إنّ الإرباك والارتباك في العلاقات الدولية حيال الخرق الواضح والمتكرر للقوانين الدولية خلال "المقتلة" المستمرَّة منذ أكثر من عام في غزّة، لَيعكس بعمق حجم الفوضى العالميّة في القضايا الإنسانية المحقة، وعجز دول الفيتو الخمس في مجلس الأمن يشبه التواطؤ على عدم اتخاذ قرارات حاسمة لإيقاف القتال، كما يعكس رغبة القوى الكبرى الضمنية في إبقاء رقعة الحرب حاضرة في لعبة السيطرة بين الأمم، وأن الأمم المتحدة لم تعد قادرة على فرض نسختها من النظام بعد الآن.

في المقابل، يرى المحللون أن الحرب ستغيّر وجه العالم في قادم الأيام، وتفرض خريطة مغايرة للقوى الاستراتيجية العالميّة، في ظلّ التشابك والاستنفار في أكثر من بقعة جغرافيّة في العالم التي تبدو هي الواجهات في معارك السيطرة والنفوذ، كالحالة المتوترة بين الصين وتايوان وانعكاساتها على الشرق الأقصى بأكمله، إضافة للحرب الروسية الأوكرانية التي تضع أمن أوروبا بأسرها على صفيح ساخن، علاوة على حالة الانتظار الإيرانية لمآلات التهديدات الإسرائيلية لضربة "مدروسة" مع الخوف من الانجرار إلى حرب شاملة. لذلك، فإنّ حالة الترقب الحذر والتحرك الدقيق هما ما يخيّم على حركة الدبلوماسية النشطة، حيث تسعى كل دولة إلى حدوث نقطة تحوّل يمكن أن تكون لصالحها. والمخاوف الدوليّة ليست حيال إيران فقط، بل من تداعيات تؤدي إلى زعزعة الاستقرار في منطقة بحر اليابان وشبه الجزيرة الكورية، لأن التورط في أي عمل عسكري من شأنه أن يؤدي إلى دمار شامل.

أمَّا الصورة الأفضح لتلك التفاعلات ولحروب الكبار، فتتظّهر في المسرح الأكثر دمويّة، حيث تمسك إسرائيل "النووية" برأس الحربة في حربٍ ضروس (يدفع ثمنها الشعوب المُحاصرة والأكثر فقرًا لا سيما في غزة، وكذلك في لبنان وسوريا والعراق واليمن...). هذه الدول تبدو وكأنها أشباه دول مُفَكَّكة، فشلت خلال عقدين في بناء وحدة وطنية متماسكة وضحية انتشار الفساد والمليشيات، الأمر الذي حولّها إلى كيانات طائفية في نظام عالمي غير واضح المعالم.

وفيما يدفع المدنيون العزل ثمنًا باهظًا لصراع الإرادات الإقليمية والدولية، تعلن إسرائيل، بعد أن تنصلت من وعود "حلّ الدولتين"، بشكل واضح وصريح أنها تريد الأرض (خالية من سكانها وأصحابها الأصليين) لبناء مستوطنات يسكنها (المحتلون الجدد). وهي إذ ذاك تبحث عن الذرائع الملائمة لتطويع الضفة الغربية بالإضافة إلى غزة، فيما يعلن جزء كبير من الصهاينة ضرورة تحقيق النبوءات التوراتية الواضحة التي تقضي بتوسيع جغرافيا الدولة اليهودية تمهيدًا لظهور "المسيّا" أو المسيح المنتظر، مما يجعل دول المنطقة برمتها في دائرة الخطر، بما في ذلك الدول التي لديها معاهدات سلام واتفاقات، كمصر والأردن. وفيما تسعى تلك الدول للقبول بأي تسويات تفاديًا لأي مواجهة مدمرة، تزداد حرارة الغليان الداخلي للشعوب، لا سيما جيل الشباب الذي ضاق ذرعًا بتمسك دبلوماسية الحكومات بمعايير مزدوجة صارخة فيما يتعلق بحقوق الإنسان.

إذن، ربما سيشهد العالم تموضعات جديدة وتحالفات لرسم خرائط جديدة. وبطبيعة الحال، فإن العلاقات الدولية تحكمها المصالح، وتنظر إلى "القوة" باعتبارها العامل المركزي في السياسة القومية. فهي أشبه ما تكون بالمركز العصبي في جسم الإنسان، حيث يمكن عن طريق القوة دفع التهديدات، وحماية المكاسب، وإطلاق الجهود، وتحقيق الأغراض.

وعملية "توازن القوى" هي تلك اللحظة التي تشير إلى أن قوة الأطراف قد وصلت إلى حدها الأقصى، وهو ما يطلق عليه "الردع المتبادل"، حيث تبدو الخسائر المحققة تفوق المكاسب المرجوة. عندها تلجأ الدول إلى المزج بين القوة والدبلوماسية من خلال التفاوض للوصول إلى تسوية.

في المشهد الحالي، نجد أن هناك محورين، أحدهما يستعمل القوة دون دبلوماسية، والآخر يطل على العالم من خلال دبلوماسية لا تستخدم فيها حتى قوة الكلمة.

فاستعمال القوة كوسيلة وحيدة لممارسة السياسة هو نوع من التهور وقد يؤدي إلى فشل ذريع في تحويل الانتصارات أو الهزائم إلى واقع سياسي. فعلى سبيل المثال، فإن سياسة إدارة المحافظين الأميركية انتهجت خط القوة المباشرة في العراق في ظل فرض إملاءات صارمة على الجوار العراقي، غير أن ما حُقّق عسكريًّا فشل فشلًا ذريعًا في تحويل الواقع العسكري إلى واقع سياسي. وهو درس لم تتعظ منه إسرائيل في حربها الحالية، التي تبدو بحسب موازين القوى حربًا من طرف واحد، حيث يعتقد اليمين المتطرف في إسرائيل أنه بقوة النار سيحقق أهدافه المعلنة، إلا أنه إلى الآن لم يستطع ترجمة نتائج تلك "الانتصارات" المزعومة إلى واقع سياسي، بل أدّى إلى مزيد من التصدع في المجتمع الإسرائيلي وازدياد الشروخ الداخلية فيه.

إقرأ أيضاً: هل استطاعت هاريس كسب المستقلين لصالحها؟

بالمقابل، فإن استخدام الدبلوماسية دون ارتباط وثيق بالقوة عمل عقيم ويدخل في إطار "الرومانسية"، وهو مجال لا يصلح للصراع الذي لا يعرف إلا الواقعية. ولعل حال الدبلوماسية العربيّة وحال الجامعة العربية خير دليل على ذلك، لأن الاعتماد على الدبلوماسية كوسيلة وحيدة لممارسة السياسة دون استخدام وسائل ضغط فعلية أدى إلى عقم الحلول، كما ولّد نفورًا شعبيًا حادًا تجاه الأنظمة الحاكمة. فالشعوب العربية ترزح تحت فشلين ذريعين: فشل مشروع الدول الإقليمية وفشل الدبلوماسية العربية التي احترفت تجاهل الأزمات.

أما الشعب الإسرائيلي، فعلى الرغم من تنوع أطيافه، إلا أن التيار الأكثر نفوذًا وتأثيرًا فيه هو التيار اليميني المتطرف الذي يرتكز على اللاهوت اليهودي التوراتي ويسعى بالقوة إلى توسيع الاستيطان والاستيلاء تنفيذًا لإرادة "الله". أما الفئات الأخرى، فتبدو أقل تأثيرًا، ومنها فئة غير مبالية بل ومحبطة من انهيار أسطورة الحلم "اليهودي الديمقراطي الموعود"، وهي فئة تضم الكثير من النخب العلمية والعملية وتفضل مغادرة "إسرائيل" برمتها والعيش بهدوء بعيدًا عن ذلك كله. أما الأحزاب شبه "اليسارية"، فهي تحاول تبني صيغة "توافقية لشبه تسوية" لإعطاء بعض الحقوق للفلسطينيين السكان الأصليين وأصحاب الأرض. أما الأصوات اليهودية المناهضة للصهيونية في إسرائيل، فلا تشكل إلا نسبة ضئيلة، وهي مجموعة تلمودية تؤمن بأن إسرائيل ككيان يهودي ينبغي ألا يقوم قبل نزول المسيح، وهم يرفضون أخذ زمام المبادرة في تعجيل مجيء المسيح قبل أوانه.

إقرأ أيضاً: الحراك المدني: كلمة العدل بوجه قانون جائر

إذن، فإن العلاقات الدولية التي كانت تحكمها موازين القوة والحكمة الدبلوماسية تتجه نحو مزيد من القوة. وبعد أن كانت الدول الأقوى تستعمل سياسة العصا والجزرة في تطويع الدول الأضعف، فإنها تتجه إلى استعمال العصا دون أي جزرة. ومع غياب العدالة الدولية وتنامي الجشع المصلحي للقوى، يبدو "النظام العالمي المترنح" الذي كان يتدارى بشيء من الروابط الأخلاقية في علاقاته الدولية قد انهار تحت وطأة التغاضي عن كل انتهاكات القوانين الدولية، ويعيش حالة انتقالية حادة تخلو من الروح السامية وتفتقر إلى القيم النبيلة والأبعاد الإنسانية. الأمر الذي لن تكون تداعياته محصورة على بؤر الحروب المشتعلة وحسب، بل سيدخل دولًا كثيرة في دوامة من الفوضى العشوائية لا رابح حقيقي فيها ولا معالم واضحة لنهايتها في الأفق القريب.