نعلم جميعاً أن" إيلاف "كانت أول صحيفة الكترونية عربيّة. فهل تكون أوّل مَن يتخلّى عن الشكل "التقليديّ" للصحافة الالكترونيّة، وتنتقل الى شكل جديد يتناسب وثورة "السوشال ميديا"؟ الاجابة على هذا السؤال متروكة للأستاذ عثمان العِمير العارف بأحوال المهنة وأسرارها، لكن السؤال عن مستقبل "الصحافتيْن" الورقية والإلكترونيّة يقتضي منّي القول إنني أنتمي الى جيل ظلَّ الحبر والورق لصيقاً به سحابة عمره، وما كان أبداً مجرد حبر على ورق، كانت الصحف تستقطب كبار الأدباء والمفكّرين، رؤساء تحريرها أصحاب رأي وموقف، محرّروها شعراء وروائيون وكتّاب فكر واجتماع وسياسة واقتصاد، مقالاتها تهزُّ حكومات وتُعلي شأن أخرى، صفحاتها الثقافية وملاحقها الأدبية منابر المبدعين ونوافذ الجديد في الشعر والرواية والنقد والفلسفة والمسرح والسينما والرسم وسائر الفنون. الخلاصة كانت الجريدة مصدراً من مصادر المعرفة لا مجرد ناقل خبر أو حدث.

لست أنعي الصحافة الورقيّة التي يمكنها أن تعيش بضع سنوات أُخَر اذا تكيفت قليلاً مع العصر وتحلّت بكثير من المرونة والطواعية، لكن عمرها الواقعيّ قد انتهى فعلاً وباتت مثل مريض في "كوما" يستمر على قيد أجهزة التنفس. نعم، هي صورة مأساوية، لكن كيف يمكننا تجاهل إعلان صحف عريقة مثل "الاندبندنت" البريطانية و"البايس" الأسبانية التوقّف عن إصدار طبعتيْهما الورقيتيْن، واعلان إذاعة "بي بي سي" البريطانية توقّفها عن بثّ فقرة أقوال الصحف التي دأبت عليها طوال ستين عاماً، كأنها تقول لم يعد لدى الصحافة الورقيّة ما تقوله، لقد تكفّلت الميديا البديلة بقول كل شيء. فهل واقع الحال على هذا النحو؟

أياً تكن الإجابة فإنها أخبار مؤسفة لأجيال كاملة نشأت على حُبِّ الحبر والورق قبل أن تزحف الشاشات الصغرى لتأخذ الحيّز الأكبر، وتغدو الأنامل أكثر استعمالاً من الأقلام، تُمارس فعل اللمس وكأنها تحفُّ فانوساً سحرياً لا يخرج منه مارد جبّار بل دنيا كاملة الأوصاف، وبالفعل فإنني من الذين يعتقدون بأن المستقبل هو للشاشات الصغرى التي ستحل مكان ما عداها من شاشات، حتى الكمبيوتر بات محمولاً بيد واحد، الألواح الذكية تصغر مساحتها تباعاً، بما يعنيه ذلك من تبدل وتغير في شكل استخدامها وفي طبيعة محتواها، وإذا لم تأخذ الصحافة الالكترونية الأمر بالحسبان فلن يختلف مصيرها عن نظيرتها الورقية. 

رُبَّ قائلٍ شتّان بين لمس الورق، ولمس الزجاج البارد للأجهزة الذكية. صحيح! لكنها رؤية رومانسية بعض الشيء، لا يفيد الآن الوقوف على الأطلال ورثاء الورق و"الإلكترون"، الزمن مستعجل ولا وقت للوقت، ان لم تسر معه تجاوزك وتركك حيث أنت واقفاً تندب زمنك.

كما لا يمكننا تجاهل الأجيال التي تنشأ الآن وتكبر من دون أن تشمَّ رائحة الحبر، وتتحسَّس ملمس الورق وتسمع حفيف الصفحات، هي صفحة واحدة بصفحات كثيرة، جهاز كمبيوتر يصغر تباعاً كما أسلفنا أو هاتف محمول نُقلِّبُ فيه الصفحات الافتراضية ونكتب بحبر افتراضيّ. من على أريكتك أنّى حللت أو ارتحلت تجول الدنيا "فاتحاً" العواصم والمدن، مستطلعاً ما يدور هنا وهناك بلا حاجة للتحرّك من مكانك قيد أنملة. فالأنملة صارت في حجم كوكب، بلمسة واحدة تنقلنا من قارّة الى قارّة، ولعلها غداً تحملنا الى أبعد من حدود الكواكب، فما هو متاحٌ اليوم لمراكز الأبحاث ووكالات الفضاء سيغدو حتماً متاحاً للجميع، إن غداً لفضائه قريب!

في معرض تبريره لإيقاف طبعتها الورقية يقول المحرر العام لجريدة "البايس" أنطونيو كانيو "إن عادة شراء الصحف الورقية باتت عادة قديمة" وبالفعل فإن "البايس" لم تعد توزّع أكثر من ٢٢٠ ألف نسخة ورقيّة، وهو رقم ضئيل مقارنة بعدد سكان اسبانيا الذي يتجاوز ٤٧ مليون نسمة. فكيف يكون الحال لو ذكرنا أرقام توزيع الصحف العربية المتحوِّلة صفحاتها مقابر ورقية وأوراق نعي للضحايا الذين يسقطون يومياً بالمئات؟

ولئن كانت الصحافة الورقية عاشت عقوداً طويلة من الزمن عرفت خلالها مراحل ذهبية، فإن الاعلام الالكتروني لا يبدو محظوظاً في هذا الشأن، أميل الى الاعتقاد بأن عمره القصير لن يطول كثيراً (ولا عزاء لذويها) بفعل تسارع المستجدات في مجال التكنولوجيا الذكية التي يُتَوَقَع أن تحيل الهواتف المحمولة قريباً الى التقاعد ليحل مكانها ما يعرف ب"المساعد الشخصي" الأشبه برجل آلي أو "روبوت" ذكي ينوب عن صاحبه بقضاء كثير من الحاجات ويكون في الوقت نفسه مصدراً للأخبار والمعلومات، وكذلك حال الشاشة التفاعلية الشاملة (multimedia home platform)، ما يعني أننا في غمرة تحوّلات متسارعة جعلت كل انسان مرسِلاً ومتلقياً في الوقت عينه. 

لا عزاء لمن يبكي على رسمٍ دَرَس، لعل العزاء الوحيد للورق أو ما تبقَّى منه (حتى العملات الورقية زائلة خلال سنوات كما يتوقع مصرفيون) أنّ شاشات اليوم ما كانت لِتكون لولاه. على صفحاته كتب العلماء معادلاتهم وأبحاثهم ونظرياتهم قبل أن يجعلوها حقائق ملموسة، وعلى الصفحات نفسها خطَّ الأدباء والشعراء سطور اشتياقهم ووجدهم وحنينهم. ولعله، أي الورق، يكون أكثر سعادة ببقائه شجراً وراف الخضرة والظلال في عالم يتصحّر، و"يتمعدن" ويفقد كثيراً من الخضرة وسائر الألوان، وأياً كان شكل الصحافة المقبلة لا معنى لها الا بمقدار تعبيرها عن معنى الانسان الذي عليه من الآن فصاعداً منافسة ما صنعت يداه كي لا تتفوق الأجهزة الذكية على حامليها".