الضحية الفضيحة
مي الياس من بيروت: تعود يسرا الى خارطة العرض الرمضانية هذا العام بمسلسل quot;قضية رأي عامquot; الذي يعرض حصرياً على قناة دبي الفضائية، و يتطرق الى قضية إجتماعية حساسة وشائكة، لها أبعاد عديدة، وردود فعل غالباً ما تكون سلبية عندما تجد الضحية نفسها مدانة رغم بشاعة ما تعرضت له، بسبب موروثات وأفكار إجتماعية بالية ومتخلفة، تربط الشرف بغشاء البكارة، حتى لو كان فقدان هذا الرمز الشكلي قد تم بالقوة وبدون موافقة أو إرادة الضحية. وتذهب بعض العوائل الى قبول فكرة إجراء عملية ترميم لهذا الرمز الشكلي، وقبول فكرة خداع الزوج المستقبلي في سبيل الحفاظ على سمعة العائلة أمام المجتمع.

في مجتمعنا الشرقي الألم والمعاناة لا تنتهي بإنتهاء الجريمة، فالضحية تجد نفسها مرفوضة من بيئتها .. مجتمعها.. ومحيطها.. يتخلى عنها أقرب الناس اليها.. ويشعرون بالخزي والعار لمجرد إرتباط الضحية المنتهكة بهم.

الكاتب محسن الجلاد يعرض في مسلسله هذا 3 نماذج لنساء كن ضحية لحادثة إغتصاب بشع، تنتمي كل منهن الى بيئة إجتماعية مختلفة عن الأخرى، فالأولى طبيبة من عائلة أرستقراطية موسرة، لها وضعها الإجتماعي ومتزوجة من طبيب مثلها، ولها بنت شابة، طالبة جامعية في عمر الزواج، وصبي أصغر عمراً لايزال في مرحلة الدراسة المتوسطة.

الضحية الثانية طبيبة متدربة من بيئة صعيدية، عانت لتكمل تعليمها ، ونجحت في ذلك بدعم والدها، في الوقت الذي يرى فيه شقيقها بأن مكان الفتاة البيت، والتعليم لم يخلق لها، وأن خروج الفتاة من المنزل هو ما جلب لهم العار...
والضحية الثالثة ممرضة متزوجة وحامل في شهرها الخامس، زوجها يعمل خارج البلاد، وتنتمي الى عائلة من ذوي الدخل المتوسط ...

إختيار موفق للضحايا
بهذا التنوع أراد محسن الجلاد أن يضيء على أسلوب تعامل أفراد كل طبقة من هذه الطبقات مع مأساة من هذا النوع.. وهي مسألة تحسب له، فالزوج (إبراهيم يسري) يطلب من زوجته (يسرا) أن تتنازل عن حقها في الإقتصاص من المجرمين، وان تتعلم العيش مع كوابيسها quot;وتكفي على الخبر ماجورquot; اي ان تستر نفسها وتستر عائلتها من quot;الفضيحةquot;، والزوجة لا تفهم كيف يمكن لزوجها أن يشعر بأنها quot;فضيحةquot;، وليست quot;ضحيةquot;، وطبعاً كالعادة وكما تعودنا من يسرا في ادوارها تختار المواجهة، وتتقبل الخسائر الشخصية، التي ربما تكون من منظار آخر مكاسب، لأنها تكشف المعدن الحقيقي لأقرب المقربين منها في وقت الشدائد.

في المقابل هناك عمها الرجل الكبير والبسيط الذي يشعر بمصابها ويحتويها في منزله، يقف بجانبها، ومعه إبنه المحامي الذي يتولى متابعة القضية مع رجال الأمن والجهات المختصة. بينما تقوم شقيقتها بدور المرأة المغلوبة على أمرها، فتعيش حالة من الإنقسام بين زوجها المدرس الانتهازي الذي يرفض وضع أختها الجديد وبين أختها التي تعيش محنة تتطلب منها الوقوف الى جانبها .

اما الطبيبة الصعيدية (لقاء الخميسي)، فهي لاتزال تعيش أسيرة تقاليد بيئتها رغم كل شيء، فوالدتها عندما تدرك ما حصل مع إبنتها، تطلب منها أن تخفي quot;فضيحتهاquot; أو quot;مصيبتهاquot; عن شقيقها quot;الحمشquot; ووالدها quot; ضعيف القلبquot; لئلاً يكون مصيرها الذبح ...
وهي فكرة روادت شقيقها الذي لم يعد يرى في إخته سوى العار. الوالد الأكثر تفتحاً من إبنه كان مع تسفيرها الى الإسكندرية لتعيش مع خالتها، لإبعادها، ومنعها من إقحام نفسها في القضية -التي أصرت الطبيبة (يسرا) أن تمضي بها لتحصل حقها وحق زميلاتها من تلك الوحوش البشرية التي لم تتوانى عن نهشهن دون أي تردد- فقط لكي لا يتمرغ شرف العائلة في الوحل.

الضحية الثالثة لم تدخل مرحلة المعاناة بعد، ولا نعلم لماذا إختار لها الكاتب أن تدخل في غيبوبة بعد فقدانها جنينها، وإستئصال رحمها لوقف النزيف وإنقاذ حياتها، شقيقتها تنكر الواقع ن وتخفي عن الزوج المسافر حقيقة ما حصل، وتوهمه بأن زوجته وقعت عن الدرج ...

ولم يخل السيناريو من إنتقاد غير مباشر لبعض العاملين في سلك الشرطة بسبب تسريبهم معلومات عن قضايا حساسة من هذا النوع طمعاً في الشهرة على حساب ، سمعة وخصوصية الضحايا.

والآن وبعد تسرب الخبر الى الصحف وتحول القضية الى قضية رأي عام، على الضحايا التعاطي مع المحيط، أصدقاء إبنة يسرا في الجامعة يعايرونها بما حصل لوالدتها، وخطيبها يتركها لأنه يرفض الإقتران بإبنة quot;الفضيحةquot; وهناك، زميل يسرا الإنتهازي، وهناك الزملاء المتعاطفون، الخ

الإغراق في المباشرة والوعض يقتل المتعة والتشويق لدى المشاهد
كل هذا جيد وجميل، ولا ننكر بأن المسلسل نجح في شد نسبة كبيرة من المشاهدة، لكن هذا لا يغفر له العيوب والثغرات والهفوات الكثيرة الأخرى ...

أحد أهم عيوب هذا العمل -وهو عيب متكرر لم يتمكن بعد كتاب السيناريو والحوار في المسلسلات العربية من تجاوزه ndash; ألا وهو المباشرة و الوعضية التي يدرجونها في الحوارات التي نسمعها على السنة الشخصيات، فيبدو المسلسل أشبه بندوة أو محاضرة عن أسباب ومسببات ونتائج الإغتصاب في المجتمع العربي، وكأن الكاتب عاجز أن يعبر عن أفكاره هذه من خلال بناء صورة او موقف تترجمه الكاميرا لإيصال الفكرة، متناسين أن التلفزيون مثله مثل السينما، قائم على اللغة البصرية بالدرجة الأساس، والحوار دوره أن يسند الصورة وليس العكس، وأن الدراما دورها الأساسي ترفيهي وليس تعليمي، ويمكن للدراما أن تكون هادفة دون أن تسقط في شرك المباشرة.

مشهد الإغتصاب ساذج وأشبه بمصارعة بالإيادي
والعيب الثاني يقع على عاتق مخرج العمل محمد عزيزية، ونقصد به quot;مشهد الإغتصابquot; الذي أثار جدلاً واسعاً (لا ندري سببه) بحجة أنه كان قاسياً وصادماً، والحقيقة أنه كان أقرب الى السذاجة، ولعدة أسباب:

1- لكي نوصل فكرة بشاعة الإغتصاب هذا لا يعني بالضرورة إطالة المشهد بهدف الإطالة ليس إلا.
2- إذا أردنا التحفض وعدم إظهار أجساد عارية وملابس ممزقة ودماء تبدو حقيقية، وضربات تبدو مقنعة، هذا لا يبرر أن يبدو المشهد أقرب الى المصارعة المملة بالأيادي، منه لواقعة إغتصاب حقيقي ومرعب.
3- الشباب المغتصبون لم يظهروا بمظهر الوحوش في هذا المشهد وإنما ظهروا بمظهر الأغبياء.
4- مما لا شك فيه أن أقصر مشهد في أي فيلم أجنبي (ودون الحاجة لمشاهد عارية وثياب ممزقة) سيكون فيه من الإتقان في تصوير العنف، والواقعية في تصوير ردة ملامح وردود فعل الضحية، ما يغني عن ساعة كاملة من مشهد مماثل لما شاهدناه في هذا المسلسل، ليوصل لنا فكرة بشاعة الإغتصاب.

وهذا يقودنا لعيوب المكياج فمنظر يسرا وزميلاتها كان غبياً جداً بأثار المخالب على وجوههن وأجسادهن، وغير مقنع إطلاقاً.

خلل في المتابعة

رياض الخولي الوزير الوالد
والمصيبة الأكبر كانت في ما يعرف بالـ (Continuity) أي ضمان أن تبدو المشاهد متطابقة رغم تصويرها في أيام مختلفة، فعلامات المخالب الثلاث التي كانت على وجه يسرا مثلاً، كانت تختلف في لقطات من نفس المشهد، على الرغم من أن هذه اللقطات تنتمي لنفس الفترة الزمنية، فأحياناً تبدو الآثار قوية وحديثة، وفي أحيان أخرى تبدو باهتة وفي طريقها الى الزوال، بينما تكون يسرا تنتقل في حوارها من جملة الى أخرى، فهل يعقل ذلك؟

إهمال التفاصيل يضعف العمل ككل
وهذا بدوره يقودنا الى إهمال العاملين في الدراما العربية الى التفاصيل الصغيرة، والتي يفترض أن إتقانها يؤدي النتجية الى عمل متقن، فالعمل هو محصلة هذه التفاصيل مجتمعة، وإذا كثرت الأخطاء، وأهملت تفاصيل من هذا النوع، إنسحب ذلك على العمل ككل.

أخطاء تقنية وقانونية
لا اعتقد بأنه سيكون تسرعاً إذا تسائلنا كيف يمكن لطبيبة تعرضت للإغتصاب للتو، من أن تهرع لإستحمام وتهمل حقيقة quot;أن إستحمامها قبل أن تجري فحصاً طبياًquot; سيضيع دليل دامغ ومهم يمكن من خلاله إدانة الضحية بشكل قاطع لا يقبل النقض، دون أن تتم الإشارة الى هذه النقطة عندما تقوم بالتبليغ عن حادثة الإغتصاب.
وكيف يمكن للسلطات أن تطلب من يسرا التعرف على الجاني في المستشفى مباشرة دون إخضاعه للإصطفاف لكي يتم التاكد تماماً من أنها قادرة على تمييزه دون أي لبس من بين عدة أشخاص آخرين، وهو الأمر المتعارف عليه عادة في مثل هذه الظروف...
المشاهد العادي شعر بأن هناك ثغرات إجرائية وقانونية عديدة في هذا المسلسل تجعلنا نشك بأن كاتبه كلف نفسه عناء إستشارة مختصين في هذا المجال.

الى متى سنبقى أسرى الشخصيات النمطية؟
وأخيراً وليس آخراً quot;الكليشيهاتquot; أو المواقف والشخصيات النمطية التي بات وجودها في كل مسلسل مصري أشبه بقانون يلتزم به الكتاب ولا يحيدون عنه، فالجناة لابد أن يكونوا كالتالي: إبن المسؤول الفاسد والمدمن، المحتمي بسلطة والده، وصديقه عديم الشخصية الذي يعيش وحيداً دون إشراف والديه، فيضيع لأنه لم يجد من يحاسبه أو ينصحه، وابن الشارع الذي لا ينتمي للمجموعة ويمكن الإستغناء عنه ساعة اللزوم برصاصة لإبعاد الشبهات عن اولاد الذوات، وإذا لم تصبه في مقتل، يصبح دليل الإدانة.

الصراع دوماً بين الفرد الضحية والسلطة الفاسدة؟!!!
لماذا لم يفاجئنا محسن الجلاد بمجموعة مجرمين أذكياء من الصعب إصطيادهم مثلاً، بدلاً من شخصيات نمطية، ترتكب أخطاء نمطية، تنتمي لعوائل نمطية، إبن الوزير المجرم سيحرج والده، ووالده الذي يطالب بإعدام المجرمين في ميدان عام سيجد نفسه في مواجهة بين واجبه وأبوته، وأيها سيتغلب على الآخر... لماذا يفترض أن يتحول الصراع دائماً بين الفرد والسلطة الفاسدة في كل مسلسل مصري، فيصبح هذا الإسقاط مستهلكاً الى درجة الملل.

أمر بديهي إذن بأن يغيب التشويق، عندما يصبح بإمكاننا التكهن من الحلقة الأولى أو الثانية وبمجرد وصول الشخصية النافذة ممثلة برياض الخولي بسيارته الفارهة ونظاراته السوداء وال (بودي غاردية) الحراس الشخصيين المحيطين به الى مكان الجريمة، بما سيحدث في الحلقة 15 أو 16 أو 30؟

تساؤلات نضعها برسم الكاتب وفريق العمل ككل؟

[email protected]