اندلعت حروب الأفيون بين البريطانيين والصينيين واستقرت عن تسليم جزيرة خربة اسمها هونغ كونغ إلى بريطانيا، وتنازلات صينية كبيرة في ميدان التجارة.
في 5 أغسطس 1872، خرج آلاف اللندنيين مرتدين أفضل ملابسهم وركبوا القطارات متوجهين إلى أطراف العاصمة. وعلى الرغم من أن الجو كان باردًا وممطرًا، فإنهم كانوا مصممين على قضاء وقت ممتع، إذ كان ذلك اليوم ثاني عطلة تُعلن يوم الإثنين بإجور كاملة في تاريخ بريطانيا، أو ما يُسمى اليوم "عطلة البنوك".
حقد الأفيون
كانت وجهتهم حدائق كريستال بالاس، أول معرض يتباهى بقوة بريطانيا الصناعية وأول مدينة ملاهي في العالم تتوفر على الكثير من وسائل الترفيه والاثارة، بما في ذلك أول تماثيل للديناصورات. وتبلغ المتعة ذروتها في المساء بإعادة تمثيل معركة مع الصين.
كان البريطانيون مطلعين على نزاعات بلدهم مع "الإمبراطورية السماوية"، وشهدت المعارك بين القوتين اللتين كانت إحداهما تطمح إلى تسيد العالم والأخرى في تراجع متسارع، انتصار القوة العسكرية التي أُقيم معرض كريستال بالاس للاحتفاء بها. كانت بريطانيا استخدمت أول سفينة حربية مصنوعة من الحديد في العالم بفاعلية فتاكة. وكان هناك حروب قذرة ايضًا سماها البريطانيون "حروب الأفيون"، الأولى منها اشتعلت عندما صادرت الصين 1000 طن من المادة المخدرة من مهربين بريطانيين، ورفضت تعويضهم عن مصادرتها. واثار هذا العمل المبرر حقد بريطانيا على الصين لرفضها فتح ابوابها على مصاريعها للبضائع الاجنبية وامتناعها عن ابداء الاحترام المناسب لعظمة بريطانيا.
أسفرت الحرب الأولى (1839 – 1842) عن تسليم جزيرة خربة اسمها هونغ كونغ إلى بريطانيا وفتح خمسة موانئ صينية للتجارة الخارجية. واستمرت الحرب الثانية التي انضمت فيها القوات البريطانيا إلى الفرنسية من 1856 إلى 1860، واسفرت عن تنازلات صينية كبيرة في مجال التجارة بما في ذلك الترخيص بتجارة الأفيون والسماح للقوى الأجنبية بالتوغل في عمق الصين.
شبهًا بالصيني
أعلن النائب الشاب وليام غلادستون في عام 1842، قبل أن يصبح رئيس وزراء، انه لم يعرف نزاعًا خرجت منه بريطانيا مجللة بالعار مثل حرب الأفيون الأولى. ولم يكن لدى البريطانيين فكرة أن حروب الأفيون ستضع الصين على طريق أدى في النهاية إلى حركة استوحت كتابات مهاجرَين ملتحيين كانا يعيشان في شمال غرب لندن هما كارل ماركس وفريدريك انغلز. وفي عطلة يوم الاثنين تلك كان الاثنان يستعدان لمواجهة الفوضيين في المؤتمر التالي لجمعية الشغيلة العالمية في لاهاي.
كانت مشاعر الازدراء والشك تجاه الصين عميقة في بريطانيا حينذاك. وفي صيف ذلك العام، افتُتحت في لندن مسرحية جديدة تستند إلى رواية كتبها تشارلز ديكنز لكنه لم يكملها. وتبدأ القصة بمشهد وكر لتعاطي الأفيون في لندن. وكان تدخين هذا المخدر لا يُعد عادة سيئة يشجعها البريطانيون بقدر ما هو رذيلة صينية تهدد بريطانيا. وعلى حد تعبير ديكنز، فإن تعاطي الأفيون يمكن أن يجعل مدخّنه يكتسب "شبهًا غريبًا بالصيني"، بما في ذلك لون بَشرته.
احترق معرض كريستال بالاس في عام 1936 وكانت نيرانه مرئية في انحاء لندن. ولكن تذكارًا من حروب الأفيون بقي حول احدى بحيرات المعرض. وهو نبات ادخله الاسكتلندي روبرت فورتشون بعد العثور عليه في الصين التي اجبرتها حروب الأفيون على فتح ابوابها لتجارته. وقبل دخول الأفيون إلى بريطانيا كانت هذه المادة حكرًا على الصين وحدها تقريبًا. واصبح الأفيون المخدر المفضل في بريطانيا وتجارته تجارة مربحة رائجة.
عارنا الوطني
في الصين، ما زالت ذكريات حروب الأفيون حية. وقال مرشد سياحي أمام مجموعة من الزوار الصينيين للمتنزه الذي يضاهي حدائق معرض كريستال بالاس في أطراف لندن: "لا تنسوا ابدًا عارنا الوطني". وكانت متناثرة حول الزوار الأعمدة والأحجار المتبقية من قصر صممه في القرن الثامن عشر المبشر اليسوعي الإيطالي غوزيبي كاستليوني. وكان المبنى جزءًا من مجمع ضخم من المعابد والباحات التي ازدحم بها المتنزه يوم كان القصر الصيفي للعائلة الامبراطوية. في نهاية حرب الأفيون الثانية، محاه الجنود البريطانيون والفرنسيون في حفلة من التدمير نهبوا خلالها كل ما هو مصنوع من ذهب وفضة، وهشموا مصنوعات جميلة من الخزف واليشم، وصاروا يعبثون ويلهون بارتداء ملابس حرير من خزانات القصر الامبراطوري المنهوب. ثم أمر القائد العسكري البريطاني بتدمير ما تبقى كله.
يباب كئيب
يمثل حرق القصر الصيفي واحدًا من أكبر اعمال التخريب الثقافي خلال القرنين الماضيين. وكتب ضابط بريطاني: "حين دخلنا الحدائق أول مرة كانت تذكّر المرء بتلك الجنينات التي تُوصف في الحكايات الخيالية وغادرنا في 19 اكتوبر تاركين اياها يبابًا كئيبًا من اللاأشياء المخربة".
في عام 1997، اصبحت حديقة يوانمينغيوان من اول الأماكن في الصين التي سماها الحزب الشيوعي "قاعدة قومية للتربية الوطنية". وكان المسؤولون يأملون بأن تثقيف المواطنين بماضي بلدهم البائس على ايدي المعتدين الامبرياليين سيزيد شعبية الحزب وشعورهم بالامتنان لأن الصين عادة عظيمة بفضله.
وتستمر قائمة مثل هذه المواقع في الازدياد. وأُضيف 41 موقعًا جديدًا في عام 2017 ليصبح المجموع 428 موقعًا، زيارتها الزامية لأطفال المدارس وطلاب الجامعات والمسؤولين. وفي حديقة يوانمينغيوان يؤدي اعضاء الحزب الجدد القسم امام آثار تلك الحروب. ويحتفل تلاميذ مدرسة قريبة ببلوغ سن الثامنة عشرة وسط الآثار حيث يقفون بأفضل ملابسهم ويطلقون حمامات السلام ويغنون الاناشيد الوطنية.
أمجاد التاريخ
مع تنامي قوة الصين يزداد اهتمامها بتاريخها. وهي تريد استعادة ما سرقه البريطانيون والفرنسيون من غنائم كثيرة. ففي عام 1865، عُرضت قطع كثيرة جمعها ضابط فرنسي لبضعة اسابيع في قاعات كريستال بالاس. ويوجد الكثير من الآثار والمصنوعات ضمن مجموعات غربية. وفي عام 2013، اعادت عائلة مقتني أعمال فنية فرنسي إلى الصين تمثالين مشهورين نُهبا من القصر الامبراطوري في عام 1860. واشترى صينيون أعمالًا فنية أخرى وأعادوها إلى وطنهم.
تتيح ثروة الصين المتعاظمة التعاطي بطريقة جديدة مع نهب ماضيها؛ إذ تستطيع هي نفسها الآن أن تقتني كنوزًا رمزية من بلدان أخرى مثل شركة "لندن تكسي" التي تصنع سيارات الاجرة السوداء الشهيرة في العاصمة البريطانية، ومخازن هاوس اوف فريزر، وشركة كلوب ميد للسياحة.
في عام 2013 كان هناك الكثير من الترقب في لندن بعد ما تردد عن نية ني جاوشينغ، الذي يعتبر من اثرى اثرياء الصين، انفاق 500 مليون جنيه استرليني على إعادة بناء معرض كريستال بالاس. عدل ني عن نيته لكن شركته أبقت مقالة على موقعها تتحدث عن أمل ني في "إعادة بناء أمجاد التاريخ" في جنوب لندن.
نقطة انعطاف
لا حدائق كبيرة في مدينة هومين جنوب الصين التي اغتنت خلال العقدين الماضيين من صناعة النسيج واصبحت تضم واحدة من أول قواعد التربية الوطنية في الصين. هو "متحف حرب الأفيون" الذي فُتح في خمسينات القرن العشرين. يقع المتحف في المكان الذي قام فيه لين زيشو ممثل الامبراطور في عام 1839 بتدمير الأفيون البريطاني المصادَر، في عمل كان بداية فصل العار. وافتُتح معرض آخر موضوعه حروب الأفيون هو معرض المعركة البحرية على مقربة في عام 1999.
ما زال إقليم غوانغدونغ مركز المخدرات في الصين كما كان يوم وصول البوارج البريطانية. وحين اصبح شي جينبنغ زعيم البلاد في عام 2012 كان الاقليم أكبر مركز للمخدرات الممنوعة يعيش فيه سُدس المدمنين المسجلين على المخدرات في الصين. في عام 2014، وقعت في الاقليم نحو 60 في المئة من جرائم إنتاج المخدرات التي سجلتها الشرطة الصينية. بعد حملة استمرت ثلاث سنوات لمكافحة المخدرات أعلنت السلطات في الاقليم أن الحملة بلغت "نقطة انعطاف" بانخفاض حصة الاقليم من جرائم المخدرات إلى أقل من 40 في المئة ولكنه ما زال في مركز الصدارة.
ليست مؤامرة مدبرة
تدرك سلطات الاقليم بحدة الأصداء التاريخية لمشكلة المخدرات، وتلفت الانتباه اليها بحرق ما تضبطه من مخدرات في الساحات العامة بين حين وآخر في مدينة هومين.
يكمن في اساس كل ما يجري من نقاش للقضية التلميح باستمرار إلى أن البريطانيين هم الذين استدرجوا الصين إلى الإدمان على المخدرات أصلًا.
لكن مثقفين صينيين معارضين يقولون إن تلك الحروب لم تكن صراعًا على الأفيون بقدر ما كانت حروبًا من اجل حرية التجارة فيما تذهب المؤرخة البريطانية جوليا لوفيل إلى أن تعاطي التجار البريطانيين الأفيون لم يكن مؤامرة مدبرة هدفها أن يكون الصينيون عبيدًا للمخدرات. وتكتب لوفيل "انها كانت ردًا برغماتيًا جشعًا على تراجع مبيعات المستوردات البريطانية الأخرى" إلى الصين.
يُعرض كتاب لوفيل مترجمًا إلى الصينية الآن في مكان بارز في أكبر متجر لبيع الكتب في بكين. وتلاحظ الكاتبة فيه أن سبب نفور الحكومة من هذه المادة المخدرة هو "القلق من تهديد الاستقرار الذي تشكله ثقافة أفيونية متعية".
درس آخر
في عام 1874، وصفت مجلة إيكونومست منع الصين الأفيون بأنه منع "سخيف" وهي ما زالت ترى أن منع المخدرات يزيد ارباح التجار والمهربين أكثر مما يوفر وقاية ضد الادمان. وحتى عام 1916 كانت المجلة تدرج الأفيون على قائمتها الاسبوعية بأسعار السلع. وفي ذلك العام فقط بدأت بريطانيا تشترط اخذ وصفة من الطبيب لشراء الأفيون.
بنظر الزعيم شي، حروب الأفيون دليل على أن البلدان الضعيفة سيكون مصيرها الهزيمة. وكان من اول الخطوات العلنية التي اتخذها بعد تسلمه مقاليد الحكم زيارة معرض مع اعضاء المكتب السياسي في المتحف الوطني في بكين بعنوان "طريق النهضة".
يبدأ المعرض باندلاع حرب الأفيون الأولى وينتهي بصعود الصين بقيادة الحزب الشيوعي كما يتبدى، من بين اشياء اخرى، بصواريخها النووية. وكانت الرسالة واضحة: اياكم أن تتعاملوا معنا كما تعاملتم في السابق.
لكن مجلة إيكونومست تضيف درسًا آخر من هزائم الصين هو أن النظام السياسي الاوتوقراطي الذي كان يخاف من افكار الغرب يتحمل على الأقل قسطًا من المسؤولية عن ضعف الصين وقتذاك.
أعدت "إيلاف" هذا التقرير بتصرف عن "إيكونومست". الأصل منشور على الرابط:
https://goo.gl/Rs9JfJ
التعليقات