تتخصص شركات، كشركة الكور الأميركية، ببيع أمل العودة إلى الحياة مجددًا، وذلك من خلال تجميد الأعضاء البشرية للإنسان بطريقة تسمى "الكرايونيكس"، ويتهم بعض العلماء تلك الشركات بمحاولة الإثراء السريع عبر منح أمل الحياة مطولًا للجسم البشري، وتنطلق الشركات من افتراض تقدم الطب، وأن من يموت اليوم ربما يمكن شفاؤه غدًا.


ماجد الخطيب: في فيلم "ديموليشن مان" من العام 1993، يعاقب الشرطي جون سبارتان (سيلفستر ستالون) بتجميده لمدة 79 سنة بتهمة القتل غير العمد، ثم يوقظ من سباته مبكرًا في العام 2032 ليطارد "إرهابيًا". حول مثل هذا السيناريو يختلف العلماء، ومعهم البشر، حول واقعية التحايل على الموت بهذه الطريقة.

فرق سيناريو هذا الفيلم عن المحاولات العملية التي تجري في العالم حاليًا، هو أن الفيلم يروي قصة تجميد إنسان حي، ثم إيقاظه، كي يمارس حياته السابقة نفسها من دون أن تتأثر خلاياه، أو أن يفقد شيئًا من عمليات جسمه الحيوية، وخصوصًا المتعلق منها بالدماغ. لكن العلماء، ومعهم المرضى اليائسون، يعتقدون أن العلم سيتوصل بدون شك إلى علاجات شافية لهذه الأمراض بعد 100 سنة أو أكثر أو أقل.

"الكريسوتيز" أو التجميد عبارة عن عملية تجميد الأموات في النتروجين السائل بدرجة - 196 مئوية، على أمل إعادته إلى الحياة في المستقبل. وهي عملية لا يتصور العديد من العلماء إمكانية غزو الفضاء مستقبلًا بدونها، لأن سنّ البشر لا تكفي لاختراق العوالم التي تفصلها بلايين السنين الضوئية. وهناك المئات ممن دفعوا مبالغ طائلة مقدمًا لقاء تجميدهم منذ الآن، أملًا في رؤية العالم بعد قرون عدة من الآن، إلا أن العلماء لم يعيدوا أحدًا إلى الحياة بعد. والسبب واضح، وهو أن العالم لم يبلغ التقنية اللازمة، والمضمونة، التي تعيد الحياة إلى البشر، أو أنها تضمن وجود علاج لحالاتهم المستعصية.

يعود الفضل في ابتكار هذه الطريقة إلى العالم الفيزيائي الأميركي روبرت إيتنغر في العام 1962، والذي أسس على أثرها معهد الكرايونيكس في ميشيغان. وقام إيتنغر نفسه بتجميد والدته وزوجتين توفيتا له، بهذه الطريقة في معهده، على أمل التوصل إلى علاج شاف لهم مستقبلاً. تعتمد الطريقة على تطهير الجسم من البكتيريا والجراثيم التي تسبب تفسخ الأنسجة قبل تجميده بالنتروجين السائل داخل كبسولات. ومن الواضح أن كلمة كرايو تستقي جذورها من اللغة اليونانية، وتعني "التجمد".

تحايل على الموت
حلم الحياة بعد الموت، أو العودة إلى الحياة مجددًا على جنة أرضية، وليس على جنة سماوية، هو حلم قديم يراود البشر. وليست مومياءات المصريين القدماء غير تعبير عن هذا الخوف من الموت، أو الإيمان بفرصة حياة جديدة بعد النفوق. ويتهم العلم بعض "باعة الأمل" من الشركات بمحاولة التحايل على الموت، أو محاولة الإثراء عن طريقة إثارة الأمل بحياة جديدة.

إحدى الشركات الكبيرة، التي تتخصص "ببيع الأمل"، عن طريق تجميد الأعضاء، والأجساد، والأدمغة، بطريقة الكرايونيكس، هي شركة الكور الأميركية، التي يقوم فيها فريق متخصص بعملية تجميد الموتى.

ونقل موقع "بزنس إنسايدر" أن الشركة تنطلق من افتراض مفاده أن الطب يحرز تقدمًا كل يوم، وأن أولئك الذين يموتون اليوم ربما يمكن شفاؤهم في المستقبل. وتشرح الصحيفة الخطوات التي يتم اتباعها لتجميد جثث المرضى كالآتي: عند اقتراب موعد الوفاة، ترسل الشركة "فريق الاستعداد"، بهدف التحضير لعملية النقل، والبقاء إلى جانب سرير المريض إلى حين وفاته. تبدأ بعدها عملية الحفظ عند إعلان وفاة المريض رسميًا، حيث يتم نقله من سريره إلى سرير من الجليد، ويغطى بالثلج الممزوج بالماء.

يستخدم فريق ألكور جهازًا لإنعاش القلب والرئتين لجعل الدم يتدفق في الجثة مجددًا. ثم يزرقون نحو 16 نوعًا من الأدوية التي تحفظ الخلايا من التلف بعد الموت، يجري بعدها امتصاص الدم والسوائل من جثة الميت، وتستبدل بمحلول يمنع تكون كتل ثلجية داخل الجسم.

عند امتلاء الشرايين بذلك المحلول، يمكن لفريق "ألكور" البدء في عملية التبريد بمعدل درجة مئوية واحدة كل ساعة، حتى تصل درجة حرارة الجثة في النهاية إلى 196 درجة تحت الصفر بعد حوالى أسبوعين.

بعد الانتهاء، توضع الجثة في مثواها الأخير إلى جانب 3 جثث أخرى في غالب الأحيان، بكلفة تصل إلى 200 ألف دولار. أما إذا كان الهدف حفظ الدماغ، فيوضع في وعاء حديدي خاص، مقابل 80 ألف دولار.

الكرايونيكر ينتظرون
توصلت البشرية إلى وضع الآلات "الروبوتات" المتطورة في خدمتها، ولا يمر شهر من دون أن نسمع اليوم عن أعضاء اصطناعية (مثل اليد) تربط بالأنسجة الطبيعية وتسمى "البيونيك"، ولو نجحت البشرية في إعادة إحياء الموتى المجمّدين لنالوا تسمية الـ"كرايونيكر".

هناك اليوم عشرات الجمعيات، في الولايات المتحدة وروسيا، التي تنظم حياة الراغبين والمستعدين للتجميد منذ الآن، وهم كرايونيكر المستقبل. وهناك حديث عن بضع جمعيات أخرى في غرب أوروبا، إلا أن الأميركيين والروس يتفوقون. ويقدر عدد الجثث المجمدة حاليًا بنحو 250 جثة في ولايتي أريزونا وميشيغان فقط.

كما إن هناك بضعة كرايونيكر في ألمانيا يتعاملون مع شركة بيوستاسيس الألمانية في مدينة أولم الجنوبية، هي شركة يملكها الباحث الألماني ميشائيل ساكسر، الذي ينوي تجميد نفسه، وأقنع اثنين من أولاده الأربعة بالانضمام إلى الجمعية، والذي يركز أبحاثه على طرق ضمان إعادة نفخ الحياة في الجثث بعد تذويبها مستقبلًا. ويتكون أعضاء الجمعية المؤيدين له بين أفراد عائلته وأصدقائه ممن يحضرون منذ الآن لحياة مشتركة بعد 100 أو 200 سنة. ويقول ساكسر إن علماء جامعة كاليفورنيا تمكنوا من إطالة حياة ذبابة الفاكهة بنسبة 80%، فلماذا لا يمكن أن يحصل ذلك مع البشر.

خلاف علمي أخلاقي
يرى العالم الأميركي المعروف روبرت أ. فريتاس جونيور، الباحث في هندسة النانوية والهندسة الجزيئية في بالو آلتو في كاليفورنيا، أن العلم لا يزال يقف بعيدًا عن تحقيق حلم الحياة بعد الموت، بطريقة التجميد أو بغيرها. ويضيف العالم الحائز جوائز عالمية عدة، "لكننا نتحرك في حدود الممكن".

بالنسبة إليه، كعالم يستشف المستقبل، فإن علم وقف تقدم عمر الإنسان يعيش فترته الذهبية منذ 15 سنة. كان الإنسان يعتقد بأن عملية تقدم العمر، أو عكسها، متعذرة، لكن الأمور تغيّرت الآن باستخدام التقنية البيونانوية، وصار بالإمكان تأخير تقدم الحياة الآن، ولاشك أن إمكانية وقف تقدمها مستقبلًا واردة.

ابتكر فريتاس جونيور، على أساس الهندسية لنانوية، كريات دم حمراء وبيضاء صناعية، هي عبارة عن روبوتات منمنمة، يمكن أن تكافح أمراض الإنسان، وأن تطيل حياته بشكل واضح. ويتصور العالم إمكانية تطهير جسم الإنسان من الجراثيم تمامًا بوساطة بلايين كريات الدم البيضاء، التي لا يزيد قطر الواحدة منها على 3 ميكروميتر، وهو ما يتيح تجميد الجثث بلا مشاكل. ثم يتصور ملايين أخرى من كريات الدم الحمراء الروبوتية التي تتولى مهمة "الترميم الجيني" لخلايا الجسم بعد تذويبه من الانجماد. ويضيف أن الهندسة النانوية ستتيح للبشرية وقف كل العوامل التي تؤدي إلى تقدم عمر الخلية.

يناقض فريتاس جونيور في هذا الموقف العالم البيولوجي الأخلاقي، والرئيس السابق للجنة الأخلاقية في الكونغرس، العالم الأميركي ليون ر. كاس. إذ اعتبر كاس، أمام اللجنة وبحضور الرئيس الأميركي باراك أوباما، أن الموت هو أقسى حاجز طبيعي أمام البشرية، لكنه اعتبر محاولات خلق جيل الكرايونيكر الجديد تعبيرًا عن"يأس الأنا البشرية التي تخشى من الموت".

إعادة تعريف
من الناحية الفلسفية ينظر البروفيسور ديرك برنباخر، أستاذ الفلسفة في جامعة دسلدورف الألمانية، إلى عمليات تجميد الموتى نظرة نقدية. وعبّر عن قناعته بأن إعادة الحياة بعد الموت، بطريقة التجميد، ليست أكثر من كلام فارغ، لأن "تجميد الروح" متعذر. وإذا كان ذلك ممكنًا، فلا بد حينها للفلسفة، وبقية العلوم، من إعادة تعريف الحياة والموت.

يجري حاليًا تجميد الأجنة الميتة بهدف الاستفادة منها في طرق العلاج التي تستخدم الخلايا الجذعية، وما إلى ذلك، إلا أن الفائدة تنتهي بعد 3 سنوات، لأن التجميد لا يوقف عملية التراجع. وهذا ما سيحصل مع جثث الموتى، بتقدير برنباخر، لأن التجميد بدرجة ناقص 196 سيضاعف عمليات تشوه الكروموسومات. وهذا يعني أن الميت الذي سيستيقظ بعد تجميده، إن حصل ذلك، لن يكون الشخص الأول نفسه!.

وما زال غامضًا ما إذا كان الميت المتجمد سيستعيد بعد نهوضه قواه العقلية وذاكرته نفسيهما، كما إن التغيّرات الجينية لن تتوقف، وليس هناك إثبات كمثل، على أن الديناصور المتجمد في القطب، يحتفظ بتركيبته الجينية نفسها التي مات فيها قبل ملايين السنين.

تسريع نمو الخلايا؟
يبدو هنا سيناريو فيلم "شاب إلى الأبد" أقرب إلى الواقع من فيلم "ديموليشن مان"، لأنه يحتفظ للمشاهد بمفاجأة علمية تتعلق بعواقب تجميد البشر. إذ يفترض في الفيلم (من تمثيل ميل غبسون) أن يستيقظ بطل الفيلم المجمد بعد مئات من السنين، إلا أنه يستيقظ صدفة، وبسبب عبث طفل بالمنشآت، بعد خمسين سنة فقط. يبحث بعدها البطل عن صديقته إلى أن يجدها عجوزًا في السبعين من عمرها في نهاية الفيلم، لكنه يكتشف بأنه قطع بعد يومين من استيقاظه كامل الخمسين سنة الماضية بسرعة، ويجد نفسه عجوزًا في سن صديقته نفسها (تمثيل جيمي لي كورتيس).


&