التاريخ المشترك بين بريطانيا واسكتلندا مليء بالدم والحروب وبالسلام والازدهار. وفي استفتاء على هذا التاريخ، الانتصار معقود لاسكتلندا في الوئام وفي الخصام، لكن الانفصال محفوف بمخاطر إقتصادية لا بد من تدبرها على عجل.
ساره الشمالي من دبي: اليوم، 18 أيلول (سبتمبر) 2014، يوم مشهود في التاريخ المشترك لبريطانيا واسكتلندا. فالاسكتلنديون يشاركون اليوم في استفتاء تاريخي، يحدد مصير بلدهم. فبجوابهم يتعلق بقاء المملكة المتحدة على ما هي عليه اليوم، أو انفصال اسكتلندا نهائيًا عن العرش البريطاني.
إذا صوتت اسكتلندا بـ"نعم" في الاستفتاء، سيكون الأمر بمثابة طلاق مؤلم، كما قال رئيس الوزراء البريطاني ديفيد كاميرون. وإذا رجحت كفة مناهضي الاستقلال، فإن ذلك سيكون حافزًا لنقل سلطات أوسع من بريطانيا إلى اسكتلندا، على نحو لم يسبق له مثيل.
ورقة خريف
إستطلاعات الرأي متقاربة، ودعاة الاستقلال لا يغادرون فرصة إلا ويؤكدون فيها أن مستقبلًا زاهرًا ينتظر اسكتلندا المستقلة، على الرغم من تحذير كبار الاقتصاديين، وبينهم خبراء في البنك الدولي، من تأثيرات الانفصال السلبية على اقتصاد اسكتلندا.
لا تجد هذه التحذيرات آذانًا صاغية لدى نصف الاسكتلنديين تقريبًا، بينما يريد النصف الآخر أن تبقى اسكتلندا تحت العرش البريطاني. وفي الجانبين، لا تنال الوحدة البريطانية الاسكتلندية الكثير من الشعبية، ولهذا تبدو كورقة خريف في مهب المصالح المتعارضة.
حتى أن بعض الاسكتلنديين يعود بالذاكرة إلى فيلم "برياف هارت"، الذي أنتجه ومثل بطولته الممثل الأميركي ميل غيبسون، لتجييش العواطف الاسكتلندية مع النزعة الاستقلالية، إذ يروي الفيلم قصة أسطورية لقتال الاسكتلنديين من أجل استقلالهم عن الملك البريطاني إدوارد الأول في القرون الوسطى.
تاريخ دموي
صعب جدًا تعقب التاريخ الدقيق لظهور اسكتلندا كمكان على الخريطة السياسية في أوروبا، لكن في العام 120 ميلادي، بنى الرومان جدار هادريان ليحميهم من غزوات قبائل الكلدون، وليرسموا الحدود الشمالية لبلاد كانت تحت سيطرتهم. وثمة جزء من الجدار هذا قائم بعد في مكانه.
يسمي التاريخ كينيث ماك آلبين، أو كينيث الأول، مؤسسًا للمملكة الاسكتلندية، إذ تمكن من توحيد قبائل البكت والسلت تحت رايته، بحدود العام 820، ليواجه غزو الفايكنغ. وفي العام 1296، طالب ملك انكلترا إدوارد الأول بالسيادة على اسكتلندا، ثم اجتاحها بجيشه واحتلها، مفتتحًا عهد العداء والحروب من أجل الاستقلال، استمرت حتى العام 1357، وانتهت بانتصار الاسكتلنديين في بانكبورن، واستعادة مملكة اسكتلندا استقلالها. وفي العام 1502، تعاهد ملك اسكتلندا جيمس الرابع وملك إنكلترا هنري السابع على السلام. وفي العام 1603، تم تتويج ملك اسكتلندا جيمس السادس ملكًا لإنكلترا باسم جيمس الأول، وارثًا عرش الملكة اليزابيث الأولى، لأنه كان أقرب أقاربها، وأعلن نفسه ملكًا على بريطانيا العظمى، واستقر في لندن، وبقي البلدان مستقلين.
مفروض بدهاء
لا شك في ان الوحدة هذه معمدة بالدم، على الأقل بدم الاسكتلنديين، الذين لطالما طالبوا بالاستقلال، وما زالوا اليوم، وإن بأسلوب أكثر تحضرًا. حصلت هذه الوحدة بعد حروب كثيرة، وبعد مفاوضات شاقة، توجت بمعاهدة في العام 1707، قامت عليها المملكة المتحدة لبريطانيا العظمى.
أرخى الازدهار بظلاله على اسكتلندا بعد الوحدة، ولعب الأسكتلنديون دورًا مهمًا في إدارة الإمبراطورية البريطانية، ونبغ منهم مخترعون ملأوا الدنيا وشغلوا الناس، كمخترع الهاتف غراهام بيل، ومخترع التلفزيون جون لوجي بيرد، ومخترع الرادار روبيرت واتسون، ومكتشف البنسلين الكسندر فليمينغ، وكثيرين غيرهم.
لم تتعدّ معاهدة الوحدة سمة الاتفاق غير الشرعي المفروض على الاسكتلنديين بدهاء السياسة، وبقيت في ذاكرة الاسكتلنديين عنوانًا لزواج من دون حب، كما يصفها المؤرخ الأسكتلندي توم ديفاين. يقول لصحيفة غارديان البريطانية: "مع تراجع البروتستانتية وانتقال السلطات إلى إدنبرة، ظهرت الضرورة لوحدة أنجلو-ساكسونية، فكانت الوحدة بين إنكلترا وأسكتلندا، وكانت زواج عقل أملته المصلحة".
وأضاف للصحيفة نفسها: "بين العامين 1750 و1980، كانت العلاقة بين لندن وإدنبرة مستقرة، لكن أسس هذا الاستقرار تصدعت اليوم".
منقسمة دائمًا
يوافق كريس واتلي، أستاذ التاريخ في جامعة دوندي جنوب شرق أسكتلندا، على ما قاله ديفاين. يقول: "كان هناك أسباب جيدة للوحدة في العام 1707، لم تكن شعبية لكنها كانت في صالح أسكتلندا، والنقاش حول هذه الوحدة كان محتدمًا في الماضي كما هو اليوم، وكما هي أسكتلندا منقسمة اليوم، كذلك كانت في تلك الحقبة".
ويضيف واتلي في مقابلة مع وكالة الصحافة الفرنسية: "كانت الطبقات الحاكمة الأسكتلندية تشعر بقلق شديد من أن تتخلف أسكتلندا عن ركب باقي أوروبا، خصوصًا في سياق نمو حركة التجارة الدولية، فلم يكن لاسكتلندا أسطول بحري قادر على مساعدة سفنها التجارية في أعالي البحار، ولم يكن لديها مستعمرات إمبراطورية مثل إنكلترا".
فإن كانت الوحدة حينها في مصلحة اسكتلندا، كيف يكون الاستقلال اليوم في مصلحتها؟ هذا ما يراه دعاة الاستقلال، ومن لف لفهم ممن ركبوا موجة "الخلاص من الوصاية البريطانية التي تنهب خيرات اسكتلندا"، كما أوحى أكثر من 200 رئيس شركة اسكتلندية، وقعوا بنهاية آب (أغسطس) الماضي على عريضة تدعو إلى الاستقلال، اتهموا فيها لندن بأنها تعامل أسكتلندا كالبقرة الحلوب، واعدين ببناء مجتمع أكثر عدلًا ورخاء.
ماذا بعد؟
بغض النظر عن نتيجة الاستفتاء، استقلالًا أو وحدة، طرح السؤال بشكل شعبي حول هذه المسألة انتصار لاسكتلندا. لكن السؤال الذي يطرح نفسه: ماذا بعد؟ فالانقسام الاسكتلندي لن يلتحم بالانفصال. فقد تعهد الحزب الوطني الاسكتلندي بأن تحتفظ اسكتلندا المستقلة بولائها للملكة اليزابيث الثانية، لكن الفريق الجمهوري يطالب بشكل متزايد بانتخاب رئيس، واصفًا النظام الملكي بالعصر البائد.
ويفتح الحزب الوطني الباب أمام المطالبة بحكم ذاتي من دون الانفصال عن المملكة المتحدة، مع ما يعنيه ذلك من سلطات موسعة يبدأ التفاوض حولها في غضون ستة أسابيع.
ورغم حرص الكس سالموند، رئيس الوزراء الاسكتلندي وزعيم الحملة الاستقلالية، على طمأنة الجميع إلى أن اسكتلندا المستقلة ستحتفظ بالعملة نفسها وبانتمائها إلى الاتحاد الأوروبي وبالولاء للملكة اليزابيث الثانية، إلا أن الزعماء السياسيين البريطانيين استبعدوا وحدة نقدية بين باقي المملكة المتحدة وأسكتلندا، رافضين وحدة نقدية من دون وحدة سياسية.
ردود فعل سلبية
على الرغم من أن حلم الاستقلال يراود الجميع، حتى من يقف مع الوحدة، إلا أن الرهاب الاقتصادي يغطي قليلًا، وقد يكون هو ما سينعش آمال الوحدويين اليوم. فقد أعلن رويال بنك أوف سكوتلاند نقل مقره الرئيس إلى لندن في حال اسفر الاستفتاء عن استقلال اسكتلندا.
وقال بيان أصدره البنك: "هذه الخطوة تعد الطريقة الأكثر فعالية للتعامل بوضوح مع مالكي الأسهم، وتخفيف المخاطر"، مستعيدًا مخاوف اثارها سابقًا، حول عواقب سلبية للاستفتاء على البيئة المالية والنقدية والقانونية ونظام التسوية والتصنيف المصرفي في اسكوتلندا. وكان بنك لويدز أعلن نيته نقل مقره من أسكتلندا إلى إنكلترا، كما مجموعة ستاندارد لايف، التي ستنقل جزءا من الصناديق التي يديرها لحساب عملائها البريطانيين إلى إنكلترا.
أما صندوق النقد الدولي، فيرى بيل موراي، المتحدث باسمه، أن انتصار النزعة الاستقلالية قد يثير ردود فعل سلبية في الأسواق، "فأحد أبرز المفاعيل الفورية غموض في العملية الانتقالية نحو وضع نقدي ومالي مختلف في أسكتلندا، وهذا الغموض قد يؤدي إلى ردود فعل سلبية على الأسواق على المدى القصير".
ويسأل القطاع المالي الدولي: من سيكون مقرض المصارف التي ستبقى في الشمال، والتي يقوم بنك إنكلترا بإقراضها اليوم؟".
التعليقات