تعد كرة القدم إحدى أبرز أدوات الغزو الناعم التي يوظفها الغرب لتوطيد دعائم هيمنته. وانطلاقاً من الشعبية الجارفة لهذه اللعبة التي تعتبر الأكثر شعبية في العالم، اعتاد الغرب استخدامها من أجل دمج الدول والشعوب في منظومته، بشكل يضمن إعادة إنتاج هيمنته وتوسعها جيوسياسياً. بيد أن الغرب في السنوات الأخيرة كشف عن جانب آخر في كيفية استخدام الأدوات الناعمة، وخاصة كرة القدم، لخرق سيادة الدول، وتأليب الشعوب ضد حكوماتها.

وهذا ما يمكن تبينه في التطورات الحاصلة في السنوات الأخيرة، والتي يعتزم الغرب من خلالها تغيير الواقع الاستراتيجي في الشرق الأوسط، حسب تعبير رئيس حكومة اليمين المتطرف الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، وكذلك من أجل تقويض مساعي روسيا والصين لإنتاج نظام عالمي جديد متعدد الأقطاب، يكون أكثر عدالة وانصافاً للدول النامية.

عزل روسيا
حينما كان الغرب يخطب ود موسكو، بالتوازي مع تمدد حلف شمال الأطلسي "الناتو" الجيوسياسي نحو الأراضي الروسية لخنقها وإضعافها، استخدم أدواته الناعمة من أجل إدماج روسيا في منظومته، ومنها كرة القدم، حيث دعم بقوة حصولها على حق استضافة كأس العالم عام 2018.

لكن الإدارة الروسية كانت تعي أهداف الغزل الغربي "المسموم"، ولطالما طالبت القوى الغربية المؤثرة وعلى رأسها أميركا، عبر نقاشات واجتماعات لا عد لها، بإيقاف تمدد الناتو ونشر أسلحته في الفضاء الجيوسياسي الروسي، وأكدت أنها لن تقف مكتوفة الأيدي إزاء التهديدات التي تعرض الأمن القومي الروسي للخطر. فكانت النتيجة أن انفجر الصراع في أوكرانيا.

حينذاك، سارع الغرب الى استخدام أدواته الناعمة بشكل معكوس، بهدف تشديد الضغوط على روسيا وصولاً الى عزلها عن العالم. خلال أسابيع قليلة فقط، استبعد الكتاب الروس والإنتاج الأدبي الروسي التاريخي من المكتبات الأوروبية. وجرى استبعاد روسيا من كل الأنشطة الرياضية والثقافية والفنية أيضاً. كما سارع الاتحاد الدولي لكرة القدم، والذي يعد المنظومة الأكثر نفوذاً وتأثيراً في العالم، بما يتجاوز نفوذ الأمم المتحدة، الى تعليق عضوية روسيا، ومنع فرقها الوطنية وأنديتها من المشاركة في المسابقات القارية. وكذلك الحال بالنسبة الى بيلاروسيا، بسبب وقوف مينسك الى جانب موسكو.

في موازاة فرض إجراءات دعم أوكرانيا في كل البطولات الوطنية والقارية، وخصوصاً تلك التي تحظى بنسب مشاهدات هائلة، حيث فرضت إدارة الدوري الإنجليزي لكرة القدم على كل القنوات الناقلة وضع علم أوكرانيا على الشاشة أثناء نقل المباريات. وكذلك فعل الاتحاد الأوروبي لكرة القدم في بطولة دوري أبطال أوروبا، التي تتفوق في أهميتها مالياً وتسويقياً وجماهيرياً على بطولة كأس العالم.

خطوة ذكية
من خلال كرة القدم وسائر الأدوات الناعمة الأخرى، سعى الغرب الى تأليب الشعب الروسي، ولا سيما الرياضيين والمثقفين، ضد حكومة بلادهم، حيث استخدمت مؤسسات وهيئات كرة القدم، وعلى رأسها الاتحاد الدولي للعبة "فيفا" الذريعة نفسها التي يروجها الغرب حول الصراع في أوكرانيا، واعتبرت أن روسيا خرقت منظومة القيم والقوانين الدولية.

إلا أنَّ الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، قام بخطوة ذكية أسهمت في دحض مزاعم الغرب حول احترام حقوق الإنسان واللوائح القانونية المعتمدة، وكيفية استخدام كرة القدم ضمن أدوات الغزو الناعم. بعدما تقدم الى "الفيفا" في أيار (مايو) 2024 بدعوى مزدوجة ضد إسرائيل، مطالباً بفرض عقوبات عليها، وصولاً الى تعليق عضويتها في الـ"فيفا"،

واستند الاتحاد الفلسطيني الى النظام الأساسي الذي تنص مادته الرابعة على أنَّ "التمييز من أي نوع ضد شخص عادي أو مجموعة من الأشخاص يمكن للاتحاد العالمي لكرة القدم أن يعاقب عليه بالإيقاف أو الطرد". واعتبر أن إسرائيل تنفذ عمليات "إبادة جماعية" في قطاع غزة، تسببت في قتل لاعبين فلسطينيين وحكام، بالإضافة الى تدمير منشآت رياضية.

كذلك أشارت الشكوى الفلسطينية المزدوجة الى انتهاك إسرائيل للقوانين الدولية، من خلال السماح لأندية تتخذ من المستوطنات المقامة بشكل غير قانوني في الأراضي الفلسطينية مقراً لها، بالمشاركة في الدوري الإسرائيلي لكرة القدم.

التوظيف السياسي الفاقع
ليست إسرائيل من الدول البارزة في مجال كرة القدم، نظراً لعدم تعويلها على الرياضة بشكل عام. وبالتالي فإنَّ الفرصة كانت متاحة أمام الغرب، والمؤسسات التي تدور في فلكه وتتولى إدارة كرة القدم وسائر الرياضات، لفرض عقوبات على إسرائيل من أجل الحفاظ على صورتها التي تروج لها حول احترامها للقوانين الدولية وحقوق الإنسان.

ومع ذلك، فقد تمنع الاتحاد الدولي لكرة القدم عن اتخاذ عقوبات بحق إسرائيل، ولجأ الى تمييع قضية الشكوى الفلسطينية، من خلال إغراقها في المسارات البيروقراطية، وسط توقعات الاتحاد الفلسطيني لكرة القدم، وكذلك مراقبين ومحللين، عدم اتخاذ "فيفا" أي إجراء بحق إسرائيل. في الوقت الذي لا يزال قرار استبعاد روسيا وبيلاروسيا من أسرة كرة القدم سارياً حتى يومنا هذا. مع الإشارة الى أن قوانين كرة القدم تحرم التدخلات السياسية تحت طائلة الاستبعاد التام من المنظومة الكروية، كما حصل مع أكثر من دولة.

ازدواجية المعايير التي يتبعها الاتحاد الدولي لكرة القدم حيال روسيا وإسرائيل، تنبع من كونه إحدى مؤسسات المنظومة الغربية التي تتولى إدارة أدواته الناعمة، وتكشف حجم التوظيف السياسي لهذه الأدوات من أجل تعزيز هيمنة المنظومة الغربية، وتأليب الرأي العام ضد القوى التي تسعى لتقويض هذه الهيمنة. إحدى أوجه التأليب تتمثل بالدعاية السلبية التي تمارس ضد الدوي السعودي لكرة القدم الذي نجح باجتذاب قاعدة جماهيرية واسعة بعد تعاقد أنديته مع عدد من أبرز نجوم الكرة في العالم. بالإضافة الى الدعاية السلبية المركزة ضد المستثمرين الروس والعرب في عالم كرة القدم وأنديته العريقة.