"إيلاف" من القاهرة: ضمن سلسلة النوستالجيا بالأبيض والأسود التي تُسلِّط من خلالها الضوء على حياة وقصص مشاهير الفن والغناء، تُلقي "إيلاف" الضوء على مسيرة الفنان شكري سرحان الذي أثرى الحياة السينمائية بعشرات الأفلام المتميزة. حيث تتطرق لذكرياته منذ نعومة أظافره مروراً بأهم أفلامه في السينما المصرية التي نالت إشادات جماهيرية ونقدية، وذلك عبر مقطفات مأخوذة من تصريحاته في لقاءات نشرها الراحل وتناولت سيرته الذاتية خلال محطات تكريمه داخل مصر التي نال فيها عشرات الجوائز الفنية.
ركود سينمائي
أصيبت صناعة السينما بأزمة شديدة وتوقفت عن الإنتاج لاسباب إقتصادية وظروف إنتاجية صعبة كانت تمر بها البلاد، وهاجر الفنانون والفنيون إلى بيروت في محاولة لخلق نوع من الأعمال السينمائية هناك وفي هذه الظروف الصعبة حضر إلى منزل شكري سرحان منتج اسمه ابراهيم والي وقال له أنه مبعوث الاستاذ حسن الامام للاتفاق معه على الاشتراك في فيلمين من إخراجه هناك في بيروت وعرض عليه مبلغا كبيراً من المال لكي يوافق، وسأله شكري سرحان وهل في بيروت صناعة سينما؟ وهل يوجد بها استديوهات؟ وكان رد المخرج، لا، لا يوجد، ولكننا نحاول أن نخلق هذه الأعمال بأي طريقة وتحت أي ظروف حتي لا تتوقف عجلة الانتاج وتسوء أحوالنا المعيشية وكان موقفه شجاعاً، وقال له رغم المبلغ الكبير الذي تعرضه علي أرجو أن تبلغ الأستاذ حسن الأمام أن الفلوس لن تستدرجني إلى الإشتراك في أعمالٍ سينمائية قد تهبط بي إلى مستوي لا أرضاه لنفسي أبداً. ومهما كان للحال أهمية قصوى عندي، إلا انني لا أضعه في حسابي أبدا بالنسبة لاحترامي لنفسي كفنان ملتزم يضع أمام عينيه القيمة التي يجب ان يكون عليها الفن والفنان مهما كانت الظروف.
في المظاهرات
ثم جاءت النكبة، وفي اليوم الأول للنكسة خرج مع زملاؤه حمدي غيث وعزت العلايلي ليقودوا جموع الشعب في مظاهرات عارمة تهتف بسقوط إنجلترا وأمريكا حيث كان الرئيس عبد الناصر قد ذكر في خطاب التنحي أننا كنا على أبواب النصر لولا تدخل أمريكا وإنجلترا إلى جانب إسرائيل. وتمر الأيام ويسافر شكري سرحان إلى المانيا مع المخرج كمال عطية لاستكمال تصوير فيلم "قنديل أم هاشم" رائعة الكاتب يحيي حقي وعندما عاد إلى القاهرة بعد 25 يوماً من التصوير المتواصل وجد في انتظاره رسالة من المخرج جلال الشرقاوي ومعها نصاً مسرحياً للكاتب الشاعر نجيب سرور كان اسمها "أه يا ليل يا قمر" وأن هيئة المسرح سوف تقوم بالإشراف على تنفيذها، وقرأ "سرحان" النص فأعجبه، وقال عنه "هايل." ووافق على الفور على الإشتراك في العمل الذي كان ملحمةً واقعية تجري أحداثها في جوٍ سياسي وطني. وبدأ التمرينات، وكان معه سهير البابلي ونجحت المسرحية واستمر عرضها شهوراً طويلة.
بين المسرح والسينما
عاد شكري سرحان مرة ثانية إلى المسرح ولكن بعد وفاة الرئيس عبد الناصر عندما كتب فايز حلاوة مسرحية غنائية استعراضية أخرجها كرم مطاوع، وغنت فيها عفاف راضي من ألحان بليغ حمدي وكانت البطولة النسائية للقديرة تحية كاريوكا وكان من أبطالها عبد الغني قمر وأحمد عبد الحليم وسعاد نصر وأحمد عبد الوارث وكان "سرحان" يؤدي دور الرئيس الراحل جمال عبد الناصر واسم المسرحية "ياسين ولدي".
وفي السينما، إستمر مشوار شكري سرحان قوياً متمكناً. والتقى فيه بالمخرج حسن الإمام في فيلم "الحلوة عزيزة" مع المبدعة هند رستم وكان هو اللقاء الثاني بعد "رد قلبي" الذي أدت فيه دوراً صغيراً. ولكنه ظل محفوراً في وجدان الناس حتي اليوم. وكذلك كان أداؤها بفيلم "الحلوة عزيزة" في قمة الإبداع الفني. كما اشتركت هند رستم معه في طريق الأبطال وكان لقاؤه بعد ذلك مع "الامام" في مجموعة من أفلام الميلودراما التي كان يشتهر بها منها "أنا بنت ناس" و"قلوب الناس" و"أسرار الناس" و"زمن العجائب" و"صائد الرجال" و"إغراء". ثم كان آخر لقاء "الإمام" في المسلسل التليفزيوني "صاحب الجلالة الحب" قصة الكاتب الكبير مصطفي أمين. وفيه أدى الشخصية الحقيقية للاستاذ مصطفى أمين، وجسد فيه كل ما عاناه في السجن السياسي.
الشاب المدلل
واجتمع مجدداً بلقائه الأخير مع المخرج عزالدين ذو الفقار ومع رشدي أباظة وهدي سلطان وزكي رستم بفيلم "امراة في الطريق" وفي هذا الفيلم رفض أن يقوم بدور الشاب الطيب أي الدور التقليدي. وطلب من المخرج ومن كاتب القصة والسيناريو عبد الحي أديب أن يمنحاه الفرصة للقيام بدور الزوج الشاب الضعيف الشخصية المعقد الذي يدلله والده تدليلا كبيراً مما أصابة بالسلبية واللامبالاة، وعدم الجدية. ووافقاه على ما طلب وهما في غاية الدهشة- كما يقول "سرحان" لأنهما تعودا عليه في أدوارٍ كلها جد ورجولة والتزام بالتقاليد واحترام المثل العليا. ولكنه أقنعهما بأنه شغوف ومشتاق إلى التغيير، ثم أن في هذه الشخصية فرصة واسعة للتغيير والتبديل في أدائه التمثيلي.
ويقول عن هذا: "وبقدر ما كنت مشفقاً على نفسي من هذه التجربة الفنية ينتابني قلق شديد من رد الفعل عند الجماهير إلا ان الله سبحانة وتعالى منحني قبولاً وتقديراً كبيراً عند المتفرجين للإداء".
ثم كان الحدث التاريخي الهائل وعبور القوات المصرية المسلحة خط بارليف واستطاعت أن تحطم أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لا يقهر وتنافس الكتاب والمؤلفون في التعبير عن رد فعل هذا النصر المبين بأشكالٍ مختلفة من كتاباتهم. وكان من نصيب "سرحان" في هذا الإنتاج الهائل مسرحيتين الأولى بإسم "أيوب الجديد" من تاليف الكاتب الإذاعي يوسف الحطاب ومن اخراج كمال حسين، واشترك في البطولة كريمة مختار وزوز ماضي، والمسرحية الثانية كانت من تأليف الأستاذ سعد الدين وهبة كانت باسم "رأس العش" وقامت بالبطولة فيها سميحة أيوب.
السينما العالمية
يقول "سرحان": "كانت لي تجربتين لا أًنساهما أولاهما حين اتصل بي فتحي ابراهيم وكان رئيسا لشركة الإنتاج العالمي كوبرو فيلم وأخبرني أن شركة سينمائية إيطالية سوف تشترك مع مصر في إنتاج فيلم باسم إبن كليوباترا وأنهم اختاروني للقيام بدور البطولة الثانية في هذا الفيلم الذي كان يقوم بدور البطولة الأولى فيه الممثل الأميركي كارك ديومزن ما. وكان يشترك فيه أيضا بعض الفنانين والفنانات الإيطاليين. ومن مصر اشترك فيه العملاق يحيي شاهين وسميرة أحمد وحسن يوسف. وقام بإخراجه أستاذ في جامعة روما. وهو في نفس الوقت مخرج سينمائي. وكانت فرصة فريدة لي أن اشاهد بعيني عملاً سينمائياً يلتزم بالمثالية في كل نواحيه إنتاجاً وإخراجاً وتصويراً. فمواعيد التصوير مثلاً تسير بدقةٍ شديدة. لا تاخير ولا تعطيل ولا تأجيل، ولا شئ من هذا القبيل على الإطلاق".
ةيواصل: "بالمناسبة أذكر أنه كان هناك موعداً للتصوير في منطقة صحراوية اسمها بني سويف، وكان موعد اللقاء هناك في الساعة السادسة صباحاً اخذت سيارتي وذهبت في الموعد المتفق عليه بالضبط ولم أجد أحداً قد وصل وبعد عشر دقائق فقط وصلت عربات التصوير وبها الفنانين والفنيين الأجانب ومعهم المخرج ومساعديه وحينما راني المخرج وقد وقفت في انتظارهم خرج من السيارة وأسرع إلى معتذرا في خجلٍ شديد لدرجة أنني لاحظت أن وجهه قد شحب وهو يعدني بأن هذا لن يتكرر أبدأ. فابتسمت وطيبت خاطره بكلماتٍ رقيقة وأنا في شدة العجب. فهذا الرجل هو مخرج الفيلم أي الرجل الأول في كل شيء. ثم هو أستاذ في جامعة روما والتأخير لم يزد عن عشرة دقائق والأعجب من هذا أننا حينما بدأنا التصوير وذهبت إلى هناك لأبدأ المشهد الأول، فإنه بمجرد أن شاهدني أمامه أسرع بتكرار الإعتذار لي أمام الجميع. تذكرت هذه الواقعة وأدركت لماذا يصل هؤلاء الناس إلى هذه المكانة الفنية".
الحضارة الفرعونية
قصة الحضارة الفرعونية أحد نوافذ شكري سرحان على السينما العالمية، فالتجربة الثانية كما يرويها كانت حينما اتصل به للمرةٍ الثانية فتحي إبراهيم وأخبره أنهم سوف يعملون مع المخرج العالمي روسيلليني لإنتاج ثلاثة أجزاء بإسم قصة الحضارة تحكي عن ثلاثة مراحل للحضارة على مر العصور. وبالطبع فإن المرحلة الأولى سوف تصوّر الحضارة الفرعونية في مصر القديمة. وأن المخرج روسيلليني شاهد بعض الصور لشكري فاختاره كي يؤدي شخصية المهندس الفرعوني الذي قام بتصميم هرم خوفو الأكبر.
ويقول شكري: "اجتاحتني فرحة عارمة وأنا أسأل نفسي: هل أنا في حلم أم علم المخرج العالمي روسيلليني في مصر وسوف يقوم بنفسه باخراج قصة الحضارة الفرعونية على رمال منطقة الاهرامات عندنا؟ وهل صحيح أنه اختارني للقيام بدور رئيس في هذا العمل؟ تحسستُ رأسي بيدي حتى أتاكد أنني لست في حلم! ومن العجيب أنه في أول يوم للتصوير حينما ذهبت إلى منطقة العمل بجوار الهرم، تركت سيارتي في مكان انتظار السيارات وركبت سيارة يسهل قيادتها في المناطق الرملية وحينما اقترب السائق من مكان التصوير ونزلت من السيارة وجدت على بعد امتار المخرج العالمي روسيلليني يجلس وسط مجموعة من الأجانب ومعهم بعض رجال الصحافة الأجنبية يجلسون جميعاً والى جوارهم ثلاجة ضخمة مملوءة بزجاجات العصير والمياه المعدنية".
يضيف: "حينما اقتربت منهم وشاهدني المخرج الكبير أسرع بالوقوف والاقتراب مني قائلاً بالإنجليزية: أهلا وسهلاً بك تفضل واجلس. واشار إلى مقعده لأجلس عليه انتابتني لحظات من الخجل والحرج، ورفضت بشدة شاكراً له كرم أخلاقه ولكنه ازداد تصميماً على أن أجلس وصممت أيضا على الإعتذار وقلت له أنت ضيفنا هنا في مصر ولقد تعودنا على أن نكرّم ضيفنا. ثم أنت مخرج عالمي كبير تستحق كل التكريم. فضحك وقال لي دعك من كلمة كبير هذه إنما أنا أؤدي عملي بإخلاص وصدق فقط. فقلت له للمرةِ الثانية أنت ضيفنا هنا. فابتسم وقال نحن أبناء مهنة واحدة، وإن اختلف المكان. لقد شاهدت صورك في شركة كوبرو فيلم وقالوا لي إنك أحد النجوم الكبار في الساحة السينمائية في هذه المنطقة، لهذا يسعدني أن أحييك. فأنا أعلم تماما ًكيف يتعرّض النجوم في بدء حياتهم الفنية لشتى أنواع المعاناه والصعوبة حتي يصلوا إلى هذه النجومية. وقفت أمامه مذهولاً لا انطق بكلمة. وكانت إدارة الإنتاج قد أحضرت مقعداً آخر جلست عليه وشكرته كثيراً. وقلت له أنا أفضل الذهاب لعمل الماكياج ثم ارتداء الملابس الخاصة بي، فقال لي لا مانع ولكن بعد أن تشرب بعض العصير المثلج فما أحوجنا اليه ونحن في قلب الصحراء والجو شديد الحرارة كما ترى. وتذكرت مرةً ثانية قول الشاعر العربي الكبير "إنما الأمم الاخلاق ما بقيت..فإن هم ذهبت أخلاقهم ذهبوا".
التعليقات