ثمة شبه كبير بين حياة ريجيس دوبريه المفكّر والكاتب، وأعماله، فهي تكتسي طابعًا جذّابًا لا يقاوم، وعمقًا وأسلوبًا فريدين من نوعهما، واقع غنيّ يعرّفنا على مدى ولعه بالعمل، وشغفه بالتاريخ، ولقاءاته الملحمية ورحلاته التي لا تحصى ولا تعدّ… في الماضي كما في الحاضر، لا يزال رحالة وإنسانًا معاصرًا متطلّبًا وقلقًا. &

إيلاف من بيروت: في مقابلة له مع موقع Humanité الفرنسي، تناول ريجيس دوبريه مسائل العلمانية والدين والتاريخ والواقع الحالي وتأثّر أوروبا بأميركا وتعاسة العظماء...

علمانية من أجل التعايش

عند سؤاله عن مفهوم العلمانية في كتابه "العلمانية في الحياة اليومية" (فوليو، دار غاليمار)، بالاشتراك مع ديدييه لاسكي، ذكر الكاتب أن لا تعريف رسمياً للعلمانية، لأنّ قانون الفصل بين الكنيسة والدولة لم يذكرها، ما يترك لكلّ شخص حريّة فهم العلمانية بحسب انتماءاته ووفقًا لتوجهاته. ووفقاً للتعريف الذي أعطاه المقاوم البروتستانتي أندريه فيليب، فإنّ "الإطار العلماني يوفّر وسائل التعايش لمجموعة من الأفراد لا يتشاركون العقيدة نفسها في أرض واحدة &بدلًا من تركهم في فسيفساء من المجتمعات المنغلقة." إذاً فالعلمانية وُجدت لتفادي هذه الفسيفساء ليس بصفة نهائيّة ولكنّها تخفّف الانطواء المجتمعي. إنّها تعايش لا يدّعي الأيديولوجية.&

وفي معرض حديثه عن فقدان روح السلام والمساواة التي تتسم العلمانية بها، ذكر دوبريه أنّ العلمانية تعتبر أنّ العقل يتفوّق على العاطفة، وبالتالي فإنّ الأولوية للدولة وليس المجتمع المدنيّ. وربط العلمانية بالتعليم كما بوجود سلطة مركزية فيها قوانين وأنظمة، وشدّد على مراهنتها على المساواة في الحقوق، ووحدة الجنس البشري ونشر المعرفة على مستوى عالمي. ولفت إلى التشكيك اليوم في الفصل بين القطاع الخاص والعام من خلال خصخصة القطاع العام، فضلًا عن العدمية المعرفية التي تميل إلى وضع المعرفة والرأي في المستوى نفسه.

وتكلّم أيضاً عن الأزمة التي تواجهها العلمانية أينما كان، فهي تتراجع بسبب اختفاء السلطة العامة، وتزايد هيمنة القطاع الخاص على العام. وتكلّم عن تحوّل الدول العلمانية إلى ثيوقراطية، ودعا إلى النضال في سبيل الحفاظ على العلمانية.

الطائفة... إيمان مشترك

أما في كتابه "النّار المقدسة"، &قال دوبريه إنّ "الديانة المعروفة بعبادة إله واحد، وكتابات مقدسة، ورجال دين وعقائد ولاهوت، لا تنطبق على أغلب الطوائف، بما في ذلك الديانات التي نصفها بالعلمانية أو الحضارية." وعبّر أنّه يفضّل استخدام كلمة الطائفة التي تنشأ بمجرّد وجود إيمان مشترك بين فئة من الناس، وارتباط هذا الإيمان بواقع ما أو بموضوع ماورائي. وأضاف: "لا أؤمن على الإطلاق بنظرية الخروج عن الدين، يجب الكفّ عن اعتبار الإنسان مجرّد حيوان رمزي. فهو الذي يربط بين هذا العالم والعالم الآخر، بين الحاضر والماضي أو المستقبل. هذه الوظيفة الرمزية هي التي تولّد التديّن الذي ينشأ بغضّ النظر عن وجود إله أو عدمه".

انفصال السياسة عن التاريخ

وتكلّم عن عمله الأخير "السيدة ت"، حيث &تناول تاريخاً بطوليّاً أسطورياً يغذّي العمل وينمي مخيّلة جماعية. واعتبر أنّ التاريخ هجر أوروبا فأصبحت مقاطعة تابعة لأميركا الشمالية، وبعدما كانت الحضارة الأوروبية ترتكز على مبدأ أنّ الزّمان والعمق التاريخي المشترك يولّدان رابطاً بين الأفراد وينشئان إنسانية واحدة، استبدلت أميركا الزّمان بالمكان فانفصلت السياسة عن التاريخ واختفت فكرة واجب الانتماء والمنافسة مع الأسلاف وإتمام مسيرتهم. &

ولفت إلى أنّ الإنسان التقدميّ الحقيقي ينظر دوماً إلى الوراء، وأنّ "الأمل الوحيد الذي يتمسّك به اليوم هو تفادي تفكّك فرنسا، &وتجنّب ضمّ ثقافتها إلى الثقافة الأميركية، ورغم استنتاجه أن عملية الضمّ هذه جارية، فهو يرى دلائل مبشّرة من المقاومة، والصمود والتمرّد، مثلاً في الإضرابات الحالية، ووجود الاتحاد العمالي العام الذي يعتبر تقليداً عُماليّاً تتفّرد به فرنسا.&

التاريخ الكبير يحزننا

وبنظر دوبريه "الرجال العظماء تعساء والحنين هو المحرّك الأساسي، فكل الثّوريين مثلاً مهووسون بإنجازات الماضي".

وأضاف أنّ "التاريخ القصير يضحكنا ونحن بحاجة إلى الضحك، أمّا التاريخ الكبير فهو يحزننا لأنه دليل على وجود شيء أكبر منّا بكثير، وكلّ ما يوحّدنا يتجاوزنا." وصرّح أنّ زيارته لديغول التي ذكرها في إحدى كتاباته كانت حلماً وأنّ فكرة هذا الكتاب الأساسية هي الذهاب للحجّ في بعض الأماكن برفقة بعض الأشخاص، ما يدلّ على عدم الملاءمة بين الواقع والخيال. "إنّه حلم قهري راودني عدّة مرات، حلم يوجّه أصابع الاتهام نحو الذات، فضلاً عن أنّه يعبّر عن رغبة. يبحث جميع الفرنسيين اليوم عن رجل عظيم ويواجهون صعوبة في إيجاده."

صيغة الأنا

وفي ما يتعلّق بكتابه "خارطة الطريق"، فذكر دوبريه أنّ استخدم أسلوب المتكلّم "الأنا" الذي يتطلّب بعض الصدق والواقعية. واختصر قائلاً إنّه استعمل "صيغة المجهول للإعلان، صيغة الجمع للصراخ والمناداة، وصيغة الأنا للهمس. فصيغة المجهول نظرية أو علمية، وصيغة الجمع تنطوي على جانب من الهيبة والطموح، في حين أنّ صيغة "الأنا" مجرّدة، صريحة متردّدة وأقرب إلى الواقع."

بين المادّي والمقدّس

وعند سؤاله عن أوبرا ( بنيامين: الليلة الأخيرة) التي تدور أحداثها حول والتر بنيامين وهو على فراش الموت، اعتبر أنّ "كل منا يسعى إلى أن يكون بنيامين" وتحدّث عن تجربته عندما ذهب للحجّ في بورتبو (حيث توفي بنيامين)، التي تتميّز بمحطة قطاراتها الشاسعة وأجراس كنيستها، ما يبرز الجانب المادي من جهة والجانب المقدّس من جهة أخرى، تديّن بنيامين العميق من ناحية واهتمامه بالتقدم والصناعة من ناحية أخرى، فسلّط الضوء على التناقض الحميم لدى بنيامين، الرجل الممزّق بين إدراكه العميق لأهمية التطورات التقنية وحنينه القوي لأصوله الدينية والثقافية، عاكساً حقيقة الواقع الحالي: "تمرّد الهويّات ذات البعد الديني من جهة والتغيّرات التكنولوجية والقفزة الرقمية من جهة أخرى." وأضاف أنّ بنيامين عاش حياته مرة أخرى وهو على فراش الموت. وعبّر عن حساسيته تجاه الوضعيّة الوسطيّة بين النقد الأدبي والعمل الفلسفي للشاعر الذي لم يشأ أن يتخلّى عن مخاوفه الروحية. "كونه تقدميًّا بامتياز، أدرك أن الماضي لمّا ينتهِ، كان يعرف أنّ "الإنسانية تتكون من الأموات أكثر من الأحياء".

وأخيراً ختم ريجيس دوبريه بأنّ "أسلافنا ليسوا ميزتنا الوحيدة ، بل هم من يدفعنا إلى الأمام ومن مصلحتنا أن نضعهم نصب أعيننا."