الرباط: دعا العاهل المغربي الملك محمد السادس إلى ضرورة إعادة النظر في النموذج التنموي الوطني بهدف البحث عن حلول جديدة وناجعة للمشاكل التي يعيشها المغاربة والتي تستجيب لتطلعاتهم، خاصة الشباب، ولو اقتضي الأمر "الخروج عن عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي"، على حد قوله. وبارتباط مع ذلك، وجه الحكومة بوضع جدول زمني دقيق لاستكمال الجهوية الموسعة ووضع سياسة جديدة خاصة بالشباب، والتي أوصى بأن تكون على غرار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية.
وشدد الملك محمد السادس، في خطاب القاه مساء اليوم بمناسبة افتتاح الدورة البرلمانية الجديدة، على ضرورة التقييم الدقيق والتتبع المستمر لإنجاز المشاريع التنموية والإجتماعية التي أطلقها المغرب، وضرورة الصرامة في تطبيق مبدأ "ربط المسؤولية بالمحاسبة".
وفي هذا الصدد، أعلن العاهل المغربي عن تعديل وزاري مرتقب من خلالإحداث وزارة منتدبة لدى وزارة الخارجية مكلفة الشؤون الإفريقية، وخاصة الإستثمار، كما أشار إلى إحداث خلية لتتبع تنفيذ المشاريع التنموية والإجتماعية بكل من وزارة الداخلية والمالية، بالإضافة إلى توجيهه المجلس الأعلى للحسابات (أعلى هيئة للقضاء المالي بالمغرب) للقيام بمهامه في تتبع وتقييم المشاريع العمومية في مختلف جهات المملكة.
وتساءل العاهل المغربي "أليس المطلوب هو التنفيذ الجيد للمشاريع التنموية المبرمجة، التي تم إطلاقها، ثم إيجاد حلول عملية وقابلة للتطبيق، للمشاكل الحقيقية، وللمطالب المعقولة، والتطلعات المشروعة للمواطنين، في التنمية والتعليم والصحة والشغل وغيرها؟"، مشيرا إلى أنه بالموازاة مع ذلك "يجب القيام بالمتابعة الدقيقة والمستمرة، لتقدم تنفيذ البرامج الاجتماعية والتنموية، ومواكبة الأشغال بالتقييم المنتظم والنزيه".
وأشار العاهل المغربي إلى أن هذه الدورة البرلمانية تأتي "بعد خطاب العرش( 29 يوليو) ، الذي وقفنا فيه على الصعوبات، التي تواجه تطور النموذج التنموي، وعلى الاختلالات، سواء في ما يخص الإدارة، بكل مستوياتها، أو في ما يتعلق بالمجالس المنتخبة والجماعات الترابية"، موضحا "أن إجراء هذه الوقفة النقدية، التي يقتضيها الوضع، ليس غاية في حد ذاته، ولا نهاية هذا المسار. وإنما هو بداية مرحلة حاسمة، تقوم على ربط المسؤولية بالمحاسبة، والعمل على إيجاد الأجوبة والحلول الملائمة، للإشكالات والقضايا الملحة للمواطنين".
وقال الملك محمد السادس "إننا لا نقوم بالنقد من أجل النقد، ثم نترك الأمور على حالها. وإنما نريد معالجة الأوضاع، وتصحيح الأخطاء، وتقويم الاختلالات. إننا نؤسس لمقاربة ناجعة، ولمسيرة من نوع جديد. فما نقوم به يدخل في صميم صلاحياتنا الدستورية، وتجسيد لإرادتنا القوية، في المضي قدما في عملية الإصلاح، وإعطاء العبرة لكل من يتحمل مسؤولية تدبير الشأن العام". وأضاف "وبصفتنا الضامن لدولة القانون، والساهر على احترامه، وأول من يطبقه، فإننا لم نتردد يوما، في محاسبة كل من ثبت في حقه أي تقصير، في القيام بمسؤوليته المهنية أو الوطنية. ولكن الوضع اليوم، أصبح يفرض المزيد من الصرامة، للقطع مع التهاون والتلاعب بمصالح المواطنين".
وأشار العاهل المغربي إلى أن "المشاكل معروفة، والأولويات واضحة، ولا نحتاج إلى المزيد من التشخيصات. بل هناك تضخم في هذا المجال". مذكرا أنه وقف،أكثر من مرة، في خطاباته السابقة "على حقيقة الأوضاع، وعلى حجم الاختلالات، التي يعرفها جميع المغاربة".
وقال "إن المغاربة اليوم، يحتاجون للتنمية المتوازنة والمنصفة، التي تضمن الكرامة للجميع وتوفر الدخل وفرص الشغل، وخاصة للشباب، وتساهم في الاطمئنان والاستقرار ، والاندماج في الحياة المهنية والعائلية والاجتماعية ، التي يطمح إليها كل مواطن. كما يتطلعون لتعميم التغطية الصحية وتسهيل ولوج الجميع للخدمات الاستشفائية الجيدة في إطار الكرامة الإنسانية".
واضاف "والمغاربة اليوم، يريدون لأبنائهم تعليما جيدا، لا يقتصر على الكتابة والقراءة فقط ، وإنما يضمن لهم الانخراط في عالم المعرفة والتواصل ، والولوج والاندماج في سوق الشغل ، ويساهم في الارتقاء الفردي والجماعي، بدل تخريج فئات عريضة من المعطلين. وهم يحتاجون أيضا إلى قضاء منصف وفعال، وإلى إدارة ناجعة، تكون في خدمتهم ، وخدمة الصالح العام، وتحفز على الاستثمار، وتدفع بالتنمية، بعيدا عن كل أشكال الزبونية والرشوة والفساد".
وبخصوص النموذج التنموي المتبع، أشار العاهل المغربي الى أنه مكن المغرب من تحقيق تقدم ملموس معترف به عالميا، إلا أنه استنفذ قدراته و "أصبح اليوم، غير قادر على الاستجابة للمطالب الملحة، والحاجيات المتزايدة للمواطنين، وغير قادر على الحد من الفوارق بين الفئات ومن التفاوتات المجالية ، وعلى تحقيق العدالة الاجتماعية".
وفي هذا الصدد، قال العاهل المغربي "ندعو الحكومة والبرلمان، ومختلف المؤسسات والهيئات المعنية ، كل في مجال اختصاصه ، لإعادة النظر في نموذجنا التنموي لمواكبة التطورات التي تعرفها البلاد". وأضاف "إننا نتطلع لبلورة رؤية مندمجة لهذا النموذج، كفيلة بإعطائه نفسا جديدا، وتجاوز العراقيل التي تعيق تطوره، ومعالجة نقط الضعف والاختلالات، التي أبانت عنها التجربة. وسيرا على المقاربة التشاركية، التي نعتمدها في القضايا الكبرى، كمراجعة الدستور، والجهوية الموسعة، فإننا ندعو إلى إشراك كل الكفاءات الوطنية، والفعاليات الجادة، وجميع القوى الحية للأمة. كما ندعو للتحلي بالموضوعية، وتسمية الأمور بمسمياتها، دون مجاملة أو تنميق، واعتماد حلول مبتكرة وشجاعة ، حتى وإن اقتضى الأمر الخروج عن الطرق المعتادة أو إحداث زلزال سياسي".
وأوضح العاهل المغربي قصده من هذه الدعوة قائلا "إننا نريدها وقفة وطنية جماعية، قصد الانكباب على القضايا والمشاكل، التي تشغل المغاربة، والمساهمة في نشر الوعي بضرورة تغيير العقليات التي تقف حاجزا أمام تحقيق التقدم الشامل الذي نطمح إليه. وإذ نؤكد حرصنا على متابعة هذا الموضوع، فإننا ننتظر الاطلاع عن كثب، على المقترحات، والتدابير التي سيتم اتخاذها، من أجل بلورة مشروع نموذج تنموي جديد".
وربط الملك محمد السادس النموذج التنموي بالبعد الجهوي قائلا “إن النموذج التنموي مهما بلغ من نضج سيظل محدود الجدوى ، ما لم يرتكز على آليات فعالة للتطور ، محليا وجهويا. لذا ، ما فتئنا ندعو لتسريع التطبيق الكامل للجهوية المتقدمة، لما تحمله من حلول وإجابات للمطالب الاجتماعية والتنموية، بمختلف جهات المملكة". وأضاف أن “الجهوية ليست مجرد قوانين ومساطر إدارية، وإنما هي تغيير عميق في هياكل الدولة، ومقاربة عملية في الحكامة الترابية. وهي أنجع الطرق لمعالجة المشاكل المحلية، والاستجابة لمطالب سكان المنطقة، لما تقوم عليه من إصغاء للمواطنين، وإشراكهم في اتخاذ القرار، لا سيما من خلال ممثليهم في المجالس المنتخبة".
وشدد الملك محمد السادس "على ضرورة ملاءمة السياسات العمومية، لتستجيب لانشغالات المواطنين حسب حاجيات وخصوصيات كل منطقة"، مشيرا إلى "أنه ليس هناك حلول جاهزة، لكل المشاكل المطروحة في مختلف المناطق".
وأضاف “ولإضفاء المزيد من النجاعة على تدبير الشأن العام المحلي نلح على ضرورة نقل الكفاءات البشرية المؤهلة والموارد المالية الكافية للجهات، بموازاة مع نقل الاختصاصات. لذا نوجه الحكومة لوضع جدول زمني مضبوط لاستكمال تفعيل الجهوية المتقدمة. ونهيب بالمجالس المنتخبة وخاصة على مستوى الجهات لتحمل مسؤوليتها في تدبير شؤون كل منطقة واتخاذ المبادرات للتجاوب مع ساكنتها والاستجابة لمطالبها المشروعة".
وفي نفس السياق، دعا العاهل المغربي إلى “إخراج ميثاق متقدم للاتمركز الإداري، الذي طالما دعونا إلى اعتماده وتحديد برنامج زمني دقيق لتطبيقه".
وخص العاهل المغربي الشباب باهتمام خاص في خطابه أمام البرلمان، مشيرا إلى أن الشباب، الذي يمثل أكثر من ثلث السكان، لم يستفد من التقدم الذي يعرفه المغرب. وأضاف أن "تأهيل الشباب المغربي وانخراطه الإيجابي والفعال في الحياة الوطنية يعد من أهم التحديات التي يتعين رفعها"، مشيرا بهذا الصدد إلى أنه أكد أكثر من مرة في خطاباته السابقة، ولاسيما في خطاب 20 اغسطس 2012بأن الشباب هو الثروة الحقيقية للبلاد ويجب اعتباره كمحرك للتنمية وليس كعائق أمام تحقيقها.
وأشار العاهل المغربي إلى أن "التغيرات المجتمعية التي يشهدها المغرب قد أفرزت انبثاق الشباب كفاعل جديد له وزنه وتأثيره الكبير في الحياة الوطنية"، مضيفا أنه "رغم الجهود المبذولة فإن وضعية شبابنا لا ترضينا ولا ترضيهم، فالعديد منهم يعانون من الإقصاء والبطالة ومن عدم استكمال دراستهم وأحيانا حتى من الولوج للخدمات الاجتماعية الأساسية. كما أن منظومة التربية والتكوين لا تؤدي دورها في التأهيل والإدماج الإجتماعي والإقتصادي للشباب. أما السياسات العمومية القطاعية والاجتماعية فرغم أنها تخصص مجالا هاما للشباب إلا أن تأثيرها على أوضاعهم يبقى محدودا لضعف النجاعة والتناسق في ما بينها وعدم ملاءمة البرامج لجميع الشرائح الشبابية".
وأوضح العاهل المغربي أنه “اعتبارا للارتباط الوثيق بين قضايا الشباب وإشكالية النمو والاستثمار والتشغيل فإن معالجة أوضاعهم تحتاج إلى ابتكار مبادرات ومشاريع ملموسة تحرر طاقاتهم وتوفر لهم الشغل والدخل القار وتضمن لهم الاستقرار وتمكنهم من المساهمة البناءة في تنمية الوطن. وأخص بالذكر هنا، على سبيل المثال، وضعية الشباب الذين يعملون في القطاع غير المهيكل، والتي تقتضي إيجاد حلول واقعية قد لا تتطلب وسائل مادية كبيرة، ولكنها ستوفر لهم وسائل وفضاءات للعمل في إطار القانون بما يعود بالنفع عليهم وعلى المجتمع".
ودعا العاهل المغربي إلى "بلورة سياسة جديدة مندمجة للشباب تقوم بالأساس على التكوين والتشغيل، قادرة على إيجاد حلول واقعية لمشاكلهم الحقيقية، وخاصة في المناطق القروية والأحياء الهامشية والفقيرة"، على غرار المبادرة الوطنية للتنمية البشرية التي كان قد أطلقها غداة توليه حكم البلاد. وأضاف قائلا “لضمان شروط النجاعة والنجاح لهذه السياسة الجديدة، ندعو لاستلهام مقتضيات الدستور، وإعطاء الكلمة للشباب، والانفتاح على مختلف التيارات الفكرية، والإفادة من التقارير والدراسات التي أمرنا بإعدادها"، مشيرا ،على الخصوص ، إلى الدراسة حول "الثروة الإجمالية للمغرب" و"رؤية 2030للتربية والتكوين".
وفي أفق بلورة واعتماد هذه السياسة، دعا العاهل المغربي إلى "الإسراع بإقامة المجلس الاستشاري للشباب والعمل الجمعوي كمؤسسة دستورية للنقاش وإبداء الرأي وتتبع وضعية الشباب".
وختم العاهل المغربي خطابه أمام البرلمان قائلا “إن الاختلالات التي يعاني منها تدبير الشأن العام ليست قدرا محتوما. كما أن تجاوزها ليس أمرا مستحيلا، إذا ما توفرت الإرادة الصادقة وحسن استثمار الوسائل المتاحة. وهذا الأمر من اختصاصكم، برلمانا وحكومة ومنتخبين. فأنتم مسؤولون أمام الله، وأمام الشعب وأمام الملك عن الوضع الذي تعرفه البلاد. وأنتم مطالبون بالانخراط في الجهود الوطنية، بكل صدق ومسؤولية، لتغيير هذا الوضع، بعيدا عن أي اعتبارات سياسوية أو حزبية. فالوطن للجميع، ومن حق كل المغاربة أن يستفيدوا من التقدم، ومن ثمار النمو".
التعليقات