"الِفتنة نائِمة، لعَن الله مَن أيقَظها"؛ مَقولة يُصِر البَعض على أن يَنسُبَها ويَستشهِد بها كحَديث للنبي محمد، رغم أنها حَديث ضَعيف باتفاق مُحَققي الحَديث في جَميع المَذاهِب. ما يؤكد ضُعفها أنها أولاً غير مَنطقية، ثانياً أنها تُرَسِّخ ظاهِرة باتَت مِن عِلل مُجتمعاتنا، وأحَد أسباب تخَلفِها، وهي عَدَم الاعتراف بالخَطأ، ومُحاولة تعليقه على شَمّاعة الآخرين. فالحَديث لا يَلعَن الفِتنة، بل مَن أيقَظها، رَغم أن الفتنة هي العِلة وأُس البَلاء، أما مَن أيقَظها فقد يَكون مُستطرِق ساقته الظُروف لإيقاظها. لذا فواضِع المثل كَمَن "ساب الحِمار ومِسِك في البَردَعة". ثالثاً إذا كانت الفِتنة نائِمة نومة عَميقة، بمَعنى أن المُجتمَع واعٍ ومُتماسِك، ففي هذه الحالة لا يُمكن للفِتنة أن تصحو، لأن لا أحَد بإمكانه إيقِاظها. أما إذا كانت غافِية، بمَعنى أن المُجتمَع مَنخور مُنقَسِم، ففي هذه الحالة سَتَصحو بكل الأحوال، عاجلاً أو آجلاً، سَواء قام أحّدهُم بإيقاظها أو لم يَفعل!
طبعاً لفِتنة مُجتمَعاتنا في كل زمان صَحوة! في القرن الماضي، صَحَت مِن غفوتها على الأفكار الثورية الهَدّامة، مُتمَثِّلة بالشيوعية والقومية التي استوردتها مِن الخارج، الأولى من ستالين، والثانية مِن هتلر وموسوليني، فلَحَسَت عُقولها وحَثّتها على إشاعة الفوضى بأوطانها التي كانت أسِّسَت تواً على أسُس ليبرالية دستورية ديمقراطية تحترم مواطنيها، وفي طَور النهوض والبناء. فتَآمَر العَسكر مَع الأحزاب الثورية وقاموا بانقلابات هَلّل لها العَوام بوَعي الفِتنة القطيعي، أعادَت بُلدانهم قروناً الى الوَراء، وأفرَزت حُكومات مِن العَسكر والشَقاوات، حَكمَتُهم بالحَديد والنار وامتَهَنت كرامَتُهم وأضاعَت خَيرات بُلدانهم، حَتى باتَت من أفقر دول العالم الذي باتوا يَملأونه بلاجئيهُم. والتي بدَورها مَهّدَت وأدّت الى الفتنة التالية.
أما الفِتنة التي تنخُر مُجتمَعاتنا العربية مُنذ عقود، فهي فِتنة التدَيّن المُفتعَل، سياسياً واجتماعياً، الذي بَدَأ في ثمانينيَّات القرن الماضي بصُعود التيّارات الدينية في المُجتمَعات العربية والإسلامية وبين جالياتها. فالتدَيّن الاستِعراضي المُشَوّه، المُتمَثِّل بالتطَرّف في المَلابس، مِن حِجاب ونِقاب وجُبَب تكنُس الأرض لدى النِساء! أو دَشاديش وسَراويل قَصيرة ولِحى مُشعفرة لدى الرجال! وتَحجيب الفتَيات الصَغيرات، وإجبار الأطفال على الصَوم ساعات طويلة بدَرَجات حَرارة مُرتفِعة، والحِج كل سَنة ولو بالدَين والآجِل، والاستِشهاد بالدين والاستعراض بالعِبادات في كل موقِف أو حديث، سياسياً كان أو اقتصادياً أو ثقافياً أو حتى فكاهياً، بات وباءً كالزومبي مُنتَشِر بين الشعوب العربية والإسلامية كالنار في الهَشيم. كُل جيل يولد أكثر تطَرفاً مِمّن سَبَقه! الشيوعي "سابقاً" باتَ يَتزَوّج مَثنى وثلاث ويُقيم عَزاء ويَلطُم في عاشوراء! الأستاذ الجامعي العُروبي "سابقاً" بات يُصَوّت بالانتخابات لقائمة مَرجِعية طائِفته، وليس لقائِمة التيار العَلماني الذي ينتمي إليه، لأنها أفتَت بأن مَن لن يُصَوّت لها تَحرُم عليه زوجته ولا ينال شفاعة النبي وأهل بيته! المُلحن الذي كان يوماً "شُيوعياً ثم بَعثياً"، باتَ يَدعو الناس للاحتكام الى رَأي رَجُل دين بقضِيّة قانون الأحوال الشَخصية! وغيرها مِن المَهازل التي باتَت تُصادفنا يومياً!
هذه الفِتنة بَذرَتُها الخبيثة تنظيم الأخوان الذي ظَهر بَعد انهيار الدولة العُثمانية، وانتشَر في المُجتمَعات العَربية والإسلامية ونخَرَها على مَدى عُقود. والتي نَبتَتَ نباتاً ساماً شيطانياً هو ثورة الخميني التي كَمّلَت عليها بأن عَمّقَت هذا النَخر، وحَوّلَته الى التهاب يُفرز تقَيّحات، مُتَمَثِّلة بمليشيات مُرتزقة إرهابية جَمَعَت حثالات هذه الدول، تَستَخدِمَهم حَطباً في صِراعاتها مَع دولِهِم، وبأسماء رَنّانة كالدعوة، الرَفاه، حزب الله، حماس، العدالة والتنمية، الوفاق، النهضة، الحشد الشعبي. بَقي بَعضها يَعمل في الظلام، ونَجَح البَعض الآخر بأن يُصبِح جُزءاً مِن المَنظومة السياسية لهذه الدول، أو الوصول الى الحُكم فيها، وجَعلَها جُزءاً مِن مِحور إرهابي، كذاك المُسَمّى مِحور المُقاومة العَميل لإيران والمُنَفّذ لمَشروعِها التوَسّعي في المنطقة. لذا ما أن تَتراجَع في بَلد حَتى تنمو ببَلد آخر لأن حاضِنَتَها مَوجودة، وليسَ لأنَّ أميركا والغَرب والصهيونية والإمبريالية، ولا حَتى إيران وتركيا هي السَبَب، فلو لم تكُن مُجتمَعاتكُم مُفرِزة لهذه التقيّحات، لما تمَكّن أياً كان مِن إستِخدامِها!
إقرأ أيضاً: جاك واوي البَعَث وجاك ذيب يَزيد!
لذا ليسَ غريباً أن باتَت هذه المُجتمَعات مَفاقِس تُفَرِّخ الإرهاب في كل ثانية، وليس صَعباً أن تَظهَر فيها كل سَنة تنظيمات مُتطَرّفة تستنسِخ نفسَها، لا يُمَيّزها عَن بَعضها سوى الاسم، أما سَحنات أتباعها الزفرة فواحِدة، ماركتها المُسَجّلة وجوه مُكفَهِّرة ولحى كَثّة مُغبرة، ولأنهم أحياناً نفس الأشخاص، لكن انتقلوا مِن هذا التنظيم إلى ذاك، بعد أن بات وَضعَه وتمويله أفضل. وشِعاراتها أيضاً نفسَها، أساسَها الجِهاد والقتل والجَلد والذَبح، لأنها عَقيدتها المُستنِدة لِخلطة نصوص دينية وتقاليد مُجتمَعية بالية تَرَبّت عليها وَوَرثتها مِن مُجتمعاتها، هي التطرف وإلغاء الآخر! هي تحتاج فقط إلى ظُروف مُناسِبة لتُنظِّم نفسَها وتُكشِّر عَن أنيابها. بالتأكيد هناك مَن يُمَوّل هذه التنظيمات ويَدعَمَها بمَرحَلة مُعينة للاستِفادة مِن خَدَماتِها لصالحِه. قد يكون إيرانياً أو تركياً أو روسياً أو قطرياً أو مِرّيخِيّاً. الصُدفة هي مَن جَعَلت تركيا وقطر مُمَوِّلة وداعِمة لأغلب مليشيات الإرهاب السُنية، وإيران مُمَوّلة وداعِمة لجَميع مليشيات الإرهاب الشيعية والسُنية. ولو كانت دُول أخرى مَكانَهُما، وتوَفّر لها هؤلاء المُرتزقة لفَعَلت نفس الشَيء. لذا المُشكِلة ليسَت في الدول الداعِمة قَدَر كونَها في المُرتزق الرَخيص الذي يتَلقّى هذا التَمويل مِن طَرَف خارجي لقتل أبناء شَعبه وتدمير بلاده، بل يُوجِد له تبريراً شَرعِيّاً باسم الدين والمَذهب! هذا الدُول ما كانت لتَفعَل ذلك لو لم تَجِد قطعاناً مِن أبناء هذه الشُعوب، ساقَها تَطَرّفها الديني والمَذهَبي للإنضِمام الى هذه المليشيات، لتَستخدِمَها وحالما تنتَهي مِنها تَرميها في سَلة المُهمَلات كوَرق التواليت، أو تستخدِمَها كوَرق كوتشينة تلاعِب بهم أعدائها.
إقرأ أيضاً: ألمانيا في مفترق طرق بعد عطل إشارة المرور
لذا الفِتنة صاحية وليسَت نائِمة، بالتالي لا تَحتاج لمَن يوقِظها، بَل فقط لمَن يُصَحصِحَها. فإذا أرَدتُم أن تلعَنوا أحَداً، فالعَنوا أنفُسَكم، لأنّكُم أنتُم الفِتنة بِذاتِها، مُتجَسِّدة فيكم كأفراد ومُجتمَعات وشُعوب. أنتُم مَن أوجَدَها، وأنتُم مَن يُصَحصِحَها ومَن يوقِظها إذا غَفلَت أو نامَت، لأنّكُم لا تعرفون العَيش بسَلام.
التعليقات