يعيش مرشد النظام الإيراني علي خامنئي في عالم افتراضي مواز أو خاص به، ويتبنى تصورات غريبة عما يدور من حوله، ولا اعتقد أنه يصدق شخصياً ما يتفوه به من توافه الكلم والترهات، وأن الأمر في أحاديثه وتصريحاته وكلماته جميعها لا يعدو أن يكون خطاباً لدغدغة مشاعر مؤيدي النظام في داخل إيران وخارجها، وقد بدا هذا واضحاً للغاية في كلمته التي ألقاها في طهران يوم الجمعة الماضية باللغة العربية، وتوجه بها إلى الأمة الاسلامية وخاصة الشعبين اللبناني والفلسطيني، وهي كلمة كاشفة تعكس فكر المرشد والنخبة الايرانية المتشددة من حوله، وهو الفكر الذي يتسبب في تأزيم الأوضاع بالشرق الأوسط منذ عام 1979، ولعل حديث المرشد عن أن "كل ضربة ضد إسرائيل تخدم المنطقة بأكملها" يجسد تنصيب النظام الإيراني نفسه وصياً على دول المنطقة بحيث يعمم قسرياً رؤيته السلطوية للأوضاع ولاسيما فيما يخص الأمن والاستقرار، وبعد أن ظل لسنوات يردد الفكرة القائلة بأن الوجود العسكري الأمريكي هو السبب الأساسي والوحيد في اضطراب الأوضاع الاقليمية، ولاسيما بالخليج العربي، هاهو يرى أن ضرب دولة إسرائيل يصب في مصلحة دول المنطقة (!) علماً بأن خامنئي ورفاقه يدركون تماماً حجم الجهد الذي يبذلونه لتفادي توجيه أي ضربة لدولة إسرائيل أو الاشتباك المباشر معها والتركيز على خوض الحرب بالوكالة معها.

هذه النظرة الايرانية البلهاء والقاصرة التي تتجاهل المصالح الاستراتيجية لدول المنطقة، وتقفز على رؤاها الخاصة لعلاقاتها الدولية والاقليمية، هي المحرك الأساسي الذي يؤكد أن النظام الايراني لم ولن يتغير وأن كل ما يحدث من تطورات على صعيد رأب الفجوات وتحسن العلاقات مع دول الجوار ليس سوى محاولات لتحييد هذه الدول في لعبة "عض الأصبع" التي يمارسها النظام مع الولايات المتحدة ودولة إسرائيل دون مراعاة لوجهات نظر هذه الدول ومصالحها الاستراتيجية.

في المجمل، لم يأت خطاب خامنئي بجديد يذكر على المستوى الاستراتيجي، فقد جاء خطاباً تعبوياً أيديولوجياً مكرراً بامتياز، حيث دافع عن الهجمة الصاروخية التي نفذتها إيران ضد دولة إسرائيل، معتبراً أنها "قانونية ومشروعة تماماً"، مكرراً الشعارات الخاصة بزوال دولة إسرائيل من الوجود وغيرها.

بالعودة إلى خطاب خامنئي الغوغائي نجد أن الرجل لم يعترف بالاختراقات الاستخباراتية المتتالية التي تسببت بمقتل نصر الله وقيادات الحزب، وهو أمر مفهوم لأن النظام الإيراني لم يعترف من قبل بحدوث قصور أمني في حوادث كبرى توالت خلال الأشهر الأخيرة، مثل مقتل إبراهيم رئيسي والمرتزق إسماعيل هنية، ومن قبلهما علماء وقيادات بارزة للحرس الثوري، كما أن مجرد الاشارة إلى هذه الكوارث الأمنية تمثل إدانة للحرس الثوري الإيراني الذي يشرف بشكل مباشر على جميع خطط وأعمال حزب الله اللبناني والحوثيين.

خطاب خامنئي استهدف بالأساس ـ من وجهة نظري ـ محاولة يائسة لتنصيب نفسه زعيماً للأمة الإسلامية، وهو توجه يلاحظ أنه يتطور ويتنامى تدريجياً في السياسة الخارجية الإيرانية خلال الفترة الأخيرة، ويركز عليه الخطاب السياسي لجميع المسؤولين الإيرانيين، حيث يتم التركيز على مفاهيم وعبارات مثل وحدة الأمة وفكرة المقاومة والسعي لملء فراغ القيادة الذي لا يمكن انكاره في العالمين العربي والإسلامي، وهو فراغ قائم لأسباب واعتبارات عديدة لسنا بصدد مناقشتها في هذا المقام.

يمارس المرشد الإيراني أيضاً لعبة خلط الأوراق حين يحاول المزج بين الشعبين الفلسطيني واللبناني والجماعات الإرهابية الموالية للنظام الإيراني، ويعتبر الأخيرة ممثلة للشعبين وأنه "لا يحق لأحد الاعتراض على مقاومتهم"، معتبرًا أنهم يقومون بواجبهم في الدفاع عن الشعبين، وهذه لعبة مكشوفة لأنها تخلط الأوراق على الصعد الوطنية وتركز على دغدغة مشاعر الشعبين الفلسطيني واللبناني، ووضع الجميع في مأزق أخلاقي صعب إن حاولوا التعبير عن مواقفهم الرافضة لممارسات الميلشيات الإرهابية التي تورطهم في صراعات دامية تبدو نتائجها واضحة للعيان في كل من قطاع غزة وجنوب لبنان وضواحي العاصمة بيروت.

تبدو محاولة خامنئي البائسة لتنصيب نفسها زعيماً للأمة الإسلامية في خطابه أيضاً حين أكد على أن اعداء الامة الاسلامية هم اعداء فلسطين ولبنان والعراق ومصر وسورية واليمن، وأنه "إذا تعاون المسلمون فإن العزة الإلهية ستكون سندا لهم، موضحا بأن الولاية تعني الترابط والثبات بين المسلمين"، وهي محاولة سوقية رخيصة واضحة ليست فقط لتوظيف الأحداث من أجل كسب نقاط شعبية في العالم الإسلامي، بل أيضاً لتحويل الصراع الدائر بين إيران وأذرعها الميلشياوية الإرهابية من ناحية ودولة إسرائيل من ناحية ثانية إلى صراع ديني عالمي واسع، حيث ركز في خطابه بشكل ملموس على الامة الإسلامية موجها نصائحه للشعوب بـ"فتح عيونها جيداً وتعزيز الوعي"، وغير ذلك.

قلنا مراراً أن لإيران وأذرعها الميلشياوية الإرهابية حسابات النصر والهزيمة الخاصة بهم، وهي ليست كشأنها من الحسابات التي يجريها الاستراتيجيون في المواجهة والصراعات العسكرية، فعلي سبيل المثال يبقى البقاء على قيد الحياة سواء للميلشيا الإرهابية أو قادتها رمزاً للتحدي والانتصار بغض النظر عن الخسائر البشرية والمادية مهما كانت فداحتها وضخامتها، ومع ذلك فإن اسقاط هذه الحسابات على حالة هذه الميلشيات الآن لا توحي بأي مؤشر يمكن توظيفه في الحديث عن نصر وهمي، فقد أغتيل رجل إيران الأول في الشرق الأوسط حسن نصر الله، هو ومعظم قيادات حزب الله الإرهابيين كما تلقى الحزب صفعة هائلة بتعرضه لعملية اختراق استخباراتية هائلة تسببت في القضاء على أكثر من 3 آلاف من عناصره عبر تفجير متزامن لأجهزة "البيجر"، في عملية كشفت عن مدى ضحالة المستوى الأمني والحمائي والاستخباري لدى الحزب!

سعي خامنئي بكل وقاحة لتحشيد الرأي العام الإسلامي وراء أهداف إيران هي محاولة مكشوفة لتعزيز أوراق تفاوضية وتعظيم الضغوط على الآخر ومحاولة لإحراج الأنظمة والحكومات العربية والإسلامية أمام شعوبها او على الأقل النفخ في نار الجدل المحتدم على منصات التواصل الاجتماعي حول تأييد/ رفض الهجمات الصاروخية التي تنفذها إيران ضد ودولة إسرائيل، ولكن هذه المحاولات لا نصيب لها من النجاح لسبب أساسي هو أن إيران نفسها قد باتت مكشوفة وعارية للدرجة التي يصعب معها اقناع أي طفل صغير بأنها تقاوم من أجل إشعال نار الثورات وتحرير فلسطين او القدس.