تغيّر كل شيء، بدأ الحلم كبيرًا لدى شباب في مُقتبل العمر، أرادوا أن يصرخوا بكل أصواتهم دفاعًا عن كرامتهم وحقهم في العيش، بعضهم لجأ إلى إحراق نفسه على قارعة الطريق، ليفجّر ثورة عارمة سارت كالنار في الهشيم، بعضهم رحل، فيما ينظر آخرون إلى ما وصلت إليه الأوضاع، يتحسرون ويندمون ولسان حالهم يقول: ما هذا هو الربيع الذي نتوق إليه.
&
إعداد عبد الإله مجيد: ارتبطت انتفاضات الربيع العربي ببائع الخضار التونسي محمد البوعزيزي الذي احرق نفسه احتجاجا على الظلم والفقر والبطالة، ولكن هناك شخصا آخر أسهم في تفجير الاحتجاجات بإحراق نفسه، وهو حسني قالايا الذي لا يستطيع النوم من دون عقاقير طبية بسبب آثار الحروق التي لا تزال تشوه جسده، ويقول انه يتمنى الموت.&
&
واعرب قالايا عن ندمه على ما فعله قائلا "انه كان خطأ، لم اعرف ماذا سيحدث ولم اعد مؤمنًا بالثورة"، وكان قالايا يعمل في فندق في منتجع سوسة على البحر المتوسط حين اخذ اجازة قصيرة لزيارة عائلته في مدينة قصرين، وكان دخله جيدا من عمله في الفندق. وفي قصرين أحرق قالايا نفسه احتجاجا حين اوقفه بعض افراد الشرطة واشبعوه ضربا لأنه رفض ان يدفع لهم اتاوة. &
&
وقال علي رباح، احد المثقفين الشباب في قصرين، ان الجميع ظنوا ان قالايا مات، وفي تلك الليلة أُحرقت اطارات في شوارع قصرين للتعبير عن الغضب على تجاوزات الشرطة، واستخدم رباح خدمة على الانترنت وفايسبوك لنشر خبر قالايا الذي احرق نفسه احتجاجا على الظلم. &
&
لا شيء يستحق التضحيات
&
اتسعت الاحتجاجات في الايام التالية ورشق المتظاهرون قوات الأمن بالزجاجات الحارقة، وقُتل أكثر من 20 متظاهرا وأصيب عشرات آخرون بجروح، وكانت تلك بتقدير الكثير من المراقبين أول مجزرة ارتُكبت في بداية الربيع العربي. &
&
كان قالايا جاهلا بكل ذلك لأنه كان في غيبوبة في وحدة الحروق في ذات المستشفى الذي توفي فيه البوعزيزي متأثرا بحروقه قبل ثلاثة ايام، وحاول آخرون احراق أنفسهم خلال الفترة نفسها، وقد أُخضع قالايا لعدة عمليات جراحية زُرع له فيها جلد من احد اجزاء جسمه في جزء آخر وأُعيد بناء حنجرته، ولم يستعد قالايا وعيه إلا بعد ثمانية اشهر، فيما لم يسمع في البداية إلا اصواتا مكتومة لأن جسمه كله كان مغلفا باللفافات كالمومياء.&
&
وبعد فترة قصيرة شهدت تونس اول انتخابات ديمقراطية أسفرت عن فوز حزب حركة النهضة الاسلامية بأكبر نسبة من الأصوات، وشعر كثير من الليبراليين التونسيين انها كارثة، لكن الاسلاميين لم يتمكنوا من الحكم بمفردهم واضطروا الى تقاسم السلطة مع حزبين آخرين، فيما تولى اسلامي رئاسة الحكومة واصبح الناشط الحقوقي منصف المرزوقي رئيسا للجمهورية.&
&
وحرص المرزوقي على توفير الرعاية اللازمة لمن أُصيبوا خلال الثورة، وأُعطيت والدة قالايا شقة في العاصمة لتتمكن من العناية بابنها. ولا يستطيع قالايا العودة الى قصرين لأن الأطباء لن يتمكنوا من مساعدته في حالات الطوارئ إلا في العاصمة، وحين ينظر قالايا اليوم من حوله لا يرى شيئا يستحق كل تلك التضحيات. &
&
يقول قالايا "لم يكن هناك ربيع عربي"، فالفرقاء يتقاتلون في ليبيا فيما يسيطر تنظيم داعش على بلدة تلو اخرى، ومصر تواجه تحديات امنية خطيرة من الاسلاميين، واليمن يشهد حربا بين المتمردين الحوثيين وقوات الحكومة الشرعية، وفي سوريا قُتل اكثر من 250 الف شخص منذ اندلاع الانتفاضة عام 2011. &
&
ولكن تونس في وضع أفضل ولا تزال تعتبر بصيص الأمل في كارثة الربيع العربي رغم ان سلامها الأهلي سلام هش، فنسبة البطالة مرتفعة وخاصة بين الشباب وهناك بضعة آلاف من التونسيين يقاتلون مع داعش في سوريا والعراق وليبيا، ولعل العائدين منهم ينفذون هجمات في تونس نفسها. إذ اعلنت جماعات ارهابية ترتبط بداعش مسؤوليتها عن قتل 20 سائحا في المتحف الوطني في آذار (مارس) الماضي وقتل 38 سائحا في منتجع سوسة في حزيران (يونيو) و13 جنديًا قبل شهرين.&
&
الوضع على حاله
&
وتُعد قصرين ووديان جبل شعانبي بؤرة للجهاديين ومنطقة غير آمنة يُقال انها المصدر الرئيسي لتجنيد ارهابيين، ونقلت مجلة شبيغل عن الخبير الاقتصادي التونسي هيزي ميد رؤوف قوله "ان الارهاب يظهر في الأماكن التي يوجد فيها مهمشون". &وعاد رؤوف الى بلدته قصرين من تونس بعد اشهر قليلة على الانتفاضة. &
&
اعرب رؤوف عن اقتناعه بأن كل شيء سيتغير وان الأعمال ستزدهر بعد زوال الدكتاتورية، وأسس رؤوف شركة ناشئة للاستشارات الاقتصادية وإعداد دراسات الجدوى للمستثمرين، لكنه يصطدم دائما بشبكات النظام السابق في المصارف والدوائر الرسمية.
&
وقال الخبير الاقتصادي ان نصف المتعلمين في قصرين عاطلون عن العمل في حين ان التهريب ما زال كما كان أهم تجارة في المنطقة بسبب قربها من الحدود مع الجزائر، ولكن رؤوف اكد انه متفائل وإلا ما كان سيفتح مكتب شركته في قصرين. &
&
وعلى بعد امتار من مكتب رؤوف يدير المثقف التونسي علي رباح المحطة الاذاعية التي بدأت بثها على الانترنت يوم احرق قالايا نفسه، ونمت الاذاعة التي يعمل فيها الآن 70 شخصا وهي تبث برامجها اليوم الى منطقة يسكنها 400 الف شخص. &ولكن جميع العاملين بمن فيهم رباح نفسه لا يتقاضون دينارا واحدا على عملهم لأن الايرادات المتحققة من الاعلانات لا تغطي إلا تكاليف التشغيل. &كما ان غالبية العاملين عاطلون في كل الأحوال وليس هناك شيء افضل يفعلونه من العمل بالاذاعة. &
&
وقال رباح لمجلة شبيغل "ان اي احد يستطيع ان يقول رأيه في تونس. وعدا ذلك لم يتغير شيء يُذكر. &فنحن نحتاج الى مزيد من الوقت". &ولهذا السبب تعمل اذاعته مع المدارس حيث يساعد الأطفال على انتاج برامج اذاعية وفي مجرى العملية يتعلمون كيف تعمل الانتخابات وان للآراء المختلفة تأثيرها وقبل كل شيء ان التغيير ممكن. ويعلق رباح آماله على الجيل الناشئ. &
&
ولكن التونسيين الآخرين ليسوا جميعهم مستعدين للانتظار مثل رباح. &فان صابر شقيق حسني قالايا الذي احرق نفسه من أجل حياة كريمة ، فقد عمله قبل فترة. وكثيرون في قصرين ينضمون الى صفوف العاطلين بسبب افلاس الشركات أو نقل الانتاج الى الساحل أو لأن المشاريع الجديدة معطلة ولأن الثورة التي ساعد قالايا على تفجيرها حققت الديمقراطية ولكنها لم تجلب معها فرص عمل.
&
كافح صابر باستماتة من أجل الاحتفاظ بوظيفته وامضى ثلاثة اشهر يتوسل رب العمل ألا يسرحه، وحين شعر بأنه فقد الأمل اشترى قنينة بنزين مثلما فعل شقيقه وأحرق نفسه، قرب منزله. وحين سمعت والدته صوت الصراخ ركضت خارج البيت ورأت صابر ممددا على الأرض واللهب يلف جسمه. &وفي 14 تشرين الأول (اكتوبر) توفي صابر متأثرًا بحروقه. &
&
قالت الأم باكية في منديل "ألعن هذه الثورة، أُريد ابنائي، سيموت آخرون وسيقتل آخرون وسيحرق آخرون أنفسهم".&
&
حسن قالايا كان يجلس صامتا قرب أمه. ولم يكن قادرا حتى على البكاء كما يجب في تشييع شقيقه لأن النار دمرت قنوات الدمع في مقلتيه.
&

&