عندما أكد رئيس جنوب أفريقيا جاكوب زوما أن بلاده تعتزم الانسحاب من المحكمة الجنائية الدولية، حرص على أن يبدو ملتزمًا بمبادئ الأخلاق في موقفه. إلا أن محللًا جنوب أفريقي يرى أن نية الانسحاب لا معنى لها، ولا تخدم المصلحة الوطنية لجنوب أفريقيا.
إعداد عبدالاله مجيد: أعلن زوما في كلمة ألقاها في جوهانسبرغ أخيرًا أن "المحكمة الجنائية الدولية منحازة بنظر القادة الأفارقة. فالأفارقة وحدهم هم موضع اهتمام المحكمة، ولهذا السبب تشعر أفريقيا بالحاجة إلى إعادة النظر في مشاركتنا. فالمحكمة تبدو وكأنها تستهدفنا نحن".
مغادرة البشير
يأتي إعلان زوما بعدما ظهرت في وقت سابق من العام شروخ في علاقات جنوب أفريقيا بالمحكمة. ففي حزيران/يونيو سمحت حكومتها للرئيس السوداني عمر البشير بمغادرة البلد بصورة مفاجئة من مهبط طائرات خارج العاصمة بريتوريا، متجاهلة مذكرة الاعتقال الصادرة بحقه من المحكمة الجنائية الدولية، بتهمة ارتكاب جرائم في إقليم دارفور.&
وكانت جنوب أفريقيا ملزمة، كإحدى الدول المنضمة إلى المحكمة الجنائية الدولية، بالقبض على البشير، ولكنها لم تفعل ذلك. ونقلت صحيفة الغارديان عن جيمس جيمس ستيوارت نائب مدعي عام المحكمة أنه "كان واضحًا بنظرنا أن جنوب أفريقيا كان عليها أن تعتقل البشير لتقديمه إلى المحاكمة في لاهاي".
وبعدما لمحّت جنوب أفريقيا في حينه إلى أن المحكمة "لم تعد مجدية"، فإنها ذهبت الآن خطوة أبعد. وحرص حزب المؤتمر الوطني الأفريقي الحاكم على تأكيد دعمه مجددًا للمبادئ الأخلاقية، التي تهتدي بها المحكمة، ولكن لفظيًا فقط.
تهمة بلا سند
يتساءل مراقبون أن الحزب إذا كان حقًا يريد إنهاء الإفلات من العقاب عمّا يُرتكب من جرائم إبادة وجرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية، ولا يرى ضررًا من الناحية المبدئية في وجود محكمة دولية، مهمتها تحقيق هذا الهدف، فلماذا يريد أن تنسحب جنوب أفريقيا؟.&&
كثيرًا ما تُطلق التهمة التي وجّهها الرئيس زوما بأن المحكمة الجنائية الدولية "تستهدف القادة الأفارقة ظلمًا". ولكن نظرة متمعنة ستبيّن أنها تهمة بلا أساس. فمن بين 8 قضايا نظرت فيها المحكمة الجنائية الدولية، أحال مجلس الأمن الدولي قضيتين منهما إلى المحكمة، هما السودان وليبيا، في حين أن أربع قضايا أحالتها الدول ذات العلاقة، طالبة مساعدة المحكمة، وهي جمهورية الكونغو الديمقراطية وجمهورية أفريقيا الوسطى وأوغندا ومالي.&
تبقى قضيتان، هما كينيا وساحل العاج، اللتان بادر إلى إحالتهما الإدعاء العام بصورة مستقلة. وبالتالي ليس هناك ما يشير إلى وجود نزعة للانتقام من القادة الأفارقة. أما لماذا لم تنظر المحكمة الجنائية الدولية في قضايا خارج أفريقيا، فلأنها تحقق الآن في الوضع في أفغانستان وكولومبيا وجورجيا وهندوراس والعراق وفلسطين وأوكرانيا. لكن غالبية الجرائم التي تقع ضمن اختصاص المحكمة ارتُكبت في أفريقيا أو بلدان لم تصادق على اتفاقية روما التي اُنشئت المحكمة بموجبها.&
تناسي إبادات
ويعني توجه جنوب أفريقيا المؤسف نحو الانسحاب من المحكمة نسيان ضحايا الفظائع التي ارتُكبت في أوغندا ومالي في غمرة الخطابية والمواقف السياسية الاستعراضية. فجنوب أفريقيا لم تقدم أي دليل على أن هيئات المحكمة الجنائية الدولية عرضة للاستغال أو التلاعب. وترأس المحكمة هيئة متنوعة من قضاة دوليين يُعينون بغالبية ثلثي الدول الموقعة على اتفاقية روما، ومنها جنوب أفريقيا. ولعل المحكمة بإجراءاتها وآليات عملها أكثر الهيئات القضائية تطورًا وعدالة في العالم، برأي الكثير من الخبراء.
ورغم أن المحكمة الجنائية الدولية لم تكن فاعلة كما يجب، لا سيما وأن عملها كثيرًا ما يعرقله امتناع دول عديدة عن التعاون مع تحقيقاتها والالتزام بمذكرات الاعتقال الصادرة منها، ولكن هذا ليس سببًا كافيًا للانسحاب منها.
ضد مصلحتها الوطنية
وفي غياب أي أدلة مقنعة على وجود تحامل من جانب المحكمة وأي سبب للاعتقاد بأن ضررها أكثر من نفعها في الدفاع عن حقوق الإنسان، ليست هناك حجة ذات مصداقية لانسحاب جنوب أفريقيا منها، كما يرى المحلل الجنوب أفريقي سول موسكر، الذي يرى أن نية الانسحاب لا معنى لها، حتى من ناحية ما يخدم المصلحة الوطنية لجنوب أفريقيا.
وإذا انسحبت جنوب أفريقيا، فمن المتوقع أن تقتدي بمثالها دول أفريقية عديدة، وأن ينهار الأساس الذي تقوم عليه المحكمة. وسيعيد هذا العمل من أجل تطبيق العدالة الدولية عشرات السنين إلى الوراء، وسيلحق ضررًا بالغًا بسمعة جنوب أفريقيا عالميًا، بوصفها مدافعة عن حقوق الإنسان ومرجعًا أخلاقيًا في العالم، وبذلك إضعاف رصيدها السياسي إلى درجة كبيرة، كما يحذر المحلل موسكر، مشيرًا إلى أن دور جنوب أفريقيا البارز في العديد من المؤسسات الدولية يعتمد على سمعتها، وكذلك محاولتها نيل العضوية الدائمة في مجلس الأمن الدولي. وسُينظر إلى جنوب أفريقيا على أنها واحدة من رهط الدول التي أدارت ظهرها لضحايا الفظائع من أجل مكسب سياسي آني.
&
&
التعليقات