منذ أن انتهت الحرب العالمية الأولى، ومع انحسار الدولة العثمانية وبداية تشكل الدولة العربية القطرية بما عرف باتفاقية سايكس - بيكو الشهيرة، أخذت الدول العربية الصغيرة منها والكبيرة تظهر إلى الوجود كدولة قطرية، تنتمي إلى العروبة، وتحتفظ بكيانها الوطني، وأخذت هذه الدول بالتحرر من الاستعمار الغربي والتشكل إلى آخر الدول التي ظهرت للوجود في سبعينيات القرن الماضي، أي أنَّ مسيرة ولادة الدولة القطرية العربية أخذت بالتشكل منذ العام 1920 وحتى 1972، وارتاح المواطنون العرب إلى هذه النتيجة التي آل إليها مصير الوطن العربي باثنتين وعشرين دولة عربية مستقلة استقلالاً تاماً عن الغرب.

وقلنا نحن العرب العاربة والعرب المستعربة إننا قد تشكلنا كما تشكلت الدول الغربية بعد الحروب الطاحنة التي خاضتها الأمم الأوروبية بشرقها وغربها وأصبحت تشكل منظومة دول أوروبا الحديثة بعد الحرب العالمية الثانية. الغرب اهتم بالتطور والتعاون والانضواء تحت راية الأمم المتحدة، وأخذ بناصية العلم والتقدم والتقنية وعصر الفضاء والأسلحة النووية وعصر الرقمنة الذي جاء تباعاً بعد عصر التلفزيون، إلا أنَّ نكستنا العربية جاءت مفاجئة لأبناء العروبة، المستعربة منها والعربية بعد ما سمي بالربيع العربي.

ظهر لنا التفسخ التلقائي للعروبة الذي أفرز كانتونات وجيوباً صغيرة في أرجاء الوطن العربي تطالب بالانفكاك عن العروبة، وكأننا كعرب لم نفعل شيئاً البتة، ولم نوحد دولنا ونصهر مجتمعاتنا في روح واحدة وآمال مشتركة، وحلم العروبة السامي الذي جاء به العرب من قلب الجزيرة العربية في بداية نشر الإسلام والعروبة معاً.

إقرأ أيضاً: بداية كتابة التاريخ

عندما قدمت القبائل العربية في العشرة أعوام الأولى بعد الهجرة النبوية، بدأت القبائل تغزو خارج حدود الجزيرة العربية، فاتجهت إلى بلاد الروم وبلاد فارس، وكانت بلاد الروم تبدأ من تخوم الأردن الغربية وسوريا ولبنان وفلسطين حتى أواسط تركيا، وكانت فارس تبدأ من منتصف العراق الحالي باتجاه الشرق حتى حدود أفغانستان، وبالاتجاه الآخر ذهبت القبائل العربية تحمل راية الإسلام والعروبة إلى مصر الكنانة وبلاد المغرب العربي، وكانت هذه القبائل تنشر اللغة والدين معاً، واستقرت تلك القبائل الحاملة للدين الإسلامي في ربوع الشام وأكنافها، وفلسطين والعراق وفارس (إيران اليوم) والفسطاط (قاهرة المعز اليوم) والمغرب العربي حتى مغيب الشمس في الأطلسي، وعندما لم تجد هذه القبائل أرضاً تغزوها بعد المغرب، اتجهت يميناً لتدخل أوروبا من خاصرتها الجنوبية في الأندلس إلى حدود فرنسا بما يسمى الآن إسبانيا.

إقرأ أيضاً: إشكالية قراءة العقل العربي

هذا الاتساع الجغرافي للعروبة والإسلام استمر لأكثر من 1400 عام، إلا أنَّ هذه السنوات والقرون الطويلة لم تشفع أو تغير في نفوس الذين دخلوا الإسلام في تلك الأصقاع، ولم تدمجهم في العروبة، فأخذوا الإسلام وكرهوا العروبة والعرب، واليوم يدهش الناظر إلى حال البلاد العربية، كيف أنَّ التشظي يضرب أطناب الخيمة العربية، فتشتعل وسائل التواصل الاجتماعي بآلاف المواقع التي تعلي من شأن الأقليات في كل دولة عربية، وتشجعها على الخروج على الدولة الوطنية، والاستقلال بذاتها كأمة صغيرة في قلب الأمة العربية، وها نحن اليوم نشهد الدروز في سوريا يتعاونون مع إسرائيل وبتشجيع منها لتكوين كيان درزي مستقل عن الدولة السورية، والأكراد في شرق سوريا يطالبون بدولة كردية، والعلويون في الساحل السوري يقاتلون الدولة الوطنية لتشكيل كيان علوي، والشيعة في لبنان يشكلون دولة داخل الدولة اللبنانية، والمسيحيون كذلك في لبنان، والأمازيغ في المغرب يبحثون عن كيان لهم ولغة خاصة بهم، وبعض المصريين يطالبون بفرعونيتهم، وبعض السودانيين يريدون العودة إلى أفريقيا الأم ولغاتهم المحلية، وخذ مثلاً الأرمن والشركس والشيشان وإن كانوا بنغمة أقل فهم يناظرون ما يحصل مع الأقليات الأخرى لينطلقوا للبحث عن لغتهم وذاتهم، والشيعة في العراق كما الأكراد، كلٌ يرنو للانفصال عن العروبة، وبعض الفلسطينيين الذين أصبحوا في داخل إسرائيل أشد ضراوة على إخوانهم في الضفة الغربية وقطاع غزة من الإسرائيليين أنفسهم.

إقرأ أيضاً: السعودية والاعتراف بإسرائيل

هذا التشظي التلقائي لم يكن يخطر في بال القبائل العربية التي فتحت أقاصي الأرض شرقاً وغرباً، ناشرة العروبة والإسلام، أن يكون هذا هو المصير النهائي لتلك الأمم التي استوعبها الإسلام واحتضنتها العروبة، والتي ضحى من أجلها خيرة الصحابة والتابعين، وخيرة فرسان العرب، لأخذ الناس من الظلمات إلى نور الإسلام ومجد العروبة، فأي تشظٍ هذا الذي نعيشه، فهل هو تشظٍ تلقائي أم مدفوع الأجر؟ بمعنى هل أن هنالك دوائر صهيونية وعالمية غربية وشرقية تعمل في قلب الأمة العربية وتسعى لتفتيتها، أم أن ذلك يحدث تلقائياً نتيجة لقلة قناعة الناس بجدوى العروبة والإسلام؟ هذه تساؤلات برسم التفكير والبحث والتمحيص لأن الحال باتت لا تسر عدواً ولا صديقاً، حما الله الإسلام والعروبة وما بينهما من أقليات عاشت في كنف العروبة والإسلام آمنة مطمئنة إلى أن يرث الله الأرض وما عليها، والله من وراء القصد.