على مدى ست سنوات، تعمل لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا على جمع معلومات عن جرائم ضد الإنسانية، وجرائم حرب محتملة خلال النزاع.
وأعد المحققون 13 تقريرا، يضم كل منها أدلة مروعة عن تدمير قرى، وحرق محاصيل، وتسميم آبار، وتعذيب، واغتصاب، وحصار بهدف التجويع، وقصف جماعي للمدنيين، علاوة على ما لم يمكن تصوره قبل عقد من الزمان، وهو استخدام الأسلحة الكيميائية.
وقالت اللجنة إنه لا يوجد شك في أن جرائم الحرب قد ارتُكبت من قِبل جميع أطراف الصراع. وطالب كل تقرير بتقديم المسؤولين عن هذه الجرائم لـ "المساءلة"، إذ أنه لا ينبغي السماح لأي شخص بارتكاب مثل هذه الأعمال المروعة والإفلات من العقاب.
وتقول كارلا ديل بونتي، عضو اللجنة، إن "هذا سيكون فضحية لا يمكن تصديقها"، ووصفت الانتهاكات في سوريا بأنها أسوأ ما شاهدته على الإطلاق. وأضافت: "لكن لا شيء يحدث، ولا نسمع سوى الكلام فقط".
وتعرف ديل بونتي جيدا كيف تُقدم مجرمي الحرب للمحاكمة، بصفتها مدعية عامة سابقة في المحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا، التي أسستها منظمة الأمم المتحدة لمحاكمة مرتكبي جرائم حرب في يوغوسلافيا السابقة، وهي السيدة التي قدمت الرئيس الصربي السابق سلوبودان ميلوسيفيتش إلى المحاكمة.
ورغم أن لجنة الأمم المتحدة لتقصي الحقائق في سوريا ليس لديها السلطة التي تمكنها من مقاضاة مجرمي الحرب، فإنها تملك عددا هائلا من الأدلة، وقائمة سرية من الأسماء، التي يُعتقد أنها تشمل شخصيات بارزة في أعلى المناصب في الحكومة والجيش في سوريا.
ولتقديم هؤلاء الأفراد (بما في ذلك الرئيس الأسد، حسب ديل بونتي) إلى المحاكمة، يتعين على مجلس الأمن الدولي إحالة سوريا إلى المحكمة الجنائية الدولية. وطوال فترة النزاع السوري، انقسم مجلس الأمن بشأن هذه الأزمة، إذ تقاوم روسيا والصين بشكل خاص ما تعتقدان أنه تدخل غير ضروري في مشاكل سوريا.
ومع ذلك، يبدو أن الأمم المتحدة، في عهد الأمين العام الجديد أنطونيو غوتيريس، تعمل على إظهار قوتها، إذ أنشأت هيئة جديدة تسمى الآلية الدولية المحايدة والمستقلة لمحاسبة مجرمي الحرب في سوريا، للعمل على فحص الأدلة وإعداد القضايا وإحالتها إلى أي محكمة يمكن أن يكون لها اختصاص قضائي. وبدأت بعض الدول الأوروبية بالفعل فتح بعض الحالات.
ويترأس هذه الآلية الجديدة قاضية فرنسية لديها خبرات كبيرة، وهي كاترين مارشي أويل، التي عملت في محكمة يوغوسلافيا السابقة، والمحاكم الاستثنائية في كمبوديا، التي حاكمت الخمير الحمر.
ويقول آلان فيرنر، مدير مؤسسة "سيفيتاس ماكسيما" السويسرية التي تعمل على ضمان تحقيق العدالة لضحايا جرائم الحرب والجرائم المرتكبة ضد الإنسانية: "هذا يعطيني أملا في أن شيئا ما يتحرك".
وأضاف: "لم أكن أعتقد أن هذه الهيئة ستنشأ أصلا وهذا دليل على أن الأمم المتحدة جادة".
وقد أعدت منظمة "سيفيتاس ماكسيما" بالفعل قضايا ضد أشخاص يُعتقد أنهم ارتكبوا جرائم حرب في سيراليون وليبريا. وقال فيرنر إن عمله مع الضحايا أظهر له أن هناك "رغبة قوية للغاية في تحقيق العدالة".
وترى إحدى زميلاته، وتُدعى أنتونيا تيولونغ، مدى أهمية القضايا بشكل شخصي، إذ تعرضت شقيقتها وشقيق زوجها للتعذيب والقتل في مركز اعتقال "إس-21" في بنوم بنه أثناء حكم الخمير الحمر في كمبوديا.
وفي تسعينيات القرن الماضي، وبعد ما يقرب من عقدين على وفاة شقيقتها، تمكنت أنتونيا من معرفة ما حدث لشقيقتها، وحاولت رفع قضية أمام المحاكم الفرنسية ضد ضباط الخمير الحمر الذين كانوا يديرون مركز اعتقال "إس-21"، لكن القضية رُفضت.
تقول أنتونيا: "شعرت بالعجز. ولم يكن هناك أي إشارة على إقامة محكمة دولية. وتساءلت: هل وقوع مليوني ضحية في الإبادة الجماعية التي ارتكبها الخمير الحمر لا يستحق في نظر العالم تقديم هؤلاء المجرمين للمحاكمة؟"
كان على أنتونيا أن تنتظر حتى عام 2008، عندما أُنشأت محكمة دولية أخيرا. وأُدين الرجال الذين قتلوا شقيقتها.
وعبرت أنتونيا عن شعورها بالارتياح، ليس فقط بسبب الحكم، لكن لأن المحاكمة كانت علنية.
وقالت: "جاء آلاف الأشخاص من جميع أنحاء العالم لحضور جلسات الاستماع شخصيا، وأظهروا رغبة كبيرة في فهم ما حدث".
لكن العديد من الضحايا لا يزالون ينتظرون. في العاصمة السويسرية، برن، تلقى مركز الصليب الأحمر لضحايا التعذيب والحرب أكثر من أربعة آلاف استشارة في عام 2016 وحده.
وتقول كارولا سمولنسكي، أخصائية نفسية: "الشيء الأكثر أهمية هو أن لديهم الوقت للتحدث. لدينا مرضى من يوغوسلافيا السابقة ما زالوا يعانون بشكل مزمن من التجارب التي مروا بها".
وبالنسبة لكثيرين من هؤلاء المرضى، ربما لم يكن هناك محاكمة عامة تدين الجناة، لكن جرى الاعتراف بمعاناة الضحايا بشكل رسمي في المحاكم.
وبدلا من ذلك، أدرج مركز الصليب الأحمر شكلا من أشكال عملية "التحقق من صحة ما حدث" كجزء من العلاج.
تقول كارولا سمولنسكي: "سوف نُعد [جنبا إلى جنب مع المريض] تقريرا زمنيا مفصلا. إننا نستعرض التجربة معا، ونوقع عليها كشهود".
وأضافت: "من المهم أن يتحدثوا عما حدث لهم، ونحن نتعامل مع ذلك على محمل الجد".
وبالنسبة لملايين السوريين الذين ينتظرون في مخيمات اللاجئين، أو المحاصرين في المدن المحاصرة، لا يمكن تحقيق السلام قريبا. لكن ملايين السوريين ينتظرون أيضا معرفة مصير أحبائهم الذين اختفوا في السجون السورية، أو اختفوا في خضم المعركة.
وفي جنيف، بدأت جهود الأمم المتحدة للتوصل إلى عملية السلام تحرز تقدما. وفي المحادثات التي تشهدها العاصمة الكازاخستانية أستانا بشأن سوريا، يعمل الروس والأتراك والإيرانيون على التفاوض حول "مناطق لإنهاء التصعيد" للحد من العنف.
لكن ما يحدث في جنيف أو أستانا لم يتطرق كثيرا لمساءلة مرتكبي هذا العدد الهائل من جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية. ومن غير الواضح ما إذا كانت الآلية الدولية المحايدة والمستقلة التي أُنشأت حديثا سيكون لها دور في عملية السلام.
هل يمكن أن يكون السبب في ذلك هو عدم حماس القادة - من جميع أطراف الصراع السوري - للتوصل إلى اتفاق سلام، إذ يعتقدون أنهم سيُحالون بعده للمحاكمة بتهمة ارتكاب جرائم حرب؟
قال دبلوماسي غربي طلب عدم الكشف عن هويته: "قد تكون وضعت يدك الآن على النقطة الأهم في هذا الموضوع."
إن الفكرة القائلة بأن تحقيق السلام، أو على الأقل غياب الحرب، ينبغي أن تكون لها الأولوية قبل تحقيق العدالة تشهد كثيرا من التقدم خلال المفاوضات الدبلوماسية الصعبة.
ويشير البعض أيضا إلى أن محاكم جرائم الحرب يمكن أن تزرع بذور الخلاف في المستقبل، لا سيما إذا كان الضحايا من مجموعة عرقية، ومرتكبي الجرائم من مجموعة عرقية أخرى.
ولا يريد ديزموند توتو، رئيس أساقفة جنوب أفريقيا الشهير، أن تُقام محاكمة لمرتكبي جرائم الحرب في جنوب أفريقيا، ويدفع بدلا من ذلك في اتجاه إطلاق عملية للبحث عن الحقيقة وتحقيق المصالحة، بحيث يعترف المتهمون بجرائمهم على أن يسامحهم ضحاياهم.
ويرى المفوض السامي لحقوق الانسان، زيد رعد الحسين، أن التوصل لسلام دائم يُعد عملية معقدة. لكنه يصر على ضرورة أن يخضع من تسببوا في معاناة السوريين لمحاكمة رسمية.
وقال: "في سوريا، لن يكون هناك سلام أبدا إذا لم تضعوا الضحايا في قلب جهودكم".
وأضاف: "يمكنكم التوصل إلى اتفاق يُصاغ بدقة شديدة، لكن إذا لم يشعر الضحايا بالعدالة، فلن يكون له أية قيمة، ولن يكون من وراءه أي طائل. يجب أن تكون هناك مساءلة، ويجب أن يقدم مرتكبوا الجرائم إلى العدالة."
ومع ذلك، يرى الحسين أن المقاضاة ليست سوى جزء واحد من العملية.
ويقول: "وبشكل أساسى، لن يكون لدينا سلام دائم ما لم نتعامل مع القضايا العالقة".
وهذا يعني، حسب قوله، أن يعترف جميع أطراف الصراع بسلوكهم وأن يظهروا "ندمهم" على ما فعلوا.
وهنا يأتي دور المجتمع، حسب الحسين.
وقال الحسين إنه خلال المحاكمات الألمانية بعد الحرب العالمية الثانية، كان هناك سبعة آلاف حكم إدانة، لكن قلة من المدانين هم من أبدوا الندم على الجرائم التي ارتكبوها.
وجاءت الدعوة إلى الندم في وقت لاحق من خلال مؤرخين ومعلمين وسياسيين ألمان خلال فترة ما بعد الحرب.
ويرى آلان فيرنر أنه في ظل حجم الفظائع المرتكبة في سوريا "من الصعب جدا التفكير في أنه لن تكون هناك عدالة".
لكنه يشير إلى أن عدد الجرائم "مذهل". لذا، من غير المرجح أن تكون العدالة سريعة. وأضاف أن "سوريا قد تستغرق أربعين عاما، وربما مئة عام، للتحقيق" في هذه الجرائم.
التعليقات