في ظل العدوان الإسرائيلي على لبنان، يتساءل البعض، وخصوصًا بعض اللبنانيين، عن دور دول الخليج المعتاد في دعم لبنان للضغط على الولايات المتحدة لممارسة ضغط أكبر لإيقاف الحرب العدوانية الإسرائيلية. والحقيقة أن هذا التساؤل يبدو للوهلة الأولى في محله، إذ اعتادت دول الخليج العربية، تاريخيًا، على دبلوماسية تقليدية داعمة للبنان. لكن التغيرات التي طرأت على المشهدين اللبناني والخليجي، ومن ثم الاستراتيجية الأميركية، غيرت كثيرًا من المحددات التي وجهت السياسات الخليجية نحو لبنان.

صحيح أنَّ الدول الخليجية، وفي مقدمتها السعودية، تلعب دورًا فعالًا وحيويًا في لبنان منذ السبعينيَّات وعلى مدى نصف قرن. وكان اتفاق الطائف الذي عقد في المملكة العربية السعودية في 30 أيلول (سبتمبر) 1989 وأرسى الدستور اللبناني الحديث قد شكل قمة الرعاية الخليجية السعودية، ومثل حدثاً مهمًا في تاريخ لبنان السياسي، أنهى حربًا أهلية استمرت 14 عامًا، حيث تمكنت المملكة من فتح قنوات الحوار مع الشخصيات الرسمية وغير الرسمية، فكان منعطفًا كبيرًا ورئيسيًا في هذا الاتفاق لما تتمتع به من مكانة سياسية عربية وإقليمية ودولية.

وقبل ذلك، سعت كل من السعودية والكويت منذ بداية الحرب الأهلية في لبنان عام 1975 بكل جهودهما وثقلهما السياسي والاقتصادي من أجل إيجاد حل لهذه الحرب التي كانت لها أسبابها الداخلية والخارجية، وقد عمل البلدان سوية من أجل تحقيق ذلك على المستويين الداخلي، وتمثل في محاولة تقريب وجهات النظر بين الأطراف المحلية المتصارعة، والمستوى الخارجي بين مصر وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية التي كان لها تأثير كبير على الداخل اللبناني. وقد سعت المملكة والكويت في هذه المرحلة المبكرة من الحرب الأهلية في لبنان إلى تعريب الأزمة اللبنانية من خلال مؤتمر الرياض ومؤتمر القاهرة اللذين عقدا في شهر تشرين الأول (أكتوبر) من عام 1976، وتمخض عنهما إنشاء قوات الردع العربية.

وإثر العدوان الإسرائيلي على جنوب لبنان في المدة ما بين 15 و19 آذار (مارس) 1978، أعربت دول الخليج عن استنكارها وتنديدها الشديدين لذلك العدوان، ومارست تلك الدول موقفًا سياسيًا واحدًا تمثل بالضغط على الدول الكبرى وعلى وجه الخصوص الولايات المتحدة الأميركية من أجل إجبار إسرائيل على وقف العدوان وسحب قواتها من الأراضي اللبنانية، وتجسد الموقف الخليجي كذلك بتقديم الدعم المالي والمساعدات الغذائية والطبية إلى الشعبين اللبناني والفلسطيني. والأمر نفسه من الضغوطات مورس أثناء الغزو الإسرائيلي وحصار بيروت، حيث قام الملك فهد بجهود دبلوماسية مع الرئيس الأميركي رونالد ريغان لحماية القيادة الفلسطينية والانسحاب الإسرائيلي من بيروت.

وشهدت السياسة اللبنانية عام 2005 عددًا من القضايا السياسية التي انعكست سلبًا على الاستقرار في لبنان، وتمثلت تلك القضايا بظاهرة تأثير حادثة اغتيال رئيس الوزراء رفيق الحريري، إذ رافقتها اتهامات أدت إلى زيادة التركيز على قضية الاغتيالات والذي كان أكثرها تأثيرًا. ونظرًا لأهمية لبنان بالنسبة إلى السعودية من جهة وخطورة تلك القضايا على الداخل اللبناني، جاء الاهتمام السعودي متمثلًا بالتصريحات والمواقف الرسمية والاتصالات المستمرة لتهدئة الأطراف السياسية اللبنانية، فضلًا عن إيجاد الحلول اللازمة لإنقاذ لبنان من العودة إلى الحرب الأهلية.

وحظيت التطورات السياسية التي شهدها لبنان في الفترة الممتدة بين 2006 و2008، والمتمثلة بالحرب الإسرائيلية على لبنان والأزمة الحكومة اللبنانية فضلاً عن أزمة الرئاسة في لبنان، باهتمام خليجي، إذ قامت بإصدار مجموعة من البيانات وأدلت بتصريحات عبرت خلالها عن تلك التطورات، وقامت بمشاورات عدة شملت أوساطاً لبنانية وعربية ودولية بغية الوصول إلى الحلول اللازمة لتلك التطورات بين الفرقاء السياسيين، إلا إن تطور الأحداث في لبنان في أيار (مايو) عام 2008 دفعت المملكة إلى الضغط على الدول الإقليمية المؤثرة على الساحة السياسية اللبنانية، فقامت المملكة في السابع من أيار (مايو) عام 2008 باستدعاء السفير السعودي في طهران للتشاور، وصرح وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل أن دعوة السفير مربوطة بتحسن الأوضاع الداخلية في لبنان، ومن هنا يمكن القول إنَّ السعودية كانت تحاول التأثير على إيران بالضغط على حزب الله بغية وقف ضغوطاته الامنية والسياسية، وفي الوقت نفسه بدأت التصريحات السعودية تتصاعد وتتخذ منحى جديداً في أعقاب دخول بعض قوى المعارضة الموالية لحزب الله بيروت الغربية، وحذرت المملكة من خطورة عدم التراجع عن ممارساته في تصعيد الأزمة. وخلال زيارة وزير خارجيتها إلى إيران، نبهت من أنه إذا أيدت إيران الانقلاب في لبنان فإنه سيؤثر سلباً في علاقاتها مع الدول العربية، وفي المقابل جاء رد الرئيس الإيراني عنيفاً على تلك التصريحات، معتبراً أن التصريحات لا تعبر عن توجهات العاهل السعودي بالتنسيق مع إيران بخصوص الشأن اللبناني.

إنَّ دول الخليج، وخاصة المملكة العربية السعودية، كانت حاضرة في كل التطورات السياسية التي شهدها لبنان منذ بداية الحرب الاهلية بالسبعينات وحتى العقد الثاني من الألفية الجديدة، وحاولت من خلال تصريحاتها وبياناتها لاسيما من خلال وزارة خارجيتها أن تعبر عن مواقفها تجاه تلك التطورات، فضلاً عن قيامها بالمشاورات والمساعي الحميدة التي كانت تبغي من ورائها الحفاظ على وحدة لبنان وسيادته وتماسك شعبه.

فعندما تعرض لبنان للعدوان الإسرائيلي في تموز (يوليو) عام 2006، قامت السعودية بإدانة العدوان، وفي الوقت نفسه اعتبرت أنَّ العملية التي قام بها حزب الله غير مسؤولة ووصفتها بالمغامرة، وحاولت تكثيف اتصالاتها بالقادة العرب بغية إيجاد حل للأزمة اللبنانية، كما طالبت الدول العظمى بالضغط على إسرائيل من أجل إيقاف عملياتها العسكرية، ولم تكتف المملكة بذلك بل قامت بتقديم الدعم المادي والمعنوي للشعب اللبناني وطالبت المجتمع الدولي بالتكاتف من أجل رفع الضرر الذي لحق بلبنان نتيجة الحرب.

ويؤكد السفير السعودي السابق في لبنان ا/ علي عسيري أنَّ الرياض كانت ولا تزال حريصة على دعم لبنان في كل مراحله، مشيراً إلى أن المملكة لم تميز يوماً بين اللبنانيين بناءً على طائفتهم أو انتماءاتهم السياسية. وقال "إنَّ المملكة ساعدت في إعادة إعمار لبنان بعد حرب 2006، وبنت 36 ألف منزل في الجنوب، معظمها لعائلات من الطائفة الشيعية. حيث لا تنظر المملكة إلى لبنان من منظور طائفي، بل تراه وطناً وشعباً واحداً".

كما أطلقت المملكة موقفاً إيجابياً من أزمة الحكومة اللبنانية التي شهدها لبنان عام 2007، إذ سارعت من خلال سفارتها إلى تقريب وجهات النظر، ودعت الشعب اللبناني إلى الوحدة وعدم فسح المجال أمام التدخل الإقليمي، وفي الوقت نفسه شرعت المملكة بعقد مجموعة من المشاورات مع الرئيس اللبناني ورئيس الحكومة لحل الأزمة وتقريب وجهة نظر الفرقاء السياسيين في لبنان. وبالنسبة لأزمة الرئاسة اللبنانية عام 2008، فقد أكدت المملكة على ضرورة إجراء انتخاب رئيس الجمهورية بعيداً عن النفوذ الإقليمي المتمثل بسوريا وإيران، كما عدت المملكة قراري الحكومة اللبنانية بخصوص عزل مدير أمن المطار وشبكة الاتصالات لا يبرر قيام حزب الله بأعمال العنف في الداخل اللبناني وعندما اشتدت الأزمة بين المعارضة والموالاة قامت المملكة بالتوسط بين الفرقاء لإيجاد حلول توافقية لإطفاء الأزمة وحاولت الضغط على إيران بوصفها الدولة المؤثرة على بعض أطراف الأزمة.

وقد ختمت الجهود الخليجية لهذه الأزمة بانعقاد مؤتمر الدوحة الذي أرسى فيتو حزب الله وحلفاؤه على قرارات الحكومة بإقرار الثلث المعطل مع انتخاب قائد الجيش ميشال سليمان رئيساً للبلاد. ومن يومها خطف الحزب قرار الحكومة اللبنانية.

وفي ظل نذر تفجر حرب اهلية عشية اصدار المحكمة الدولية لاغتيال الرئيس رفيق الحريري قرارها المدين لأعضاء من حزب الله زار الملك عبدالله بن عبدالعزيز مرفوقاً بالرئيس السوري بشار الاسد بيروت في صيف 2010 لتخفيف التوترات. وكان قد زار لبنان في عام 2002 عندما أطلق كولي للعهد خطة سلام لتنفيذ حل الدولتين في فلسطين في قمة بيروت العربية، وهاتان زيارتان نادرتان للقيادة السعودية إلى لبنان.

النأي بالنفس
لطالما طالبت دول الخليج العربية بيروت بالنأي بالنفس عن سياسة المحاور وتحييد لبنان عن صراعات المنطقة. لكن هذه المحاولات باءت جميعها بالفشل، واصبحت البلاد جزءاً من محور المقاومة الذي تقوده إيران في المنطقة التي تبدو ضد إسرائيل ولكنها لا توفر الدول العربية المعتدلة أيضاً وخاصة الخليجية منها. حيث انخرط الحزب في عمليات إرهابية بالكويت والبحرين، وكذلك ضمن الحرب الحوثية ضد السعودية والخليج. وأصبح جزء من الأراضي اللبنانية وخاصة البقاع مراكز تدريب للعناصر الإرهابية المزعزعة للأمن الخليجي. وختم الحزب نشاطاته المعادية بتصدير المخدرات إلى دول الخليج في محاولة لإسقاط هذه المجتمعات من معادلة القوة الإقليمية. ولم تعد مفاهيم النأي بالنفس بعد ذلك مقبولة في الطرح السياسي العام. وتوقفت الحكومة اللبنانية عن التشدق بها.

ومن ظلام العدوان الإسرائيلي الشامل على لبنان في (أيلول) سبتمبر ولد من جديد السؤال عن دور دول الخليج ذات الدور الرائد في لبنان. واعاد البعض بوصلة النأي بالنفس من استحقاق سياسي لبناني إلى صفة للموقف الخليجي الذي اعتبره البعض غير متفاعلاً أو ليس تقليدياً.

ليس من الموضوعي إخفاء التوترات بين لبنان والدول الخليجية منذ سيطرة حزب الله على الحكومة، وتمثلت أقوى درجة للتوتر في تصريحات رسمية لوزيري الخارجية والإعلام في عهد الرئيس اللبناني السابق ميشال عون، أي شربل وهبة وجورج قرداحي في عام 2021، ومنذ ذلك الحين اتسمت العلاقات بين الجانبين بالبرود بل وأحياناً بالقطيعة، مثل سحب السفراء أو تحذير المواطنين من السفر.

في مثل تلك الأجواء، لا يمكن لأحد أن يسأل عن تدخل خليجي! لكنه رغم ما حصل فقد وصل على شكل جسور جوية إغاثية من ثلاث دول خليجية على الأقل هي السعودية وقطر والإمارات. وفي المجال السياسي اقتصرت المواقف على إدانات العدوان الاسرائيلي والتحذير من التصعيد، ولم ترتق لحد المبادرة السياسية.

ويمكن قراءة هذا الموقف الخليجي من خلال ثلاثة ابعاد:

أولاً: سبب لبناني: المواقف الخليجية المتحفظة تجاه حكومة يديرها حزب الله، متهمة بالفساد السياسي والمالي، ولم تحقق أي درجة مقبولة من الإصلاحات السياسية المطلوبة. برعاية منظومة سياسية متخادمة مع الحزب وعاجزة حتى عن انتخاب رئيس للبلاد.

ثانياً: الضعف الذي يضرب العلاقات الخليجية مع حكومة الرئيس الديمقراطي جو بايدن. بسبب مواقفه المتخاذلة في اليمن وتجاه أمن الخليج، إضافةً إلى ضعف التأثير الأمريكي على الحكومة الاسرائيلية المتشددة في تل أبيب، مما يضعف المبادرات السياسية.

ثالثاً: إعادة هيكلة السياسة الخارجية السعودية التي تركز على المصالح الوطنية السعودية، وعلى تنفيذ المشروع الاصلاحي السعودي اقتصادياً واجتماعياً، وتخفيف التوترات عبر دبلوماسية الحياد الإيجابي وتجنب الأزمات والاستقطاب السياسي.

لذا، فانه يمكن التوقع بأنَّ دول الخليج التي تمر بمشروعات هيكلية إصلاحية انتقالية لتجنب إدمان النفط وتنويع مصادر الدخل وبلورة سياسات محايدة والاعتماد على شراكات دولية متنوعة راغبة بالحلول الذاتية وتجنب الانهماك بالأزمات السياسية أو الأمنية وهي تأمل أن تأتي الحلول أولاً من داخل المجتمعات المحلية، وهي رغم الضغط الأميركي لم تتزحزح قيد أنملة عن موقفها المحايد في الحرب الأوكرانية. وفي لبنان هي على قناعة بأنَّ قيامة هذا البلد لن تقوم إذا لم يُصر إلى إصلاح سياسي واقتصادي حقيقي يعدل دور لبنان الحضاري في المنطقة ويجنبه أن تكون ساحة لحروب مصالح الآخرين.