إيلاف من كان: على هامش مهرجان كان السينمائي التقينا بالناقد والكاتب اللبناني ابراهيم العريس الذي كان ولازال يغذي الصحف العربية بمقالاته عن السينما وعن الفنون جميعا، وكان لنا معه هذا الحديث خاصة بعد تكريمه مؤخراً في مهرجان مالمو للسينما العربية والتي كانت السعودية ضيف الشرف في دورته الأخيرة..


تم تكريمك مؤخراً في مهرجان مالمو للسينما العربية، وفي نفس التكريم كانت السينما السعودية هي ضيف الشرف في المهرجان. ربما كانت المرة الاولى التي تلتقي بها بصناع افلام سعوديين؟

في الحقيقة يا صديقي أن التكريم لم يكن لي بل كان تكريما تشاركت في تقديمه مع مهرجان مالمو إنطلاقا من فكرة كنت اتداول بها منذ سنين مع السينمائي الصديق محمد قبلاوي مؤسس مهرجان مالمو ورئيسه. فمنذ زمن نلاحظ انا وهو أن ثمة مهرجانات عديدة تقام خارج المنطقة العربية وفي مدن ومناطق ذات تراث حضاري كبير، ومع ذلك قلما اهتمت هذه المهرجانات بثقافات البلد المضيف، كما أنها نادرا ما قدمت لتلك الثقافات ما يشي بشيء من الممنونية. وهكذا استقر رأينا على البدء بمبادرة تقوم في اتجاهين: من ناحية رفد جمهور المهرجان العربي بما يساعده على التعرف على بعض السمات الإبداعية للبلد المضيف، ومن ناحية ثانية إشعار هذا البلد بأن العرب يفهمون لغة التلاقح الحضاري. ولم يكن ثمة اختيار في هذا المجال أفضل من السينمائي الكبير إنغمار برغمان فكان كتابي عنه الذي صدر خلال الدورة الأخيرة لمالمو بالعربية والإنكليزية وسيصدر قريبا بالسويدية. وكان تقديمنا للكتاب في مكتبة مالمو الوطنية تكريما للسويد ولجمهورنا العربي في وقت واحد.


ابراهيم العريس مع رئيس مهرجان مالمو للسينما العربية محمد القبلاوي تصوير أثير العباس

كان لك سابقا لقاء مع السينما السعودية من خلال السينمائي السعودي عبدالله المحيسن وبعد سنوات تلتقي بالعديد من الشباب في هذا المهرجان؟

كانت الدورة الأخيرة من مالمو (مايو 2022) بالنسبة إلي إضافة لذلك، مناسبة أعيد بها ارتباطي بالسينما السعودية التي بدأ اهتمامي بها باكرا جدا. وهو، كما تعرف، إهتمام تمثل قبل سنوات في إصداري كتابا عن السينمائي السعودي الرائد عبد الله المحيسن بعنوان "من مكة إلى كان" (2007). وهو كتاب تابعت فيه مسيرة المحيسن وأفلامه التي استغل الفرصة لأقول أنها عرفت كيف تنبه قبل عقود الى التخبط القاتل الذي تعيش فيه أمتنا اليوم. لكني فتحت فيه أيضا على نوع من التأريخ للسينما السعودية وصولا إلى فورتها الأخيرة. ومن هنا كانت لقاءاتي خلال الحضور المدهش للسينما السعودية في مالمو، استمرارا لعلاقتي السابقة بهذه السينما. والمدهش أن تلك المناسبة السويدية، والتي نعرف أن مناسبات كثيرة أخرى ستتلوها أولها في ستوكهولم العاصمة من خلال أسبوع للسينما السويدية يقام هناك في الخريف المقبل، بدت بالنسبة إلي وكأنها من ناحية تحصيل حاصل بمعنى أنني كمن كنت أنتظرها منذ زمن بعيد، ومن ناحية ثانية تجديد على كل الصعد لسينما نبتت فجأة وبدت كما لو أنها تحل بديلة عن سينمات عربية كثيرة!

والمدهش أيضا في الأمر هو أنني اكتشفت جيلا جديدا من صانعي الأفلام لا يزال أبناؤه في سن مبكرة ومع ذلك يعبقون بالأمل والتفاؤل حاملين جديدا قد يقض مضاجع بلادة السينمات العربية السائدة. وهو شعور منحتني إياه الأفلام القليلة التي أتيح لي مشاهدتها في مالمو وأتوقع أن تتاح لي فرصة أوسع في مهرجان السينما السعودية بعد أيام. أعترف أنني أنا الذي ما عاد يدهشني شيء، أدهشني حماس هذا الجيل الجديد من السينمائيين السعوديين وانجازاتهم، كما أدهش بخاصة الجمهور السويدي في مالو وكذلك في كوبنهاغن وفي نحو دزينة ونصف الدزينة من مدن اسكندنافية أخرى جالت فيها ولا تزال تجول تلك الأفلام. وفي يقيني أن هذا الإنفتاح على أوروبا من شمالها، والذي وفرته مناسبة مالمو قد يكون خير انفتاح للسينما السعودية الجديدة على العالم وليس في البعد الفني فقط بل في البعدين السياسي والحضاري أيضا. فأن تقدم سينماك الى جمهور أوروبي معناه فورا أنك تنسف أفكارا سيئة مسبقة تتعلق بالإرهاب والبترول وما إلى ذلك، لتقدم فكرة جديدة تنطلق من أفلام تثير الفضول وتصنعها أيد ووجوه مبتسمة تبدت خير سفيرة لبلدها وثقافتها الى العالم "المتحضر". ولو لم يفعل "مالمو" سوى هذا لكان عملا رائعا.

* معظم صناع الافلام السعوديين لم يدرسوا سينما برأيك كيف يتم تجاوز هذه العقبة؟

صحيح أن كثرا من السينمائيين السعوديين الشبان الجدد لم يدرسوا السينما في المعاهد العريقة. لكني من خلال مناقشات لي مع أكثرهم أدركت أنهم درسوها في المكان الأفضل لدراستها: أمام شاشات السينما أو الشاشات التلفزيونية العريضة. في الأمكنة التي وفرت لهم ما أسميه "الحماس والبوصلة" ولقد بدا لي أنهم يفقهون في لغة السينما ودلالاتها أضعاف ما يفقهه آخرون أفنوا من عمرهم سنوات وهم "يدرسونها". وأنت وأنا نعرف دائما أن خير طريقة لتعلم السباحة هي أن نرمي أنفسنا في الماء كما تقول روزا لوكسمبورغ. وها هم شبان الثلاثينات من مخرجين وكتاب ومنتجين وموزعين ونقاد أحيانا حتى، يرمون أنفسهم في الماء وليس أمامهم إلا أن ينجحوا.

* دائماً تقول ان السينما السعودية لاتملك تاريخ يقيدها..هل من الممكن أن يكون تاريخ السينما عبء اكبر من كونه ميزه؟
أنا أعتقد دائما أن أقسى ما يكبل المبدع هو أن يحاول العمل في منطقة لديها تراث عريض ومتجذر بالنسبة الى النوع الذي يبدعه وللسينما خصوصيتها في هذا المجال حيث يصبح الإرث قيدا ولا سيما من خلال العلاقة مع الجمهور حتى ولو تجاوز حضوره البلد المعني. ومن هنا، على رغم الأهمية التي يمكن أن نسبغها أحيانا على الإرث السينمائي في بلد ما، لا شك أن ولوج أنماط جديدة من الإبداع في هذا المجال لن يكون سهلا على من يريد التجديد. ولعل في مقدوري أن أذكر بثلاث أو أربع سينمات عربية تمكنت من خوض لعبتها التجديدية بفضل عدم انتمائها إلى تراث سينمائي مكبل: السينما الفلسطينية والسينما التونسية وربما المغربية أيضا. أما سينمات كالمصرية خاصة واللبنانية والجزائرية فإنها تعاني اليوم ما تعاني من جراء الإرث الثقيل الذي يكبل مبدعيها.

* التقيت بمسؤولين عديدين سعوديين في مالمو. من صناع افلام او مسؤولين ماذا تقول عن هذه اللقاءات؟

طبعا أعرف كثرا من المسؤولين السينمائيين العرب وغير العرب، كما أعرف، وتعرفت أكثر في مالمو كما في "كان"، على مسؤولين سينمائيين سعوديين ولقد أدهشني لدى هؤلاء تواضعهم الجم وسلوكهم كمبدعين حقيقيين. وأقول لك أن هذا تجلى بشكل مفاجيء مثلا خلال الندوة التي عقدها الصديق عبد الله آل العياف في مالمو، حيث في قاعة ازدحمت بالحضور بشكل ندر أن شهدته مناسبة سينمائية من هذا النوع تحدث كمبدع يعرف حدود مسؤولياته وبتواضع غريب عن أحلامه ومشاريعه لسينما بلاده، مستمعا إلى الملاحظات بكل فضول، متحدثا عن الأحلام دون أن تسهو عنه الصعوبات منفتحا أمام الإقتراحات بشكل بدا معه وكأنه هو المستمع والجمهور المحاضر. وكنت أعتقد أول الأمر أن هذه سمات شخصية فيه، لكني خلال لقاءاتي مع آخرين مثل الصديق فيصل بالطيور وغسان حبيب ورؤى مدني، وغيرهم تبين لي أنني بصدد أخلاقيات عامة يجب أن نتعلم كيف نتعامل معها بشكل يختلف عما اعتدناه من تعامل مع مسؤولين سينمائيين في بلدان أخرى، يصبحون أصدقاء لنا فقط حين يُبعدون عن مراكزهم ما يذكرني بكيف أن الرؤساء الأميركيين يصبحون من أنصار القضايا العادلة حين يضحون رؤساء سابقين فقط

* الحديث باكرا عن اسلوب السينما السعودية..برأيك هل هناك سمة ستكون مرتبطة بالسينما السعودية؟

جوابي على سؤالك الأخير يعود بنا إلى جوابي على السؤال قبل السابق. ولعل في إمكاني أن أعطي مثلا هنا فيلم "جنون" الذي كان من بين ما شاهدته في "مالمو". فلقد لفتني فيه لغة سينمائية مرحة ولكن تنبض بالحياة وتتبع توليفا متحركا قد لا نجد له مثيلا إلا في سينما المغربي هشام العسري، ومرحا يماثل المرح المر في سينما إيليا سليمان الفلسطيني.

هو أسلوب يرتبط بتيار قناة إم تي في الموسيقية الأميركية وبأسلوب الفيديو كليب الشبابي المتحرك في دينامية فريدة تحرك التمثيل والحوارات. مثل هذا الفيلم قد يكون نموذجا فذا على اسلوب جديد في السينما السعودية يفلت من الإرث المكبل ويستهوي شبانا من متفرجين اعتادوا خلال العقدين الأخيرين على بصريات جديدة حتى وإن كان قد صوّر في أميركا.