في سماء أوكرانيا، لم تعد الغارات الجوية مجرد قصف عشوائي أو استهداف تقليدي، بل تحولت إلى ضربات دقيقة بأيدٍ روسية، تعيد رسم المشهد العسكري، وتضع كييف أمام معادلة مستحيلة. قنابل FAB-500 الانزلاقية لم تكن مجرد تطور في الأسلحة الروسية، بل هي إعلانٌ صريح بأن قواعد الحرب قد تغيرت، وأن كل تحصين، وكل مخبأ، وكل جبهة باتت تحت تهديد مباشر لا يمكن تفاديه.
تُسقط الطائرات الروسية هذه القنابل من ارتفاعات شاهقة، فتنطلق نحو أهدافها بسرعة، تسبح في الهواء كأنها مقذوفات موجهة، وتنفجر بأثرٍ يوازي فتح بوابات الجحيم. في الخطوط الأمامية، لم تعد القوات الأوكرانية تملك ترف الاحتماء، فقد أثبتت هذه القنابل أن الملاجئ لم تعد آمنة، وأن الأرض نفسها لم تعد تقي من غضب السماء. مع حمولة تبلغ 500 كيلوغرام من المتفجرات، تستطيع FAB-500 تسوية التحصينات بالأرض، ومحو مواقع كانت لأسابيع عصية على الاختراق، مما يجعلها السلاح الأكثر رعباً في هذه الحرب.
تكمن خطورة هذه القنابل ليس فقط في قوتها التدميرية، بل في تكتيك استخدامها. قبل دخول FAB-500 إلى المشهد، كان التحليق داخل المجال الجوي الأوكراني محفوفاً بالمخاطر، فالدفاعات الجوية كانت تشكل تهديداً مستمراً للمقاتلات الروسية. لكن هذه القنابل غيرت اللعبة بالكامل، إذ يتم إسقاطها من خارج مدى الدفاعات الأوكرانية، مما يجعل الطائرات الروسية قادرة على الضرب دون التعرض لأي خطر حقيقي. في ظل تراجع منظومة الدفاعات الجوية الأوكرانية، أصبحت القاذفات الروسية مثل Su-34 تطلق هذه القنابل من مسافة تصل إلى 70 كيلومتراً، دون الحاجة إلى دخول دائرة الخطر. النتيجة؟ قدرة هجومية غير مسبوقة، جعلت القوات الأوكرانية عرضة لهجمات متواصلة دون أن تستطيع الرد بفعالية.
الخطر الذي تمثله FAB-500 لا يقتصر على ساحة القتال فحسب، بل يمتد إلى البنية التحتية والمناطق الحيوية. التحذيرات الأوكرانية تشير إلى أن هذه القنابل قد تستخدم ضد أهداف حساسة، مثل المستشفيات، والمرافق الحيوية، وحتى المناطق السكنية، مما يزيد من تعقيد المعركة ويفتح الباب أمام موجة دمار لا يمكن السيطرة عليها.
إقرأ أيضاً: أسرار الفاتيكان: بين صرح الإيمان ودهاليز المال
يبدو أن روسيا تستغل هذا التفوق بأقصى طاقتها في وقت تراجع المخزون الأوكراني من الدفاعات الجوية، مما جعل القوات الروسية أكثر جرأة في تنفيذ ضربات مكثفة لم يكن من الممكن تصورها في المراحل الأولى من الحرب. الصحف الغربية تتحدث عن أن المخزون الأوكراني من المدفعية وذخائر هاوتزر بات في حده الأدنى، وأن معدل الإطلاق الأوكراني تراجع بنسبة 80 إلى 90 بالمئة بسبب نقص الإمدادات. في المقابل، زادت موسكو من إنتاج ذخائرها، ووسّعت نطاق عملياتها الهجومية، مستفيدة من دعم لوجستي واسع، بما في ذلك عمليات استيراد مدفعية من كوريا الشمالية، وفق تقارير استخباراتية غربية.
الحرب الجوية لم تعد تقتصر على التفوق العددي، بل باتت مسألة نوعية التسليح والتكتيك المستخدم. الغرب زوّد أوكرانيا بمقاتلات مثل MiG-29 وأنظمة دفاع جوي متقدمة مثل NASAMS وPatriot، لكنها غير قادرة على التعامل مع خطر FAB-500، لأن القنبلة تنطلق بعد إسقاطها، ولا يمكن التصدي لها إلا بإسقاط الطائرة الحاملة لها قبل أن تطلقها، وهو تحدٍّ كبير في ظل عدم قدرة أوكرانيا على تأمين سيادتها الجوية. في المقابل، المقاتلات الروسية مثل Su-34 وSu-35 تملك تقنيات متقدمة تجعلها قادرة على تنفيذ الهجمات دون أن تكون عرضة للخطر، بفضل تكتيكات الضرب من خارج نطاق الدفاعات.
إقرأ أيضاً: هل نقترب من مرحلة توجيه العقول؟
التاريخ العسكري أثبت أن التفوق الجوي هو مفتاح النصر في الحروب الحديثة. من يسيطر على السماء يفرض إيقاع الحرب على الأرض، وهذا بالضبط ما تسعى روسيا لتحقيقه الآن. إذا استمرت موسكو في هذا النهج، فإن أوكرانيا ستواجه تحدياً وجودياً حقيقياً، حيث لم تعد مسألة الدفاع مقتصرة على الجبهات البرية، بل باتت الحرب الآن تُحسم في الجو قبل أن تصل إلى الأرض.
لكن ماذا لو قرر الغرب رفع سقف المواجهة؟ هناك أصوات داخل حلف الناتو تطالب بتزويد أوكرانيا بمقاتلات أكثر تطوراً، مثل F-16، وحتى أنظمة هجومية تمكنها من استهداف المطارات الروسية التي تنطلق منها هذه القاذفات. هذا السيناريو، إن تحقق، سيؤدي إلى تصعيد خطير في الحرب، وقد يفتح الباب أمام مواجهة مباشرة بين روسيا والغرب.
إقرأ أيضاً: أراضٍ خارج السيادة… لغز الجغرافيا والسياسة
السيناريو الأخطر هو أن تستمر أوكرانيا في استنزاف دفاعاتها الجوية، مما يجعل المدن الأوكرانية نفسها هدفاً لهذه القنابل، وليس فقط الخطوط الأمامية. عندها، ستتحول الحرب إلى مأساة إنسانية كبرى، حيث لم تعد التحصينات كافية لحماية السكان، ولن يكون أمام أوكرانيا سوى خيارين: الاستسلام أو طلب تدخل مباشر من الغرب، وهو ما قد يشعل فتيل حرب أوسع.
روسيا تعرف تماماً أن الغرب يسير على خيط رفيع بين دعم أوكرانيا ومنع التصعيد مع موسكو، ولهذا فهي تستغل هذه الفجوة الزمنية لإضعاف أوكرانيا قدر الإمكان قبل أن يتحرك الغرب بخطوة قد تقلب الطاولة. في المقابل، الغرب يراهن على عامل الوقت، آملاً أن تتمكن العقوبات الاقتصادية واستنزاف الموارد الروسية من إضعاف موسكو قبل أن تتمكن من حسم المعركة عسكرياً.
لكن يبقى السؤال الأهم: هل تمتلك أوكرانيا الوقت الكافي للصمود؟
إقرأ أيضاً: أفريقيا: صراع حتمي على الموارد والمناخ والنفوذ
في الحروب، الزمن ليس مجرد عنصر عابر، بل هو جزء من المعركة نفسها. وإذا كانت FAB-500 قد أثبتت شيئاً، فهو أن التفوق الجوي قد يجعل المعركة تنتهي أسرع مما يتوقع الجميع.
لن نقرأ المشهد بشكل مفصل ما لم تتضح رؤية الساكن في البيت الأبيض الجريء، الذي كان إيقاف الحرب من التصريحات الشهيرة له…!
التعليقات