بعد أن كانت، سان تروبيه، قرية صيد هادئة، تحولت هذه المدينة الخلابة الواقعة على الريفييرا الفرنسية ( المدن الوقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط جنوب شرق فرنسا)، إلى واحدة من أكثر الوجهات الصيفية ازدحاما في منطقة البحر الأبيض المتوسط.

وفقا لمجلس السفر والسياحة العالمي، فإن فرنسا تحتفظ بمكانتها كأكثر الوجهات شعبية في العالم للزوار الدوليين هذا العام. وعلاوة على ذلك، تظل هي الدولة الأكثر زيارة في عام 2025، إذ تجتذب أكثر من 93 مليون مسافر دولي، ويقال إن السياح الأميركيين هم من يغذون هذا الارتفاع.

ومع ذلك، فإن هذه الشعبية تأتي مع مجموعة من التحديات. إذ تعاني بعض المواقع الأكثر شعبية في فرنسا من آثار السياحة المفرطة، وفي بعض الحالات، تهدد أعداد الزوار بتدمير البيئات الطبيعية الهشة. لذلك وضعت الحكومة الفرنسية خارطة طريق لتعزيز السياحة المستدامة - من خلال إنشاء نظام تصنيف الفنادق الأكثر خضرة، وتحسين البنية التحتية لركوب الدراجات، والاستثمار في وسائل النقل العام.

وبينما يتم تنفيذ هذه الخطة على مدى عشر سنوات، فإن الإجراءات واسعة النطاق تسير على قدم وساق، ففي عام 2023، حظرت الحكومة الفرنسية جميع الرحلات الجوية الداخلية إلى وجهات يمكن الوصول إليها بالقطار في أقل من ساعتين ونصف، وفي هذا الصيف، استحدثت الحكومة تذكرة قطار شهرية بقيمة 49 يورو للشباب الذين تتراوح أعمارهم بين 16 و27 عاما، والتي تغطي السفر غير المحدود على شبكة السكك الحديدية الإقليمية تي إي آر TER والقطارات بين المدن على مستوى البلاد، ولكن ليس خدمات القطار الأسرع تي جي في TGV.

حقول الخزامى (لافيندر)
Alamy
تكتظ العديد من أجزاء فرنسا، مثل حقول الخزامى (لافيندر) الشهيرة، بالسياح كل صيف

تقول مارين تيست، رئيسة العلاقات العامة في وكالة تنمية ودعم السياحة الفرنسية، هناك الكثير من التحديثات الحاصلة. ويشمل تصنيف الفنادق الوطنية الأكثر خضرة في الوكالة الآن أكثر من 80 في المئة من الفنادق في فرنسا، هناك أيضا خطة قائمة لتطوير مسارات ركوب الدراجات في البلاد لتصبح الوجهة الأوروبية الأولى لركوب الدراجات بحلول عام 2030، ونحن نروج لوجهات أقل شهرة أو طرق بديلة لاستكشاف الوجهات الشهيرة".

وتشجع المكاتب السياحية الإقليمية الزوار على تجنب الأماكن المشهورة والمزدحمة مثل دير سينانك الذي تنشر صوره بكثرة على موقع إنستغرام، وحقول اللافندر المحيطة به في بروفانس، أو المنحدرات الحجرية الجيرية في إتريتات في نورماندي، والتي اجتاحها الزوار مؤخرا، وذلك بفضل شعبية مسلسل "Lupin" الشهير على منصة نتفلكس، ويُنصح الزوار إما بزيارة مواقع بديلة مماثلة مثل قرية فالوري التي تعود إلى العصور الوسطى في منطقة دروم في جنوب جبال أوفيرن رون ألب وحقول اللافندر الأقل شهرة، أو تجنب السفر خلال موسم الذروة في الصيف.

وفي إتريتات، أزال مجلس المدينة موقف سيارات على قمة الجرف لمنع الناس من التوقف لمجرد التقاط الصور وأنشأ سياجا لحماية المناظر الطبيعية المتآكلة، كما أُغلق منتزه كالانك الوطني في مرسيليا جزئيا أمام الزوار خلال موسم الذروة للحد من التلوث البحري وحماية النظام البيئي الدقيق لخلجان الحجر الجيري، وتسعى مدينة نيس إلى تعزيز أجندتها الشتوية، من خلال تشجع الناس على الجمع بين قضاء إجازة قصيرة في المدينة والتزلج في جبال الألب الجنوبية، على بعد أقل من 50 كيلومترا من المدينة.

ثم هناك سان تروبيه، وهي أشهر قرية صيد في العالم، والتي تشجع السياح على الابتعاد عن زيارتها خلال موسم الذروة بطريقة غير مباشرة، "لا تأت في الصيف"، وهكذا أخبرتني عمدة سان تروبيه، سيلفي سيري، في وقت سابق من هذا العام كجزء من حدث يسمى "سر سان تروبيه"، والذي تم تصميمه للترويج للمدينة كوجهة سياحية خارج موسم الصيف، "تعال في الربيع للاستمتاع بسان تروبيه كما كنا نفعل في طفولتنا".

كانت سان تروبيه، التي تقع على الريفييرا الفرنسية ( المدن الوقعة على ساحل البحر الأبيض المتوسط في جنوب شرق فرنسا) في منتصف الطريق بين مرسيليا ونيس، أكثر من مجرد رأس هادئ يصعب الوصول إليه حتى القرن العشرين، عندما انجذب الفنانون البوهيميون ونجوم السينما لاحقا إلى جمالها البروفنسالي، وفي العقود الأخيرة، تحول مجتمع الصيد الهادئ هذا إلى ملاذ فاخر لليخوت وعشاق الحفلات الفاخرة - وفي هذه العملية، أصبح أحد أكثر الوجهات الصيفية ازدحاما في البحر الأبيض المتوسط، حيث يتدفق أكثر من 80 ألف زائر يوميا بين شهري يوليو/تموز وأغسطس/آب إلى القرية التي يبلغ عدد سكانها 4000 شخص.

مدينة سان تروبيه
Alamy
يتدفق أكثر من 80 ألف زائر يوما إلى مدينة سان تروبيه الصغيرة في الصيف.

قالت كلارا رونديني، أحد أفراد عائلة رونديني من صانعي الصنادل في تروبيه، والذين عاشوا وعملوا في سان تروبيه منذ عام 1927، لقد فقدت المدينة سحرها بسبب السياحة المفرطة، وأضافت: "أصبح الأمر يتعلق بالمال أكثر مما ينبغي، أي أنها أصبحت (آلة نقود)، كما نقول بالفرنسية، إنه أمر محزن لأن سان تروبيه، في النهاية، هي وجهة هادئة حول الطبيعة والهواء النقي والسباحة والنبيذ الوردي البسيط ولعبة البتانك ( لعبة عشبية تشبه لعبة البولينج، تُلعب بشكل رئيسي في بروفانس)".

وتتفق المرشدة السياحية فريديريك شاجنون لوكونت على أن سان تروبيه مكان مختلف في موسم الذروة: "إذا أتيت في الصيف، فسترى الشمس والمطاعم والنوادي الشاطئية، ولكن هذا كل شيء، نحن لا نكره موسم الذروة لأنه يمكّننا من البقاء، ولكن من المهم أن نفهم أنه مجرد جزء واحد من صورة سان تروبيه، نحن سعداء خلال الصيف عندما يكون مزدحما ولكننا نحب أيضا وقت الشتاء عندما نتمكن من استعادة قريتنا".

تحت قيادة سيري، تحاول سان تروبيه أن تصبح وجهة سياحية على مدار العام، ففي حين يشهد الصيف حضور المشاهير واليخوت الفاخرة والفنادق ومشهد الحفلات الشهير على شاطئ بامبلون، فإن الزيارة خارج الموسم تسمح للمسافرين بتجربة المدينة كما كانت من قبل، حيث تقوم قوارب الصيد بتوصيل الصيد، وتنذر أزهار الوستارية بوصول نبات الزهرة الجهنمية وتشير الأرصفة إلى البحر الأزرق الصافي (الذي يخلو من العديد من الزوارق السريعة والسباحين والقوارب الصغيرة التي تزدحم به كل صيف).

مدينة سان تروبيه
Alamy
تجذب مدينة سان تروبيه الفنانين منذ ثلاثينيات القرن العشرين

وفقا لفاليري فاندن بوسش من سياحة سان تروبيه، لا تريد العمدة أن تكون القرية مجرد وجهة للسياح، تريد سيري خدمات محلية لسكان المدينة البالغ عددهم 4000 نسمة على مدار العام، واستثمارا في مكتبة أفضل ومحلات بقالة وإقامة بأسعار معقولة، وبعد كل شيء، كما يقول فاندن بوسش، عليك التأكد من أن السكان المحليين قادرون على تحمل تكاليف العيش في المكان ليمنحوه الحياة.

كما تحرص سيري على رعاية العديد من الحرفيين في القرية، مثل صانع جبن الماعز الشهير لويك دي سالينوف وغيره من أساتذة الطهي والحرفيين - من خبازي التارت تروبيزيان الشهيرة إلى عائلة رونديني - لضمان ازدهارهم جنبا إلى جنب مع انتشار العلامات التجارية الكبيرة.

ويتضمن جزء من جهود سان تروبيه لتوسيع عدد زوارها تقويما جديدا للأحداث على مدار العام، بدلا من يوليو/تموز وأغسطس/آب فقط، فهناك موسم الإبحار الذي يبلغ ذروته في سبتمبر/أيلول (28 سبتمبر/أيلول - 6 أكتوبر/تشرين الأول 2024)، وسوق المصممين في أكتوبر/تشرين الأول، وماراثون غولف سان تروبيه (30 مارس/آذار 2025)، ومهرجان برافاديس التاريخي في مايو/آيار، الذي يحتفل بقديس المدينة، والعديد من الأحداث الجميلة والرائعة.

وتعمل هيئة السياحة أيضا على توفير مسارات للأنشطة خارج الموسم، مثل المشي لمسافات طويلة على طول مسار ساحلي يبلغ طوله 10 كيلومترات ويربط المدينة بشاطئ بامبيلون حول شبه جزيرة سان تروبيه.

لكن أحد التحديات التي تواجهها سان تروبيه هو تشجيع فنادقها على البقاء مفتوحة طوال العام، إذ يفتح فندق فيلا كزري الفاخر والمنتجع الصحي الواقع على مشارف المدينة أبوابه لمدة 10 أشهر في السنة، ويقول مديره، ألكسندر بيرين، إنها أطول فترة افتتاح لفندق خمس نجوم في سان تروبيه، ويضيف: "لدينا 15 موظفا رسميا بعقود طويلة الأجل لأننا نفتح طوال العام وهذا يعني أننا نحتفظ بالموظفين لفترة أطول ويمكننا ترقيتهم".

وتقول أليس ديجين، مديرة التسويق في فندق باريس سان تروبيه، إنهم يعملون على زيادة فرص العمل خلال ما تسميه "الموسم الصيفي" - الأشهر التي تقع ضمن أشهر الذروة - من خلال توفير بعض الفعاليات والخدمات مثل وجبة إفطار/غداء (برانش) يوم الأحد وحفلات Soirées La Vie En Rose (عروض دي جي للنساء فقط وكوكتيلات وردية اللون على تراس سطح الفندق).

وحتى المسافرين الذين زاروا سان تروبيه عدة مرات سيجدون شيئا جديدا ومنعشا إذا زاروها في الربيع أو الخريف، فبدون الحشود الخانقة والحرارة، يمكنك أن ترى ما هو أبعد من اليخوت "المتلألئة" والمطاعم المطلة على الميناء والبوتيكات، ما يمنحك الوقت والمساحة لاكتشاف الشواطئ الهادئة والتاريخ الغني والسكان المحليين الفخورين والمتحمسين، إنها بالتأكيد محطة أولى جديرة بالاهتمام في أي رحلة للعثور على فرنسا البديلة.