حوار مع الفنان التشكيلي الفلسطيني شريف سرحان

غزة- علي أبو خطاب: الفنان التشكيلي شريف سرحان من مواليد غزة عام 1976، حاصل على دبلوم الفنون من جامعة ICS بالولايات المتحدة الأمريكية، شارك في العديد من ورش العمل والمعارض المحلية والدولية، تدرب في دارة الفنون بعمّان بين عامي 2001-2003، عضو مؤسس لمجموعة شبابيك من غزة للفن التشكيلي عام 2003، حقق ذاته وأسلوبه الخاص في المجالات التي خاضها حتى بعيداً عن اللوحة كالتكوين installation والتصوير الفوتوغرافي والفيديو آرت video-art ..

* كيف تؤثر المحدودية الجغرافية على خياراتك في التصوير الفوتوغرافي؟
- إذا تحدثنا عن المكان، فهو جزء هام ورئيسي من عملية التصوير، غزة مكان غني بالأحداث والأفكار رغم الحيز الضيق جداً، لدرجة أنه من الصعوبة أن يجد مصور أو تشكيلي قصصاً ومواضيع بهذا الغنى في مكان آخر. لكن التصوير للعمل الصحفي يختلف هنا، فالخيارات هي محدودة بحكم الحدث وما يُطلب منك، لكن إذا كان لديك موضوع تشتغل عليه كفنان، طبيعي أن تبحث بطريقة غير عادية فتظهر جمال مضاعف أو العكس أو تفاصيل وما إلى ذلك.. غزة غنية رغم ضيق المساحة الجغرافية وإغلاق الحدود، والمعاناة جزء من حياة الفنان، لذا تكون زيادتها مادة سخية ودسمة في إبداعه.

*الصورة الفوتوغرافية مرتبطة عادة بالاستعمال الصحفي.. هل تشكل الصورة الفوتوغرافية لوحة كاملة الفكرة كعمل تشكيلي بنظرك؟
- نعم، المصور الصحفي يعمل مع الكاميرا بلغة تختلف عن لغة الفنان معها، المصور معني بالخبر الذي تبثه الصورة ثم معني بتكوينها من ناحية الإطار والقياس وما يتعلق بنشرها، لكن المصور الفني ليس لديه مقاييس أو معايير ثابتة ليلتقط صورة يريدها عملاً فنياً، قد يذهب الفنان ليغطي حدثاً بالصور لكنه لا يندفع اندفاع المصور الصحفي للتوثيق، فالفنان يعمد إلى إخراج مختلف للصورة. لذلك التصوير الصحفي لحظي، لكن التصوير الفني هو لمدى الحياة إذا نجح الفنان في عملية التصوير.

*ربما تتجلى حرية الفنان بشكل أكبر في رسمه للوحاته أو حتى في الفيديو آرت أو التكوين.. لكن في التصوير الفوتوغرافي يصبح مجال الحرية أضيق بكثير.. هل هذا صحيح كمصور مجرب؟ وما مدى تدخلّك في شكل الصورة الأخير الذي يشاهده المشاهد؟
- ليس هذا صحيحاً إلى حد ما، فلا يوجد ما يضيّق على الفنان عمله سوى اختياره للأسلوب الخاطئ في التعبير. بمعنى أن هذا العمل قد يتناسب كموضوع في الفيديو آرت وليس التصوير فقط، أو العكس. الفنان عندما يحدد استخدام التصوير لتقديم الموضوع فهو يرى أبعاداً مختلفة عن عين المارة العاديين، يكفي إحساسه بمادة التصوير وألفته مع هذه المادة بمكانها وتفاصيلها، حيث عينه أبلغته بأشياء مختلفة استحقت تقديمها. الكاميرات الديجيتال مثلاً أصبحت في يد الجميع، والكل يصوّر، لكن ما الفرق بين صورتك كفنان وصورهم، هنا الفرق. لكل هذا لا أرى المجال ضيقاً. أما التدخل في الشكل النهائي للصورة فهو موضوع متروك للفنان، في الصحافة مثلاً ممنوع التدخل، إلا إذا كانت الصورة معتمة جداً يعمل الصحفي على زيادة إضاءتها أو إزالة بعض الغبش، لكن أن يقص شخصاً من مكانه مثلاً هذا غير وارد. العمل الفني مختلف قد تجمع أكثر من صورة.. تقص تلصق.. هذا شأنك لإخراج العمل النهائي، لكن من الأفضل أن تكون أنت صاحب الملكية الفكرية للصورة الخام، نسمع عن فنانين مثلاً يأخذون صوراً جاهزة لآخرين للعمل عليها، على الفنان أن تكون فكرته من الأساس من صميمه هو.

* ماذا عنك..؟
- لا أتدخل كثيراً فلا تتغير الصورة الأولى ذاك التغيير.

*هل تعتقد أنك قدمت تجديداً في المجالات الفنية التي خضتها مثل الفيديو آرت والتصوير..؟
- هذه التقنيات ليس جديدة بالطبع والتجديد في طريقة استخدامها يكاد لا يكون، لكن إذا قصدت التجديد فيما يقدم من خلالها فهي المادة الفلسطينية بشكل عام. أنا كفنان فلسطيني وجدت في هذه المجالات تجربة جديدة يمارسها الشبان، لكن ماذا تضيف للفن الفلسطيني عبر ما تقدمه؟ هنا السؤال. أنا أعمل على مواضيع جديدة ومختلفة فلسطينياً تحمل رسالتنا للمتلقي بسلاسة. المشاهد الغربي يرى فلسطين عبر الأخبار التي تذاع وتصله، لكنا نقدمها برؤى مختلفة، حيث نعطي المساحة الصغيرة تفاصيلها الكاملة، أو نأخذ الحدث من زوايا مختلفة. أنا أشعر أني أقدم بعملي جديداً في الموضوع والخامة والأسلوب وطريقة العرض، فمثلاً الفيديو آرت يتطلب موضوعاً مغايراً تماماً للتناول ثم النواحي الفنية غير المطروقة التي تميزه أكثر. بالطبع لدي أسلوبي الذي قد يلاحظه المتلقي في أفلامي الأخيرة في الفيديو آرت مثلاً كأفلامي عن غزة من quot;مشهد آخرquot; وquot;رايح جايquot; وquot;فوق تحتquot; وفيلمي الأحدث الذي أعمل عليه quot;من المعبر للمعبرquot;، حيث تُرى فيها غزة بشكل مختلف عن الرؤية الوثائقية. على الفنان أن يصنع لنفسه ستايل مختلف يحمل تجديداً مستمراً. أعتقد أني فعلت، ولست وحدي فكثير من الفنانين الفلسطينيين كانت لهم بصماتهم الخاصة على الأعمال التي قدموها.

* أنت تعتز بتدرّبك في دائرة الفنون بعمان خاصة على يد الفنان السوري المعروف مروان القصّاب باشي.. إلى أي حد أفادتك هذه التجربة؟
- هي تجربة جداً مهمة، في حياتنا الفنية محطتين مهمتين الأولى كانت تأسيسية وهي دورة الفنون بجمعية الشبان المسيحية التي أشكرها وأساتذتها، النقطة الثانية كانت نقطة تحوّل وضعتني على أول السلم سواء أكاديمياً أو فنياً وهي التحاقي بدارة الفنون بعمّان. انتقلت من مرحلة البحث المنهك إلى الرؤية الواضحة للأشياء، إلى أين أذهب وكيف سأذهب إلى ماذا.. كانت بداية معايشة الحياة الفنية الحديثة، ليس لي فقط ولكن لكل من التحقوا معي. مروان باشي لم يكن يلقّن، كان يريك ما تريده أنت، يعطيك المفاتيح.. يهتم بأعمالك، يناقشك، نقده لنا لم أجده حتى الآن في المجتمع الفلسطيني. لم يكن مجاملاً، وكان يجعلنا نعرف نقاط القوة والضعف لأي عمل بشكل تلقائي وسلس.

* العمل الإبداعي الجمعي.. وانضمامك لشبابيك.. قيّم لنا هذه التجربة؟
- الإبداع الجماعي مهم لأي فنان، العمل الجماعي أقوى من الفردي. نحن من المجموعات الثقافية الأولى التي تشكلت في غزة في ظل تبلور صداقاتنا وانسجام أفكارنا واتفاقنا الفني الفكري رغم أنا غير متفقين مزاجياً في كثير من الأحيان. لدينا محددات وأسس نتفق عليها في المجموعة، لدينا موقع الكتروني، نحن نتعاون في بناء أفكارنا وتمويل عروضنا في الداخل والخارج. التجربة حقاً رائعة، فعندما نتحدث عن مجموعة في عرض يختلف عما نتحدث عنه لمبدع واحد مفرد، الأفكار تتوالد، الجهود تكون مضاعفة. كوْني من الأعضاء المؤسسين للمجموعة أقول لقد خدمتني هذه التجربة وحققت فيها ما لا كنت سأحققه وحدي، رغم تفهم المجموعة لحق كل منا في البحث عن فرص شخصية وتحقيق نجاحات خاصة. تجربة المجموعات الإبداعية أصبحت منتشرة لأن المبدعين أصبحوا يؤمنون بأن العمل الجمعي يقوّيهم ويخفف التكاليف عنهم لإقامة عرض أو طباعة أو اتصال وما شابه. أنا سعيد بشبابيك.

* كفنان شاب من جماعة ثقافية تُعنى بالفن المعاصر.. ما مدى تأثير التكنولوجيا على أسلوبك الفني؟ وما مدى توظيفها في خدمة هذا الفن؟
- التكنولوجيا أصبحت جزءاً هاماً من حياتنا بالكامل و هي لغة حوار أساسية للعصر الحديث، لا أتصور فناناً مبدع يستغني عن الإنترنت والكمبيوتر في عمله وإبداعه. اليوم أستطيع أن أرسل عملاً إبداعياً لي للمشاركة الخارجية عن طريق الإنترنت، في السابق لم يكن هذا الأمر ممكناً بالجودة والسرعة المطلوبة. بالنسبة للفنانين الفلسطينيين أقول خدمتنا التكنولوجيا بشكل أكبر، حيث المعابر والحدود والإغلاقات التي تمنعنا من السفر، بالإضافة إلى توفير التكنولوجيا علينا فلا نتحمل تكاليف تذاكر وإقامة وما إلى ذلك. التكنولوجيا منحت المبدع آلات الطبع وخامات للعمل وأساليب للعرض. هناك مجالات إبداعية تأخذ التكنولوجيا كل حيّزها كالفيديو آرت والتصوير الرقمي، حتى في التكوين نستخدم الأجهزة الكهربائية وشاشات العرض. التكنولوجيا تخلق لدى الفنان أفكاراً جديدة وتساعده على تحقيقها.

* الحضور الفلسطيني بشكله السوداوي القاتم حيث الدم والعنف وخلافه متواجد بقوة في لوحاتك وصورك وحتى في أعمال التكوين.. فكيف تعاملت مع هذا الواقع فنياً بشكل لا يقدم الواقع بصورة فجة؟
- حجم المأساة الفلسطينية كبير وضخم، وكان علينا أن نواجهه بما يستحق حتى وإن جنحنا نحو المباشرة، لا ضير أن تكون الأعمال بالقوة والصراحة الكافية. في إحدى أعمالي التكوينية قدمت دمى وضعت في مرطبانات باللون الأحمر أتحدث فيها عن إحدى المجازر التي تعرض لها الشعب الفلسطيني، فاتُهمت بالمباشرة وأن عملي قد يؤذي مشاعر الآخرين، لكنه كان بنظري يعطي نتيجة قوية ورسالة تقول أن هذا المشهد المختلف الكريه يحصل بشكل يومي بغزة والضفة. يجب أن نواجه الحقائق بحقائق. المخارج الفنية لسوداوية حياتنا كثيرة ومتنوعة وملهمة.

* إذا ابتعدنا عن السوداوية نجد للبحر أيضاً حضوره الكثيف في أكثر من وسيلة فنية اتبعتها.. لماذا البحر.. هل هو الملاذ الوحيد في غزة كواقع.. أم هو رمز فني بالأحرى؟
- الاثنين معاً.. البحر ndash;خاصة بالصيف- الملاذ الأخير والمتنفس الوحيد للناس، حيث المساحة الواسعة الزرقاء بضخامتها، كما أن البحر رمز من رموز غزة. هناك أيضاً رمزيته الفنية، أحداثاً كثيرة مؤلمة في معظمها حصلت على شاطئ غزة وفي بحرها، البحر يعبر عن شموخ وقوة غزة، بزرقته وزبده الأبيض الذي يكسر اللون. العديد من الرموز الغزية انتهكت كالأماكن الأثرية وشجر البرتقال إثر تجريفات قوات الاحتلال، لكن البحر لم يستطع أحد هزيمته.

* لقد جرّبت أنت ومجايليك من الفنانين ndash;خاصة في شبابيك- أكثر من وسيلة فنية، فهل هو الجري وراء ما بعد الحداثة وترف إبداعي.. أم استجابة لضرورات نفسية وإبداعية؟
- الجري وراء الحداثة مطلوب وهو ليس عيباً، يجب أن نواكب العالم فلغة عصرنا تختلف، هناك مفاتيح يجب أن نتعامل بها. الكثير من الفنانين يتخصصون في الفيديو آرت أو التكوين عن قناعة ورغبة وإيمان. الضرورات النفسية قائمة بلا شك، فهي تحدد الوسيط لتقديم الفكرة الإبداعية هل هو فيديو أو تصوير أو لوحة أو غيره.

* نلاحظ أيضاً في أعمالك وزملائك الشباب أسلوباً فنياً يزاوج بين التجريد والواقع.. حيث المكان واضح بشكل باهت والملامح البشرية ضائعة.. فما دلالات ذلك؟
- إذا كنت سأرسم الأشياء كما هي فالأسهل لي أن أصوّرها. التجريد والرمزية أسلوب هام لتقديم العمل له تعبيراته ومعانيه. تجربة الفنان هي اختزالات في نفسه وعقله تخرج بصورة فنية، التشكيلي يقرأ بشكل بصري ويسعى لأعمال جديدة غير مباشرة. عندما أرسم الفلاحة وأرغب في التعبير عنها لا يعني ذلك أن أطرز ثوبها وأخطط رموشها وحاجبيها، أنا أرسم ما أراه فيها وإلا لماذا لا آتي بشابة جميلة ألبسها وأصوّرها. هناك فكرة ورؤية يجب أن تكون سابقة على العمل، هناك فنانين قد يبدءون بعمل لا يعرفون إلى أين سيصلون به، لكنه في النهاية يبقى تعبيراً عن دواخله.

* لقد مررت بأكثر من مرحلة فنية واستخدمت أكثر من أسلوب فني.. فهل كان ذلك بشكل متداخل آني أم أنك مررت بها بشكل متتالي؟ وهل الشكل الفني له علاقة عندك بالمضمون أم بحالتك النفسية؟
- بالعادة يمر الفنان بهذه المراحل بشكل متتالي وهذا ما حصل معي، لكنها تبقى كمؤشرات نبضات القلب تعلو وتهبط. أكثر مرحلة تأخذ مع التشكيلي وقتاً مرحلة الرسم بالطبع، وفي كل مرحلة يشعر الفنان متى سيكتفي أو ملّ ويرد التنويع ثم العودة. هذا التداخل يحصل، فيغيّر من مستوى الأعمال ويحافظ على التوتر الداخلي النفسي، على كل مرحلة أن تأخذ حقها وحيّزها من حياتك وتتشبع ذاتياً بها، لتبني أفكارك بشكل تلقائي وتنتقل لمرحلة أخرى. عملية التنقل تكون سهلة غالباً وممتعة، بل مثيرة، لكن المهم أن تكون تلقائية وجدية. في الشق الثاني من سؤالك أقول الشكل الفني له علاقة بالمضمون وبالحالة النفسية معاً، يجب أن يتناسب الشكل المقدم مع المضمون، وبالطبع الفنان يترك إبداعه لحالته النفسية التي تحدد وسيط التقديم كما ذكرت. قد أرغب بالريشة وقد أكرهها، قد أركض نحو الكاميرا وقد أنساها. الوقت أيضاً عامل هام، المرسم يحتاج إلى أن تمضي فيه وقت أطول مثلاً.. السريالية قد تفرض عليك ألا يتناسب الشكل مع المضمون بالطريقة العادي مثلاً، لكن المهم أن يخدم الشكل هذا المضمون.