تزدحم غالبية عيادات الأطباء في العراق بالمرضى، لاسيما في أوقات المساء، لكن ما يثير في تلك العيادات أنها أضحت أماكن تسودها الفوضى، إضافة إلى سعي الأطباء إلى جمع أكبر ثورة ممكنة من وراء مرضاهم هؤلاء.
يبدي أبو أحمد (60 سنة) امتعاضه من مراجعة طبيب القلب الاختصاصي في شارع السعدون في بغداد، لأن عليه الانتظار طويلاً، مترقبًا دوره، وربما يدفعه وقته الضيق إلى رشوة (فرّاش) العيادة، الذي ينظم ترتيب الدور.
وبحسب quot;أبو أحمدquot;، فإن دَسْ خمسة آلاف دينار في جيب الفراش، يختصر طول انتظارك، وكلما زاد المبلغ، كلما اقترب موعد لقائك بالطبيب.
وتزدحمغالبية عيادات الأطباء في العراق بالمرضى، لاسيما في أوقات المساء. لكن ما يثير في تلك العيادات أنها أضحت أماكن تسودها الفوضى وسوء الترتيب، إضافة إلى انحسار وسائل راحة الزبائن فيها، رغم المداخيل الجيدة للأطباء.
ورغم السلبيات، التي تحيط بالعيادات الخاصة، إلا أنها مازالت الحل الأمثل للعلاج في العراق، في ظل الإمكانات المتواضعة للمستشفيات الحكومية والعيادات الشعبية، وتهافت الأطباء على جذب المرضىإلى عياداتهم الخاصة.
وتشير إحصائيات وزارة التخطيط والتعاون الإنمائي العراقية في عام 2011، إلى أن عدد المستشفيات في عموم العراق يبلع 224 مستشفى و1492 مركزاً صحياً و354 عيادة شعبية، ومعظمها غير مؤهل تمامًا لتقديم علاج كامل للمرضى.
عيادات غير مؤهلة
تنتقد المدرسة زهرة حسين، التي تزور عيادات الأطباء بين الفترة والأخرى، الإهمال من قبل الأطباء لعيادتهم، ذلك أن الكثير منها مجهّز بأثاث مهترئ وكراس تالفة، وستائر تعلوها الغبار والأتربة علقت بمسامير وبطريقة بدائية.
كما إن عيادات عديدة تقع في طبقات عليا، حيث المصاعد الكهربائية معطّلة، بل إن بعضها يفتقد أبسط وسائل الراحة، مثل الماء، الذي ينقطع بين الفينة والأخرى.
وتقول حذيفة كريم من المحمودية (15 كلم جنوب بغداد)، التي عملت مساعدة لطبيباختصاصي في شارع السعدون، إن الكثير من الأطباء يهمّهم جمع المال فحسب، ولا يعبأ الطبيب بمظهر عيادته طالما أن اسمه بات مشهورًا، والمرضى يتوافدون عليه بالعشرات يوميًا.
وتضيف: هناك شبكات عمل بين الأطباء والصيدلياتتهدف إلىكسب الزبائن، بل إن بعض الأطباء ينشرون عملاء سريين لهم في الشوارع القريبة المزدحمة لكسب المرضى.
يضطر أبو حسام المصاب بمرض في كبده إلى مراجعة الطبيب الاختصاصي في عيادته الخاصة، بعدما نصحه بعض الموظفين العاملين في المستشفى بضرورة القيام بذلك.
مريض يائس
يقول الموظف الصحي باقر حسن إن بعض الأطباء يجبرون المريض بسلوكياتهم على اللجوء إلى عياداتهم، بعد أن يكون المريض قد يئس من أن الطبيب الاختصاصي سوف لا يعير له اهتمامًا إلا إذا لجأ إليه في عيادته الخاصة.
وتدارغالبية العيادات والصيدليات عبر شبكة من العلاقات الخاصة، فلكل طبيب معاملاته الخاصة مع صيدليات معينة، والعكس صحيح أيضًا.
وبحسب إحصائيات وزارة الصحة، فإن عدد الأطباء في البلاد يبلغ نحو 5 آلاف و474 طبيباً مختصاً و11 ألف و314 طبيباً ممارساً من الجنسين. أما عدد أطباء الأسنان فوصل إلى 3 آلاف و759، فضلاً عن نحو 3 آلاف صيدلي، وأكثر من 70 ألف عامل في مجال الصحة.
ويقول الباحث الاجتماعي كريم حسن إن هذه الأعداد لا تتناسب وعدد سكانالعراق، وفق المعايير الدولية المعمول بها. وفي الحالات المستعجلة، حيث الوصول إلى الطبيب يكونأمرًا صعبًا، يصبح عليك لزامًا في بعض الأحيان دفع رشى أو الاستعانة بوسطاء لغرض العلاج.
لكن المشكلة الأهم التي يعانيها المواطنون، لاسيما الفقراء منهم وأصحاب الدخل المحدود، هي ارتفاع أجور الفحوصات والمختبرات والأدوية بشكل يبعث على القلق. ولا تتوافر في العراق أنظمة تأمين صحي فعالة، يمكن عبرها ضمان معالجة مناسبة، وفي الوقت المناسب، للفقراء على وجه الخصوص.
وفي ظل تحول المستشفيات ومراكز الصحة الحكومية إلى مراكز ثانوية للعلاج لدى كل من الطبيب والمريض، يصبح لزامًا على الطبيب والمريض الاتفاق على صيغة تضمن علاج المريض، وتضمن للطبيب في الوقت عينهدخلاً جيدًا، والصيغة هي العيادة الخاصة، التي أصبحت مركز استقطاب مجتمعي في ما يتعلق بالصحة.
الطب... تجارة
يقول الطبيب كاظم شكري من بابل (100 كم جنوب بغداد) إنه لا بد من الاعتراف بأن الطب اقترب من كونه تجارة، قبل أن يكون خدمة صحية وعلاجية.
ويتابع: الكثير من الأطباء صاروا تجارًا، ولديهم - غير مهنة الطب - مهن ومصالح أخرى، مثل بيع وشراء السيارات والعقارات.
ويمكن تتبع الفوضى الصحية الكبير في العراق إذا ما اقتربت من المراجعين لعشرات العيادات المنتشرة في شارع السعدون ومجمع منطقة الحارثية، لكن يجب أن يتوافر لك الوقت الكافي لسماع عشرات القصص، التي لا تصدق، حول ما يجري في تلك العيادات.
يحدث الأمر نفسه في كل مراكز المدن العراقية، حيث تنتشر عشرات العيادات لأطباء يحرصون على وضع الإعلانات واللوحات، التي تشير إلى اسمهم واختصاصهم.
تقول أم أحمد إن طبيبًا فحصها لمدة لا تتجاوز الأربع دقائق، بعدما انتظرت حوالى الثلاث ساعات في شارع السعدون. وتتابع: لم أعد أثق بالأطباء، فقد بدا الأمر كما لو أنه سباق مع الوقت، لكي يجني الطبيب أرباحًا أكثر. وتضيف: لم يتح لي فرصة أن أسأله، وبدا كما لو أنه يريد أن يتخلص مني.
تشخيص خاطئ
حدث الأمر عينه، لهيثم حسين (تاجر)، حيث يؤكد أن الطبيب أخطأ تشخيصه في المرة السابقة، وحين عاد إليه، كان العلاج والمرض مختلفين. يتفهم حسين الأمر قائلاً: المسألة واضحة، فقد كنت رقمًا بين عشرات الزبائن، الذين ينتظرون دورهم، وهي عملية تجارية بحتة ليس أكثر.
ويعترف الصيدلاني ستار الخفاجي بإشكالية العلاقة المتبادلة بين الطبيب والمريض. ويتابع: كيف نتصور عملية علاجية صحيحة من قبل طبيب يستقبل نحو مائتي مريض في نهار واحد.
وتصل أجرة الفحص، التي يتقاضاها الطبيب، إلى ما بين 25وحتى 40 ألف دينار عراقي، حيث يثقل هذا المبلغ كاهل الكثير من أصحاب الدخل المحدود.
وتقول أم علي، التي تشكو صعوبة في التنفس، إنه لا مفر من ذلك، بعدما عجزت المراكز الصحية الحكومية والمستشفيات عن توفير العلاج المناسب لها. لكن الطبيب حيدر الشكرجي يرى أن هناك مبالغة في تقدير الأرباح، التي يجنيها الأطباء، قياسًا إلى الجهد المبذول من قبلهم.
علاقة مصلحة
ويتابع: ينتقد البعض الطبيب لطلبه من المريض التوجّه إلى مختبر معين أو صيدلية معينة، ويتصورون أن الأمر يعود إلى علاقة تجارية أو علاقة مصلحة بين الاثنين.
ويوضح أنالعلاقة مهنية بحتة، وهناك تفاهم مشترك للوصول إلى نتائج أفضل في التشخيص. كما إن بعض الأطباء يعتمد على مختبر معين لمعرفته بكفاءة ذلك المختبر ليس أكثر.
ويصل فحص تحليل الدم في بعض المختبرات إلى نحو العشرين ألف دينار. ويطالب أحمد عجيم (موظف) برقابة صحية واقتصادية على عيادات الأطباء، كما ينتقد غياب جمعيات (حماية المستهلك) التي تساعد على الحدّ من جشع الأطباء.
وفي محافظة كربلاء (108 كم جنوب غرب بغداد)، كان منظر إحدى العيادات الخاصة يبعث على القلق، حيث الأقداح الوسخة، والمرافق الصحية الممتلئة بالأوساخ والحشرات والأتربة.
ويقول سعيد حسين (مهندس) إنه لا يمكن تصوّر عيادة صحية بهذه المواصفات غير اللائقة. وتبلغ دهشة حسين درجة لا يصدق معهاأن طبيبًا يمكن أن يعمل في مثل عيادة كهذه.
وفيغالبية مراكز المحافظات تنتشر عيادات تخلو تمامًا من أي وسائل للراحة، وإذا توافرت على مقاعد، فهي إما أن تكون متهرئة أو مكسورة.
التعليقات