الرباط: يبدو أن موقف المغاربة من كثرة وتعدد المنظمات والهيئات المدافعة عن حقوق الإنسان في بلادهم، يشبه موقفهم حيال كثرة الأحزاب السياسية. اذ يرونها غير مبررة من الناحية العملية حتى وإن لم تكن متنافية مع مبدأ التعددية السياسية والفكرية التي ينص عليها دستور المملكة والقوانين المنظمة للحريات العامة.

ويعتقد اكثر من 58 في المائة من المغاربة الذين أجابوا على سؤال "إيلاف المغرب" بما إذا كانت تلك الكثرة ليس لها مبرر قوي وتعكس صورة سلبية عن البلاد،فتبدو وكأنها تخرق القوانين بشكل مستمر ومنهجي، ما يستوجب الإكثار من المدافعين عن الحقوق وانتشارهم عبر أنحاء التراب الوطني، يراقبون ويرصدون من يتطاول على منع الناس من ممارسة حرياتهم المشروعة أوعرقلتها.

ولا تعني هذه العينة مناهضة أصحابها لثقافة حقوق الإنسان، بقدر ما تعبر عن اعتقادهم أن التعدد المفرط قد يزيغ بمفهوم وممارسة حقوق الإنسان عن مسارها السليم ومخالفة معانيها الكونية المتعارف عليها في الأدبيات الحقوقية.

وعلى الرغم من أن كافة المنظمات المشتغلة بالشأن الحقوقي في المغرب، تؤكد في مختلف المناسبات والظروف وفي مواثيقها على تشبثها وتعلقها بمبادئ وأخلاقيات حقوق الإنسان، وأنها تعمل في استقلال تام عن الضغوطات والإغراءات ؛ فالواقع أن طائفة من تلك الجمعيات الحقوقية، هي في حقيقتها أذرع وواجهات، لأحزاب سياسية، توظف المسالة الحقوقية في معاركها السياسية، تستوي في ذلك أحزاب اليمين واليسار والوسط. وكثيرا ما يتشابه خطاب المنظمات الحقوقية ومقارباتها،حين تناولها قضايا محددة، مع الأحزاب،تتماهى معها لدرجة يصعب أحيانا فرز الخطاب الحزبي عن الحقوقي.

وعلى سبيل المثال،فإن اليسار الجذري، المعترف به قانونيا وتنظيميا تحت يافطة " حزب النهج الديمقراطي "يمارس تأثيرا واضحا على " الجمعية المغربية لحقوق الإنسان" وعلى المواقف التي تتبناها،وهي ذات توجه يساري متشدد لا غبار عليه،ولا يرحم السلطة إن ارتكبت خطأ كيفما كانت طبيعته وحجمه ؛أو إن هي قصرت،أي السلطات، في احترام ما تراه ذات المنظمة، خرقا سافرا للحريات وتعديا عليها.

وعلى العكس من الجمعية المشهورة بمواقفها المناوئة للنظام، تتبنى "المنظمة المغربية لحقوق الإنسان " منحى معتدلا وبراغماتيا ؛ فلا تجرم الدولة بكيفية آلية ولا تبرئ ساحتها دائما وتنثر عليها الورود؛ ما يميز مواقفها أنها لا تصدر أحكاما نهائية بخصوص ملف حقوقي إلا بعد قيامها بالتحريات اللازمة والاستماع إلى كل الأطراف المتصلة بالنزاع، دون إهمال رأي السلطة ودوافعها ومقاربتها للقضايا المتنازع بشأنها.

&وهكذا لا يستفز موقف المنظمة المغربية، السلطات الحكومية مثل نظيرتها "الجمعية المغربية" بل تتعاطى معه بكيفية هادئة وإيجابية، بدليل أن رئيستها السابقة السيدة أمينة بوعياش، عينت سفيرة في السويد، قبل أن تتولى أخيرا رئاسة المجلس الوطني لحقوق الإنسان في المغرب، وهو هيئة دستورية.

كان التعيين، التفاتة مزدوجة:نحو المرأة أولا ورضى من الدولة بالأسلوب الواقعي الذي تنهجه المنظمة المغربية لحقوق الإنسان، الحاضنة لتشكيل من الشخصيات المدافعة والمقتنعة بتطوير ثقافة حقوق الإنسان في المغرب، والقطع مع خرقها المفضوح.

وتقدم "المنظمة المغربية " نفسها كتجمع للمدافعين عن حقوق الإنسان دون اشتراط انتسابهم أو ابتعادهم عن الأحزاب السياسية، لكن قيادتها تحرص على إقامة مسافة بين الأحزاب وبين المنتسبين إليها، القادمين من تنظيمات ذات توجهات ليبرالية ويسارية إلى جانب المستقلين.

في غضون ذلك، لا يعارض 41 في المائة من العينة التي أجابت عن سؤال "إيلاف المغرب"، كثرة وغزارة في المنظمات العاملة في مجال حقوق الإنسان بل يعتبرونها دليلا على فورة حقوقية في البلاد، ازدهرت في ظل العهد الجديد وخاصة بعد إقرار دستور 2011. المتقدم جدا في هذا المجال، مقارنة مع الدساتير السابقة.

صحيح أن التعدد والتنوع، يغني ويقوي ويطور ويرسخ، من وجهة نظرهم، ثقافة حقوق الإنسان في المغرب.وهو رأي سليم من الناحية المبدئية،غير أن الواقع المغربي يدحضه :كثرة المنظمات والهيئات والروابط الحقوقية، توقعها في منافسات غير صحية والانخراط في مزايدات بالجملة والتفصيل ضد الدولة المغربية حد المبالغة في انتقادها عن حق أو باطل.

وكما هو معلوم، لا يقتصر المشهد الحقوقي في المغرب على الجمعيات الواضحة الأهداف والتوجهات، بل يشمل عددا كبيرا من الروابط والجمعيات الفئوية الصغيرة والكبيرة،المحلية والوطنية مثل تلك التي تدافع عن المرأة والطفل وذوي الحاجات والعمال والعاطلين والجانحين والمهمشين والسجناء، دون استبعاد المدانين على خلفية أنشطة إرهابية ؛ هذا فضلا عن المدافعين عن الاختلاف الثقافي والتعدد اللغوي وحرية المعتقد وكذا الخصوصيات المحلية. كل ذلك يشكل نسيجا حقوقيا متشابكا، يمكن وصفه بأنه نافع لصورة البلاد لكنها لا تنتفع منه ولا تحس أنه يقف إلى جانبها بالكامل في بعض المعارك الوطنية التي تخوضها مع الخصوم.

كثيرا ما تنهال الضربات والانتقادات على الدولة،من مجمل المنظمات المذكورة، فتشعر السلطات بالحرج على اعتبار أن الإفراط في النقد والمبالغة في تشخيص وضع حقوق الإنسان في المغرب وتقديمه بصورة سيئة، يضعف صورة البلاد وموقفها التفاوضي في الخارج، وخاصة أثناء مواجهاتها مع المنظمات الدولية المهتمة بحقوق الإنسان. هذه الأخيرة تستند إلى معايير متشددة، يندلع بسببها خلاف مع السلطات ليس في المغرب وحده بل مع سائر الأنظمة الساعية إلى الديمقراطية واحترام الحريات التي يفترض أن تحظى بالدعم والنصيحة والتوجيه بدل إضعاف الأنظمة وتلطيخ سمعتها لدى الرأي العام الوطني والدولي؛ ما يتسبب في ردود أفعال تؤثر سلبا على منسوب الحريات العامة والفردية.

تجدر الاشارة الى المنظمات الدولية لحقوق الإنسان، لا تراعي الخصوصيات الثقافية والدينية لبعض المجتمعات، إيمانا منها أن الحقوق لا تتجزأ ولا تعترف بالاستثناءات.

يذكر في هذا الصدد أن السلطات المغربية ممثلة في وزارة الداخلية، اضطرت قبل سنوات، إلى كشف المستور ودخلت في مواجهات علانية مع منظمات حقوقية متعودة على اللجوء إلى أساليب التصعيد.طالبتها الحكومة المغربية بالشفافية المالية في حساباتها وعدم التستر على الجهات الخارجية التي تمدها بالمساعدات المالية ؛ علما أن الدولة المغربية تمنح من جهتها لتلك المنظمات مساعدات مالية، بمن فيها الجمعية المغربية لحقوق الإنسان،الأشد انتقادا لها في سجل حقوق الإنسان، والأهم من المنحة المالية هو تخويل الجمعية صفة المنفعة العامة.

أية قراءة إجمالية لنتيجة الاستفتاء، الذي غاب عنه المحايدون. الإجابات متقاسمة بين أصحاب نعم (58 في المائة) والباقي لغير الموافقين؟

تدل المؤشرات على أن ثقافة حقوق الإنسان في المغرب، تبحث عن مبادئ وقيم عامة تستقر عليها، توفق بين الكوني والمحلي، لا تمنع كثرة الهيئات دون تشجيع على الإفراط فيها.

وهذا الأمر لن يتأتى ما لم تتعاون الأحزاب السياسية مع الدولة لتبتعد الأحزاب عن احتضان الجمعيات الحقوقية السائرة وفق خطها، لاعتبارات ومنافع سياسوية آنية.

والسؤال هل توجد حقوق خالصة من التأثيرات الإيديولوجية والثقافية ووسائل الضغط والتشجيع ؟ قطعا لا. والمغرب ليس استثناءا، وما ينطبق على حقوق الإنسان، ينسحب بقدر كبير على الحقل الحزبي في البلاد، فهو زاخر بالتنظيمات من دون جدوى: لا برامج جدية متنافسة، ولا قدرة على تأطير المواطنين لممارسة حقهم في التصويت فيصل رأيهم إلى المؤسسات التشريعية والتنفيذية ذات الصلة بملف حقوق الإنسان.

تلك معادلة صعبة، يتطلب التنسيق بين أضلاعها أو أطرافها وقتا ونضجا واستقرارا في الحياة السياسية. وفي انتظار ان يتحقق ذلك سيستمر الجدل والتوتر بين السلطات وبين من يوصفون ب "حماة حقوق الإنسان".