يتقاسم اليمين واليسار الفرنسيان الفشل على صعد عدة، لكن يبدو أن المتضرر الأكبر هو فرنسوا هولاند، بحسب محمد عبدي، المستشار السابق في الحكومة الفرنسية.

خاص بإيلاف من باريس: يعاني الرئيس الفرنسي فرنسوا هولاند تراجعًا حادًا في شعبيته، بلغ أدنى مستوى له منذ عام ونصف عام، واستقر عند 13 بالمئة، وفق استطلاع للرأي أجراه أخيرًا مركز يوغوف.&

ينتج هذا التراجع من أسباب عدة، منها إعلانه تراجعه عن تعديل دستوري، يقضي بنزع الجنسية عن مرتكبي الجرائم "الإرهابية" من حملة الجنسيتين، مع رفض يمين الوسط المعارض ونواب من الحزب الإشتراكي الحاكم هذا الإجراء، الذي دفع سابقًا بوزيرة العدل كريستيان توبيرا إلى الإستقالة، إذ اعتبرته يقسّم الفرنسيين إلى أصليين وآخرين من أصول مهاجرة.&

فشل
كان الرئيس الفرنسي أمام خيارين لاعتماد التعديل الدستوري: إقراره بمؤتمر عام يجمع المجلس بغرفتيه، مجلس الشيوخ والبرلمان، أو من خلال استفتاء شعبي. لكنه فشل في اعتماد نص التعديل الدستوري، لأن البرلمان صوّت على صيغة، أكد فيها أن نزع الجنسية عن مرتكبي الجرائم "الإرهابية" لا يستهدف مزدوجي الجنسية، في حين أعاد مجلس الشيوخ الصيغة الأولى، ورفض أن تطال إلا حملة الجنسيتين، لتفادي تواجد فرنسيين من دون وطن. في المقابل، لم يكن الرئيس الفرنسي متأكدًا من أن نتيجة الإستفتاء الشعبي ستكون لمصلحته في التعديل الدستوي، ففضل التراجع.&

استند قرار هولاند إلى وقائع أظهرت إستحالة نيله غالبية أصوات مجلسي النواب والشيوخ، في وقت ينتقده خصومه، ويقولون إنه الرئيس الذي لا يحبّذ الحسم في المعارك السياسية.

ليس وحده المسؤول
محمد عبدي، المستشار السابق في الحكومة الفرنسية، قال لـ "إيلاف" إن الأزمة التي يعيشها هولاند هي نتيجة الأزمات التي يعانيها تكتل اليسار، الذي يظل القاعدة الأساسية للرئيس الفرنسي. فهذا اليسار يعيش أزمة أيديولوجية وسياسية وأزمة وجود سياسي وغياب رؤية واضحة، "فللمرة الأولى في تاريخ الجمهورية نرى اليسار الفرنسي يعيش مثل هذه الأزمة، التي تُلقي بظلالها على شعبية هولاند"، كما قال عبدي.&

أضاف: "هذا لا يغيّب التحدي الأكبر الذي يواجهه الرئيس الفرنسي، الذي ربط إعادة ترشحه للإنتخابات الرئاسية بتراجع نسبة البطالة في فرنسا، وهي ما زالت عند 10.2 في المئة من إجمالي اليد العاملة الفرنسية، نتيجة التباطؤ الإقتصادي العالمي. ويواجه الرئيس الفرنسي صعوبات في إقناع الرأي العام الفرنسي بصوابية اعتماد قانون العمل الجديد، الذي يحرم الموظف أو العامل من مكتسبات تاريخية، فيما يعطي أصحاب الشركات العاملة والمؤسسات إمكانية تسريح العامل من دون إجراءات معقدة، وهو مشروع قانون رفضه اليمين المعارض وقسم من نواب الحزب الإشتراكي، ودفع الطلاب إلى التظاهر منذ أسابيع، منددين بسياسات الحكومة الإشتراكية، وأدى للمرة الأولى بقسم من الشباب الفرنسي إلى المرابطة في ساحة الجمهورية ليلًا في حركة إحتجاج رفضًا للوضع السياسي والإقتصادي والإجتماعي، وهي متواصلة منذ أسبوع".&

وعمد الحزب الإشتراكي اليساري الحاكم إلى التقليل من أهميتها، ورأى فيها النائب عن الحزب الحاكم مالك بوتيح بأنها تحركٌ يمكن أن يتواصل، لكنه لن يكون له أفق سياسي لأنه يفتقر إلى قائد".&

غلطة اليسار
وتابع عبدي: "هذا جزء من التناقضات التي يعيشها المجتمع الفرنسي، وبالتالي هناك قطيعة إيديولوحية كبيرة لم يسبق لها مثيل، لأن اليسار لم يستطع أن يجد حلولًا للمشكلات التي يتخبط بها المجتمع الفرنسي وفئة من الشباب، ولا رؤية واضحة للمجتمع الفرنسي، ولا للعلاقات الخارجية. فالأصوات ترتفع منتقدة الحكومة، وللمرة الأولى نرى برلمانيين إشتراكيين يقولون إنهم لن يصوّتوا للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند، وهي وضعية جديدة تعبّر وتعكس الأزمة العميقة والتاريخية التي يعيشها اليسار، اليسار يغيّب سياسة تُعنى بالشباب، وخير مثال على ذلك مشروع قانون العمل الجديد، الذي تراجع عن
مبادئ يقتنع بها اليسار، وهذا المشروع كان قد يأتي به اليمين، وليس اليسار".

لا سياسة واضحة&
يعاني هولاند تداعيات الإنقسام، التي تعصف بالبيت الإشتراكي، والتي دفعت أخيرًا بوزير الإقتصاد إيمانويل ماكرون، المقرّب من الرئيس الفرنسي، إلى إطلاق حركة سياسية، عرفت تحت مسمى "متحركون"، قال إنها ليست يمنيًا ولا يسارًا. عارضها رئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس.&

وفي استطلاع للرأي، عرضت نتائجه صحيفة لو فيغارو، يتربع إيمانويل ماكرونفي في المرتبة الأولى بـ 47 بالمئة كأفضل مرشح يساري لخوض الإنتخابات الرئاسية في أيار (مايو) عام 2017، ويتقدم على رئيس الوزراء مانويل فالس بأربع نقاط، فيما يحل هولاند أخيرًا بنسبة 20 في المئة.&

هذا، برأي عبدي، دليل قاطع على أزمة اليسار، "فعندما يأتي وزير فرنسي من حكومة اليسار، ويقول لنا ليس هناك يسار ولا يمين، فهذا خطاب لم يعرف من اليسار من قبل".

قطع الطريق
فهل يحاول هولاند، من خلال حركة "متحركون"، قطع الطريق على رئيس وزرائه؟، هذه فرضية يستبعدها عبدي، قائلًا إن لرئيس الوزراء الفرنسي مانويل فالس رأيًا خاصًا في الهوية والثقافة والجمهورية والعلمانية، كما ان لوزير الإقتصاد اتجاهاً آخر يقطع الطريق على الذين يصوّتون لمصلحة آلان جوبيه، القيادي اليميني المعارض والمرشح المحتمل للرئاسة الفرنسية، "وهذا يخلق نوعًا من التناقضات في صفوف اليسار، لأن خطاب مانويل فالس يتوجه إلى اليسار الجمهوري العلماني، ويتبع قواعد قديمة، ولا أرى أن لخطاب ماكرون انعكاسًا على طموح رئيس الوزراء، لكنه يقطع الطريق عليه، وإن لم يرشح هولاند نفسه للرئاسيات، فعندها سيكون موجودًا، ويحاول أن يقترح عضويته في الإنتخابات الرئاسية".

إخفاقات متبادلة
لا يرى عبدي أن الشباب الفرنسي يتطلع إلى حركة سياسة جديدة بعيدة عن إخفاقات اليمين واليسار معًا، لكنه في الوقت نفسه لا ينفي أن ثمة أزمة حقيقية، تجد جذورها في غياب رؤية واضحة للأحزاب السياسية، "وعندما يقدم ماكرون حركته السياسية الجديدة على أنها ليست يمينًا ولا يسارًا، فهو مخطئ، لأن في تاريخ فرنسا&يوجد يمين ويسار، وكل واحد شارك بطريقته في بناء فرنسا اليوم، لكن اليمين الفرنسي يعيش أزمة أيديولوجية، واليسار يعيش أزمة أكبر وأخطر، لأنه لم يستطع إيجاد أجوبة فاعلة عن أسئلة طموحة تطرحها الفئات الشعبية التي تعيش اليوم تناقضًا على جميع الأصعدة: السياسة الخارجية والهوية والعلمانية، ونحن نلاحظ أن مسؤولين في الحزب الإشتراكي يتحدثون كاليمين وحتى اليمين المتطرف".&

وفي مقابلة مع صيحفة لو جورنال دو ديمانش الأسبوعية، يظهر فالس واثقًا بإعادة انتخاب هولاند في أيار (مايو) 2017، فلا يرى بديلًا من هولاند في معسكر اليسار، ويقدمه كقوة سياسية وحيدة قادرة على انتشال فرنسا من أزماتها، ومنها "الإرهاب" والهجرة، وهو خطاب لم يكن مطلوبًا من فالس، ولا يدخل في واجبات رئيس الوزراء تجاه رئيس الجمهورية، لكن فالس يبقى في الأساس أحد كوادر الحزب الإشتراكي، الذين بدأوا الاستعداد لمعركة الرئاسة 2021.​