وليد فرحات واحد من ثمانية مصريين عادوا مؤخرا إلى قريتهم في محافظة المنيا بصعيد مصر، بعد ما يزيد على ستة شهور قضوها في زنازين بمدينة مصراتة الليبية أثناء احتجازهم قسرا من قبل عناصر مسلحة هناك. ويقول وليد: "كهربونا في كل حتة في جسمنا وسلطوا (تركوا) علينا الكلاب تنهش فينا وضربونا بالكرباج طيلة فترة السجن." وتعود الحكاية إلى شهر مايو/أيار الماضي عندما قرر وليد وسبعة من رفاقه العاملين في إحدى المزارع، على مسافة 70 كيلومترا إلى الغرب من مدينة سرت الليبية، العودة إلى مصر بمناسبة شهر رمضان لقضاء شهر الصوم وأيام عيد الفطر مع عائلاتهم بالمنيا، التي ينتمي إليها سبعة منهم، والفيوم، التي ينتمي إليها واحد. ويقول خلف - البالغ من العمر 25 عاما، وهو من قرية السوبي بالمنيا ومن نفس عائلة وليد - أبلغنا السائق الليبي ان الطريق الساحلي نحو سرت غير آمنة بسبب وجود أكمنة لتنظيم الدولة الإسلامية، الذي كان يسيطر على سرت في ذلك الوقت. واقترح السائق، بحسب ما قاله خلف، أن "نأخذ الطرق إلى مدينة الجفرة جنوبا ثم نعود إلى الطريق الساحلي قرب الحدود مع مصر من منفذ آخر يتفادي تلك المخاطر." ويلتقط وليد خيط الحديث قائلا: "بعدما قطعنا شوطا ناحية طريق الجفرة استوقفنا مجموعة من الجيش". ويتدخل خلف ليقول "لا لم يكونوا من الجيش وإنما مجموعة من المسلحين أو المليشيات كما اتضح لاحقا ... كانوا يرتدون زيا عسكريا لكن ليسوا من الجيش ... لم يكن هناك رتب معينة بينهم." واستكمل وليد، الذي كان يعاني من ضعف في السمع بسبب "صفعة شديدة" من أحد سجانيه في وقت لاحق: "سألونا عن هوياتنا فأبرزناها، ولما عرفوا أنا مصريون أنزلونا من السيارة إلى أخرى تابعة لهم، ومعنا امتعتنا." ويستطرد وليد "حاول السائق الليبي إقناع المسلحين أننا مجرد عمال (أرزقية) باليومية، عائدين إلى بلدنا بعد عامين من الغربة لكن أحدا لم يصغ له، بل نهروه، فتركنا وذهب إلى حال سبيله، وأخذونا معهم في سيارتهم عائدين إلى جهة الغرب حتى بلغنا معسكرا في الطريق إلى مصراته لا نعلم من المسؤول عنه، لكن كان به عدد آخر من المسلحين." ويضيف خلف، الذي بدا عليه التأثر باستعادة أحداث تؤلمه "قال لنا أحدهم: إنتو مصريين تبع السيسي ... انتو جواسيس."، فأعدنا عليه ما قلناه سلفا إنا مجرد عمال باليومية عائدين إلى بلدنا." ويؤكد خلف ووليد أن أحدا من محتجزيهم لم يطلب "فدية" أو أي شيء كي يطلق سراحنا، مشيرين إلى أنه منذ ذلك الحين تم الاستيلاء على أمتعتهم ومدخراتهم وهواتفهم المحمولة، وانقطع اتصالهم تماما بالعالم الخارجي. ويقول وليد إن العمال الثمانية قسموا لاحقا إلى مجموعتين، ووضع كل أربعة منهم في زنزانة ضيقة للغاية، دون أن يفصح أحد لهم عن أسباب احتجازهم. ويقول نبيل، أحد العائدين الثمانية، وهو من قرية مجاورة إنه أثناء وجوده في محبسه قال له أحد الحراس "إنتو تبع داعش"، وهو الاتهام الذي أنكروه جميعا، وقالوا إنهم لم يكونوا أبدا في وسط الأحداث في سرت، ولم يقابلوا أيا من أعضاء التنظيم أبدا. ويكشف وليد، الشاب العشريني المتزوج الذي لم تتعرف عليه طفلته الصغيرة بعد عودته، عن ظهره وصدره ليرينا علامات بارزة لما قال إنه آثار تعذيب بالكهرباء والكرباج والكماشات من جانب حراس الزنازين بالمعسكر. وقال أيضا إنهم كانوا يحصلون على وجبة واحدة من "المكرونة" يوميا، بينما كان قضاء الحاجة في "زجاجات فارغة"، وإنهم لم يأكلوا لحما طيلة فترة احتجازهم بالمكان، تلك الفترة التي قاربت 5 شهور. ويقول وليد: "من بعد العشاء وحتى الثانية صباحا كانوا يضربوننا بالكرابيج ويوجهون لنا سبابا فاحشا." وسألناه إن كان بدا على الحراس الانتماء لجماعة دينية، أو بدا عليهم الالتزام الديني شكلا أو مضمونا، فقال خلف "لم نر منهم من كان يصلي، ولما رفع أحد السجناء الآخرين الآذان تمت معاقبته من السجانيين." وقال خلف كان بالمعسكر زنازين عديدة، وسجناء من جنسيات مختلفة، لكن التواصل بينهم كان ممنوعا. وبقيت المجموعة المصرية - بحسب وليد وخلف ونبيل - في هذا المعسكر حبيسة الزنازين لمدة خمس أشهر ثم نقلوا إلى ما يسمى بالمحكمة في المدينة، دون تحقيقات أو اتهامات واضحة، ولم يتواصل معهم أي مسؤول أو أي فرد من أي جهة ليبية أو مصرية بخصوص قضيتهم. ويستطرد نبيل الذي بدأ أكثر العائدين تماسكا: "ربما تواصل أحد مع السجانين، لكن، وربما لا ... ليست لدينا أي فكرة عن ذلك إن حدث." ويستعيد نبيل الأحداث قائلا: "دون سابق إنذار نقلونا في سيارة تحت حراسة إلى "مبنى المحكمة" قرب الكلية الجوية بمصراتة ... وهناك التقينا "وكيل النيابة" الذي سألنا عن ملابسات احتجازنا، فسردنا عليه مجددا كل ما قلناه سلفا للمسلحين الذين احتجزونا." ويضيف "وعدنا "وكيل النيابة" بالاهتمام بأمرنا. ونقلنا إلى سجن بالكلية الجوية لمدة أسبوعين أو أكثر. ودون سابق إنذار أيضا جاءنا من يقول لنا استعدوا للذهاب لمطار مصراتة ... ستعودون إلى بلدكم." ويقول خلف "لم نصدق حتى وجدنا أنفسنا في مطار مصراتة، نقاد إلى الطائرة بجواز السفر فقط ... لا شيء غير جواز السفر والملابس التي نرتديها ... لم يسلمونا أي شيء من "فلوسنا أو نقودنا وأمتعتنا." ويستطرد خلف "وصلنا إلى مطار برج العرب بالأسكندرية فلم نجد أي مسؤول في استقبالنا ... ربما لم يكن أحد يعلم بإطلاق سراحنا ... لم يحضر أي من الأهل لأنهم لم يكونوا يعلمون، وإن علموا فالمسافة إلى الأسكندرية بعيدة." ويقول وليد إنه خضع هو ورفاقه الثمانية للتحقيق من قبل سلطات الأمن في مطار برج العرب، وفتح "محضر" رسمي بحقه شخصيا بتهمة "الهجرة غير الشرعية". وكان وليد قد ذهب إلى ليبيا عبر الحدود دون وثائق رسمية. ثم سرح الجميع لاحقا بضمان محل إقاماتهم وتنقلوا بين محطات الركاب في الأسكندرية ثم القاهرة حيث استقل كل منهم سيارة أجرة حتى وصل إلى مسقط رأسه، بعد نحو يوم كامل من خروجه من مصراتة على متن طائرة ليبية. وقطعت مصر للطيران رحلاتها إلى المدن الليبية منذ تردي الوضع الأمني ونشوب الاقتتال الداخلي قبل عامين. ويتمكن المصريون والليبيون من السفر برا عبر منفذ السلوم الحدودي بين البلدين. ولم يتسن التواصل مع الطرف المسؤول عن احتجاز العمال العائدين للتحقق من رواياتهم. وفي القرية عاد محروس، أحد العائدين، ليجد في انتظاره خصومة ثأر بعد مقتل شقيقه الأكبر على يد ابن عم لهما بسبب خلاف مالي. ووجد نبيل والده توفي قبل ثلاثة أيام فقط من وصوله. ويفكر وليد في السفر داخليا إلى الأسكندرية، أو أي مدينة مصرية أخرى للعمل، إذ لا تملك عائلته سوى عدة قراريط لا تكفي للإنفاق على ستة أشقاء ووالديهم. ويأخذ خلف قسطا من الراحة قبل استئناف عناء العمل في الحقل، لكن ملامح الحسرة والانكسار لا تزال ترسم خيوطها على وجهه بعد تبدد أحلامه وأحلام عائلته في الخروج من دائرة "الفقر المذل". ويقول العائدون إن زميلهم من محافظة الفيوم المجاورة عاد بجروح غائرة في ساقيه نتيجة هجمات الكلاب المفترسة التي تركها سجانوه عليه أثناء وجوده في محبسه بمصراته. ولم تتواصل الخارجية المصرية مع العاملين العائدين منذ عودتهم إلى وقت إعداد التقرير، لكن زارهم مسؤولون بالإدارة المحلية بالمدن التابعين لها دون وعود بأي تعويضات عن خساراتهم. وكانت الخارجية المصرية - التي أعلنت أنها تتواصل مع أطراف ليبية لمحاولة كشف ملابسات وأماكن "اختطاف" المصريين الثمانية - قد ذكرت في السابق إنهم محتجزون لدي "السلطات في مصراتة" دون أن تعلن لاحقا إن كانت هناك أي وساطة أو تسوية لملفهم حتى أفرج عنهم وعادوا. وكان تنظيم الدولة الاسلامية في مدينة سرت الليبية أعلن في يناير/كانون الثاني عام 2015، أعلن عبر مشاهد مصوره عملية قتل 21 قبطيا من أبناء قرية العور بمحافظة المنيا، المجاورة لقرية السوبي التي ينتمي إليها سبعة من العمال العائدين، كانوا يعملون في ليبيا أيضا. ويجلس وليد، وخلف، عند حافة قطعة أرض زراعية محدودة لعائلتيهما ناظرين ناحية الغرب حيث تطل من بعيد كنيسة "الشهداء" التي لا تزال تحت الإنشاء، والتي أنشئت بطلب من أقارب الضحايا الأقباط لتخليد ذكراهم. ويقول وليد إنه ورفاقه كانوا أكثر حظا من جيرانهم أبناء "العور" بعدما عادوا أحياء، وإن كانوا فقدوا كل ما يملكون في رحلتهم في غياهب مصراتة.
- آخر تحديث :
التعليقات