إيلاف من بغداد: تباينت وجهات نظر العراقيين حول مسألة "الغيرة العراقية" التي ظهرت من خلال برنامج تلفزيوني على قناة MBC ، وتوسعت أطراف الجدل والنقاش حتى وصلت إلى قراءات سيكلوجية واجتماعية في الشخصية العراقية.

بين الغيرة العراقية والعنف بدون تتفاهم
وأثارت حلقات برنامج تلفزيوني يحمل عنوان "الصدمة" الذيً تعرضه قناة mbc جدلا في الشارع العراقي اختلفت فيه وجهات النظر حول حقيقة "الغيرة". فهناك من استنكر استخدام الأيدي في حلّ المشاكل أو الرد على الممارسات السلبية التي تحدث في المجتمع العراقي مفضلاً لغة الحوار والتفاهم بدلاً عنها، فيما رأى البعض أن "الغيرة العراقية" تتجسد بأحسن صورها من خلال الرد القاسي والمباشر على تلك الممارسات الخاطئة باعتبار أن الدم العراقي حار ويرفض أن يُهان أحد أو يتعرض للظلم، وأن الحوار في هذه الحالة ليس له أي مكان .
وعلى الرغم من أن البعض يعدها ظاهرة، إلا أن كثيرون يعدونها حالة متجذرة في المجتمع العراقي لها أسبابها المتمثلة في تاريخ الأزمات والمشاكل والحروب التي عانى منها العراق، فضلاً عن ركون العراقيين إلى الأعراف العشائرية بسبب عدم وجود قوانين رادعة تُحاسب الذين يستخدمون أيديهم.

لغة العنف موروثة
فقد أكد سلام فاضل، طالب في جامعة بغداد أن البعض يعتقد أن الغيرة معناها العنف، وقال: أعتقد أن غالبية المجتمع العراقية تفتقر إلى لغة الحوار وعند الكثيرين منه أن أفضل الحلول وأسرعها هو العنف وإنهاء المشكلة، لذلك طالما نشاهد معارك بالأيدي في الشارع وحينما نحاول أن نعرف السبب نجده تافهاً.

واضاف: لقد تجذرت لغة العنف في موروثنا الإجتماعي ومنه (من ضربك فأضربه)، كما أنني أعتقد أن الحروب وأعمال العنف التي عاشها العراق كان لها تأثيراً على نفسية المواطن العراقي الذي لا يعطي في في أي مشكلة شيئاً من الصبر لذلك تتحرك يده لكي تسدل الستار على المشكلة.

الدم العراقي حار..ولكن!
أما فضيلة علي سالم، موظفة، فقد أكدت أن العراقي دمه حار، لذلك لا يصبر على شيء، وقالت: شاهدت حلقات البرنامج التلفزيوني وكيف أن المواطن العراقي يستخدم يده ضد الممارسة التي لا تعجبه، وأعتقد أن هذا معناه أن بعض العراقيين لا يمتلك الروح الرياضية كما يقال، ولا يحاول تغليب لغة الحوار من خلال معرفة الأسباب التي أدت إلى هذه الممارسة أو يجد لها الحلول. فعلى سبيل المثال، حينما تحرّش شاب بفتاة أمام الناس، قام البعض بضرب الشاب بحجة أن الغيرة لا تسمح له بالتفرّج على فعلٍ خاطيء، وبرأيي أن القضية لا علاقة لها بالغيرة بقدر ما لها علاقة بالجهل. فأنا أرفض التحرش، لكنني أرفض العنف أيضاً. وأضافت: أعتقد أن الشخصية العراقية تعيش تناقضات كثيرة في داخلها ويبدو أن هذا الشيء قد شخصه علماء الإجتماع، لذلك أرى أن تاريخ العراق المتخم بالحروب قد ترك تأثيراته في الجينات الوراثية.

غياب لغة الحوار
من جهته قال الكاتب أحمد كاظم: عكس هذا البرنامج التلفزيوني صورةً من حياة الإنسان العراقي الميّال إلى العنف بدل الحوار والإبتسامة والشفافية في التعامل مع الآخر. فهو يضع الأمور بين الأسود أو الأبيض، ولا يفكر طويلاً في عاقبة ما يفعله، بل أن لديه ردة فعل سريعة مبنية على لحظةٍ عاطفية.
وأضاف: أعتقد أن هذا الشاب الذي ضرب الشاب الآخر (الممثل) الذي جسد شخصية العاق لوالده، مرت أمامه الكثير من المواقف المتشابهة ومرّ منها مرور الكرام، ولكنه هنا حكمته لحظة عاطفية، فلم يجد إلا يده ليستخدمها للضرب كرد فعل. وأنا أرى أن هذا خطر يهدد المجتمع. فليس من الصحيح أن نندفع للعنف قبل التروي لبرهة ما قبل الإندفاع نحو العنف. وتابع: هناك من يعتقد أن الإنتصار للضعيف مفهوم إنساني لابد منه، ولا فرق فيه بين المجتمعات سواء المتحضرة أو التي تعيش البداوة أو حياة الريف، ولكن يجب أن نفهم أن الدنيا تغيّرت وصارت لغة الحوار والتفاهم هي المفضلة. لكنني أعتقد أن المواطن العراقي لازال فهمه قاصراً في هذه المسألة، لأن الوضع العراقي العام غير منضبط، لذلك لا أحد يخشى من الدولة إذا اعتدى على آخر، كما أنه يعتقد أن العشيرة ستحميه.

صراع العقل والوجدان 
إلى ذلك أكد الكاتب والإعلامي محمد غازي الأخرس أن وجدانه البدوي يطرب للغيرة بينما عقله يرفضها، وقال: مفهوم الغيرة من أعظم المفاهيم التي ورثناها، لأنها تعني الإنتصار للمظلوم والمضطهد والمتعرّض للأذى أياً كان وفي أي وضع. وضمن هذا المفهوم ورثنا قيمة (الدخالة) و(الفزعة) وغير ذلك من ميراث نظام الصحراء الأخلاقي. نعم، الغيرة مفهوم جميل، لكنها في بعض الأحيان تغدو علامة على غياب التمدن والتحضر، وهذا يعني البقاء في عالم الصحراء الثقافي حيث أن الدم يفور ويطغى على كل قيمة أخرى بما في ذلك العقل والحوار وسيادة القانون.

وأضاف: بعيداً عن الإنفعالات ومشاعر الحماس والفخر التي لم أسلم أنا منها، فهذه وجدانيات جماعية عميقة الجذور ومن الصعب السيطرة عليها أو تشذيبها. ولكن يجب مناقشة فكرة بقاءنا أسرى المنطق القديم، منطق الركون لليد بدل الحوار وتغليب شعار البقاء للأقوى، ومناقشة فكرة أن مفهوم الغيرة رائع في جوهره، ولكن، ليس في ضرب من يسيء لأبيه في محل، أو يتحرّش بفتاة في الشارع. فهذا النوع من الضرب قد يكون إشارة لتجذّر قيم العنف التي يمكن أن تحوّل المجتمع إلى غابة ينتصر فيها الأقوى ذراعاً.
وتابع: والحال أن شكل الغيرة هذا لا يقارن بذلك الشكل المشروع الذي يمكن رؤيته الآن في جبهات القتال، فالشكل هناك مقنن بينما هو هنا غير قانوني. والمثير للإنتباه، في هذا كله، أن هشاشتنا وبشاشتنا لما رأينا في العمل التلفزيوني "الصدمة" ربما توحي بمغازلة المشاهد لقيم البداوة المخبئة فينا، القيم الكامنة التي تنتظر الفرصة للإنبعاث، والأمر، من قبل ومن بعد، يوحي بأننا لم ندخل بعد في مرحلة المواطنة التي يُفترض فيها التقيّد بقوانين معيّنة في الأماكن العامة. 

وختم:أنا أكره العنف، ولو كان عنوانه (غيرة) أو (نخوة) أو(مروءة). فوجداني البدوي يُطرَب لها، لكن عقلي يقول لي دائماً: ما هكذا تفهم الأمور يا صاح!

ظاهرة سيئة
بدورها، الناشطة في مجال حقوق الإنسان نداء عباس، أكدت أن الغيرة لا تعني استخدام اليد في رفض سلوك سيء أو ممارسة سيئة، وقالت: على الرغم من التطور الحاصل في الحياة والترويج لمبادئ حقوق الإنسان، إلا أننا ما زلنا نعيش في عصور الجهل والظلام وكثيراً ما نرى في الشارع العراقي معارك بالأيدي بين الأشخاص على اختلاف أعمارهم. وهذه ليست ظاهرة بل حالة عامة لها امتدادات لعشرات السنوات.

وأضافت أن "استخدام اليد في حل مشكلة أو رفض سلوك سيء أو ممارسة إجتماعية سيئة لا علاقة لها بما تسمى (الغيرة) ولا يمت بصلة لحقوق الإنسان التي يجب أن تُحترَم ولا تُهان تحت أية ذريعة أو حجة".
وتابعت: ما شاهدته على شاشة التلفزيون وما سمعته من الناس هو صورة سيئة عن المجتمع العراقي. وأنا أعتقد أنها إدانة له قبل أن تكون مصدر تفاخر. فيجب أن يكون الحوار أولا هو الحل لكل مشكلة وأي خلاف، وإلا فالسلوك الهمجي هو الذي سيسطر علينا. فكيف سنكوّن مجتمعاً متحضراً يكون فيه شباب اليوم أكثر وعياً ممن سبقوهم .
وختمت: على العراقيين التفكير جدياً قبل أن يتصرفوا، وأن يدركوا أن لكل إنسان حقوقاً لايمكن انتهاكها لأي سبب، لا باستخدام اليد ولا بالألفاظ الجارحة.

غياب القوانين الرادعة
من جهته، أكد حسن فرات، خريج قسم علم الإجتماع، أن العادات العشائرية وعدم وجود قوانين رادعة هي السبب لاستمرار العنف كرد فعل. وقال : يتفق علماء الإجتماع على أن العنف غريزة موجودة عند كل إنسان، ولكنهم أشاروا إلى أن أسباب تفاقمه متعددة ومختلفة وتعتمد على ثقافة المجتمعات أو الجماعات البشرية. ولكن، من المؤكد أن الأسباب لها علاقة بالبيئة والواقع المُعاش. إذ أن الشعب يتأثر بالأزمات والمشاكل التي تحدث في البلد سواء على الصعيد الأمني أو السياسي أو الإقتصادي، ما يفرز الكثير من السلبيات التي تؤدي إلى تتغير نفسية المواطن.
وأضاف: يقال أن الشعب العراقي (دمه حار) لذلك هو يغضب بسرعة ويتصرّف بتأثير من عاطفته أكثر من عقله ولا يفكر قبل أن يقدم على ممارسة العنف، وأعتقد أن معاناة العراق هي من الأزمات والحروب على طول تاريخه، الأمر الذي خلق مثل هذه المزايا لديه، لأنه لم يعرف الراحة التي تمنحه فرصة للتأمل والهدوء، والأهم في كل هذا ركونه إلى التقاليد العشائرية بسبب غياب القانون الرادع كما أن المواطن لا يعرف شيئاً اسمه حقوق الإنسان حتى اليوم!
وتابع: أما ما حدث في البرنامج التلفزيوني فهو أمر طبيعي، ولا أعتقد أن "الغيرة" هي التي تُحرِّك من يستخدم يده بل العاطفة المرتبكة التي في داخله أو الشعور بعدم الإستقرار الذي يولّد تناقضات في شخصيته، فيلجأ إلى أبسط الحلول من دون أن يفكر لحظة بما ستؤول إليه الأمور، لأنه يعرف عدم وجود قوانين تردعه.