العربي الساخنة. المغرب، بقيادة الملك محمد السادس، كان البلد العربي الوحيد الذي تعامل بذكاء مع مطالب شباب الربيع الديمقراطي. النتيجة هو دستور 2011 المتقدم والذي يُعتبر حلقة متقدمة في بناء صرح الدولة المغربية الحديثة.

أحدث دستور 2011، عبر تنصيصه على مبدأ فصل السلطات، وتقوية دور مؤسسة رئيس الحكومة، والإقرار بكونية حقوق الإنسان وسمو المواثيق الدولية على التشريع الوطني، وضرورة تعيين رئيس الحكومة من الحزب المتصدر للانتخابات وغيرها من المبادئ المتقدمة، أحدث ثورة مؤسساتية حقيقية غيَّرت من بنية الحقل السياسي الوطني وكذا من إشعاع المغرب على المستوى الدولي.

الملك محمد السادس في إحدى المناسبات الدينية وبدا خلفه ولي العهد الامير مولاي الحسن والامير مولاي رشيد

أما الإصلاحات الاقتصادية فشملت النظام المالي، والمالية العمومية، والمؤسسات العمومية والخوصصة، والتجارة الخارجية، وسوق الشغل، ومناخ الأعمال (فوربس، "عشرون سنة من الإصلاحات في المغرب" 26 يوليو 2019). تمت تقوية منظومة المراقبة المالية للبنوك ولسوق الرساميل وأسواق العملة، وتنويع المنتجات المالية دون الانغماس في المنتجات الثانوية المعتمدة على تسنيد الرهون العقارية (والتي أدت في أميركا وأوروبا إلى أزمة 2008)، وكذا وضع التشريعات والتشجيعات الضرورية لتحسين الاندماج المالي وتوسيع التعامل البنكي لدى شرائح واسعة من المواطنين. القطب المالي للدار البيضاء تم تأسيسه ليلعب دورا رياديا على مستوى توفير منصة للولوج إلى التمويل والرسملة على المستوى الإفريقي (المصدر نفسه)، كما أن تخفيف شروط الصرف كانت ضرورية لإدماج العملة المغربية تدريجيا في المنظومة الدولية للعملات والأسواق المالية وتسهيل العمليات التجارية بين المغرب والأسواق الخارجية وجلب المستثمرين وتسهيل تنقل الرساميل بالعملات الأجنبية.

على المستوى الجبائي، تم تنظيم ثلاثة مناظرات للإصلاح الجبائي (المصدر نفسه) تمخضت عنها إصلاحات عدة شملت إصدار القانون العام للضرائب، الضريبة على الشركات، والضريبة على القيمة المضافة، على أن يتم إصلاح الضريبة على الدخل ضمن قانون المالية لسنة 2025. تم الإصلاح بناء على مبادئ العدالة الجبائية والنجاعة وتوسيع الوعاء مع إمكانية الخفض التدريجي للضرائب للتخفيف من الضغط الضريبي.

أما على مستوى المالية العمومية، فتم وضع القانون التنظيمي لقانون المالية في 2015 على أن يتم تحيينه وإصلاحه في سنة 2025. إذا أضفنا إلى هذا رقمنة التعاملات البنكية، الجبائية والجمركية، وتقوية الدور الرقابي لبنك المغرب المركزي ولسوق الرساميل، وتطوير دور الخزينة العامة وتحسين تدبير الدَّيْن، وإصلاح الإطار العام لمنظومة المحاسبة العمومية، وإصلاح صندوق المقاصة (صندوق دعم المواد الأساسية)، وكذا إصلاح نظام الصفقات العمومية وآجال الأداءات، وكذا الإطار القانوني للشراكة بين القطاع العام والخاص، نجد أن المغرب في عهد الملك محمد السادس قطع أشواطا كبيرة على درب الإصلاح المالي.

كما أن الاستراتيجيات القطاعية التي تبناها العاهل المغربي في ميادين الفلاحة، الصناعة، السياحة، الصناعة التقليدية، اللوجستيك، الماء، الطاقات المتجددة، المقاولة، الرقمنة، والسكن مكنت البلاد من تنويع الاقتصاد المغربي، وتقوية العرض التصديري المغربي، ودعم تنافسية المقاولات، ونمو الاستثمارات، والاستمرار في خلق الثروة ومناصب الشغل، ودعم بروز أقطاب جهوية تساهم في نمو الاقتصاد المغربي ومناعته أمام المَطبَّات التي ما فتئت تهز أركان الاستقرار الاقتصادي الجيو-إستراتيجي الدولي.

ويبقى أكبر مشروع مهيكل ذي الأبعاد الاقتصادية والاجتماعية والتنموية هو ورش الحماية الاجتماعية، الذي أعلن عنه الملك محمد السادس في عز الخروج من أزمة كوفيد-19. الحماية الاجتماعية هي استثمار في القدرات أكثر منه مقاربة اجتماعية لقضايا الفقر والولوج إلى الخدمات. التغطية الصحية، التحويلات المباشرة، التعويض عن فقدان الشغل، وتعميم التقاعد هي كلها دعائم لتصليب قدرات الطبقات الفقيرة والمتوسطة وتقوية قدرتها الشرائية، ومن شأن ذلك الرفع من نشاطها الاقتصادي مما سيكون له وقع إيجابي على الدينامية الاقتصادية برمتها.

لا يسع المجال هنا لعرض جميع الإصلاحات الأخرى التي عرفها المغرب خلال ربع قرن من اعتلاء الملك محمد

السادس عرش المملكة. المهم هو أن الإصلاح فلسفة ومقاربة، بل ومنهاج تبناه الملك محمد السادس منذ السنة الأولى لتوليه مقاليد الحكم. وما زال نهجا قويما يسير عليه استلهاما للطريقة الأنجع للوصول إلى مغرب العدالة والازدهار والرخاء والتنمية المستدامة.

مغرب 2024 يختلف بشكل جذري عن مغرب 1999: إنه مغرب أقوى وأكثر دينامية وغنى وأكثر صونا لكرامة المواطن. الملك محمد السادس واعٍ بأن هناك الكثير يجب العمل عليه لتحقيق الهدف المنشود ألا وهو ولوج نادي الدول الصاعدة؛ لهذا سهر على وضع نموذج تنموي جديد يستوجب جيلا جديدا من الإصلاحات العميقة.

نجاح المغرب في تحقيق أهداف الإصلاح ليس بالشيء البعيد لأن الملك محمد السادس قاد تجربة الإصلاح منذ خمسة وعشرين سنة، وعوّد المغاربة على أن الطريق الوحيد لبناء المغرب الحديث هو عبر تقويم الاعوجاجات والنظر إلى المستقبل بعزيمة وشجاعة وتبصّر.

* لحسن حداد كاتب، وزير السياحة الأسبق، عضو مجلس المستشارين المغربي