بيروت: البطريرك الماروني نصرالله بطرس صفير الذي توفي فجر الأحد عن عمر 99 عاماً، شخصية دينية لعبت دوراً محورياً في تاريخ لبنان الحديث، وكانت رأس حربة في مواجهة الوجود السوري الذي تحكم بالحياة السياسية اللبنانية على مدى سنوات طويلة.

قصير القامة، فصيح اللسان، عفوي، وصاحب تعليقات ظريفة ومقتضبة، شكّل البطريرك صفير، مدرّس اللغة العربية والفلسفة في شبابه، علامة فارقة في تاريخ الكنيسة المارونية ولبنان منذ انتخابه بطريركاً في 19 نيسان/أبريل 1986 وحتى استقالته العام 2011.

وجعلته سنوات حياته التي قاربت المئة على تماس مع حقبات مفصلية عدة، إذ سيم كاهناً في العام 1950 وكان في الثلاثين من عمره، بعد سنوات من استقلال لبنان.

ثم أمضى 25 عاماً كبطريرك في مرحلة شهدت سلسلة نزاعات وأزمات سياسية متلاحقة، بينها السنوات الأخيرة من الحرب الأهلية (1975-1990)، وصولاً إلى اغتيال رئيس الوزراء الأسبق رفيق الحريري وتداعيات ذلك على الساحة السياسية.

وكان صفير رأس الطائفة المارونية، الطائفة الأبرز مسيحياً في لبنان، والتي ينتمي إليها رئيس البلاد.

ومع ذلك، منح الغطاء المسيحي لإبرام اتفاق الطائف في السعودية العام 1989، الذي وإن قلّص صلاحيات الرئيس، لكنه وضع حداً للحرب الأهلية التي كان آخر فصولها نزاع دام بين المسيحيين دانه البطريرك بشدة وأكد مراراً أنه أضعفهم في لبنان. وكان يدرك أنّ الاتفاق ليس مثالياً، لكنه كان مصراً على إنهاء الحرب.

وأثار توجهه هذا ودعمه لانتخاب الرئيس الأسبق رينيه معوض في العام 1989 مواقف ضده، مع معارضة رئيس الحكومة العسكرية حينها ميشال عون، الرئيس الحالي للبلاد، تطبيق الطائف. وتوجه متظاهرون مسيحيون غاضبون مؤيدون لعون، مقر البطريركية شمال بيروت، وتعرضوا له بالإهانات.

وشكّلت بكركي في عهد صفير منذ آوائل التسعينات وجهة مسؤولي وكوادر التيارات المسيحية المعارضة حينها للهيمنة السورية، بينما كانت قياداتها مشتتة، مع سجن أحد قادتها، سمير جعجع، ووجود عون والرئيس الأسبق أمين الجميل في المنفى في باريس، وتعرض مناصريها وطلابها للقمع والاعتقال في ظل النفوذ السوري.

واعترض صفير على قوانين الانتخاب التي اعتُمدت بإيعاز سوري بعد الطائف، معتبراً انها تلحق الغبن بالمسيحيين، فقاطعوا الانتخابات العام 1992.

"معركته الأكبر"

في العام 2000، وفي خضم النفوذ السوري، أطلق مجلس المطارنة الموارنة برئاسته ما صار يعرف بـ"نداء الألفين"، الذي طالب بانسحاب الجيش السوري من لبنان بعد حوالى ثلاثين سنة من تواجده.

ورعى حتى استقالته معارضة هذا الوجود والتي تُوّجت العام 2005 بخروج الجيش السوري من لبنان اثر اغتيال الحريري.

وكان عارض بشدة في العام 2004 سعي دمشق لتمديد ولاية الرئيس الأسبق إميل لحود. وقال رفيق الحريري الذي كان انضم إلى معارضي الوجود السوري في حينه "كلام البطريرك هو بطريرك الكلام".&

لكن صفير عارض لاحقاً رغبة فريق "14 آذار" المناهض لسوريا إسقاط لحود في الشارع، مصراً على احترام مؤسسات الدولة ومقام الرئاسة.

ويقول أنطوان سعد، كاتب سيرة البطريرك صفير، لوكالة فرانس برس "معركته الأكبر كانت إنهاء الوجود السوري في لبنان، وهو أمر كنّا نظنه مستحيلاً بسبب الانقسامات اللبنانية، لكن هو عمل عليه بشكل منهجي وموضوعي ودقيق وهادئ".

ويضيف "قاوم الوجود السوري والهيمنة السورية بطريقة سلمية، وعمل على أن ينسج الوحدة الوطنية القادرة على إنهائه".

رفض صفير باستمرار زيارة سوريا حيث توجد أبرشية مارونية، قائلاً إنه سيزورها عندما تقام علاقات ندية مبنية على الاحترام المتبادل وسيادة البلدين، حتى أنه لم يرافق البابا يوحنا بولس الثاني خلال زيارته لها العام 2001.

وبعد عامين من استقالته التي تعدّ سابقة، زار خلفه الكاردينال الحالي بشارة بطرس الراعي دمشق العام 2013، ليكون أول بطريرك يذهب إلى سوريا بعد استقلال لبنان العام 1943.

"شجاع.. ومتواضع"

بعد خروج الجيش السوري، لم يتردد صفير في انتقاد حزب الله المدعوم من طهران ودمشق بشدة، لرفضه التخلي عن سلاحه، ووصفه في العام 2010 بأنه "حالة شاذة"، مؤكداً أن السلاح يجب أن يكون حصراً بين يدي الدولة.

إلا أن مواقفه هذه لم تلق اجماعاً مسيحياً، بعدما عارضها قسم من المسيحيين المؤيدين للرئيس عون، رئيس التيار الوطني الحر حينها، المتحالف مع حزب الله. ودعا المعترضون إلى "عدم تدخل البطريرك في السياسة" واتهموه بالانحياز الى مسيحيي قوى 14 آذار، خصومهم في السياسة.

ومّد صفير جسوراً مع الطوائف الأخرى، فأجرى ما يُعرف بـ"مصالحة الجبل" مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط، ليطوي صفحة اقتتال دام بين المسيحيين والدروز. كما استضاف قمة مسيحية اسلامية بعد سنوات من التباعد.

في كل محطات حياته، حافظ صفير المتحدر من بلدة ريفون في كسروان (وسط) والذي تابع دروسه اللاهوتية والفلسفية في جامعة القديس يوسف في بيروت، على بساطته وتواضعه وتقشفه في ملبسه ومأكله ونمط حياته.&

وكان ضليعاً باللغتين العربية والفرنسية كما تحدّث الإنكليزية. ويعرف عنه شغفه برياضة المشي يومياً. كما أنه بقي حتى سن متقدمة جداً، يمشي مرة في السنة على ما يعرف بـ"طريق القديسين" في شمال لبنان، وهو واد صعب ذو منحدرات وطرق متعرجة.

ويقول أنطوان سعد "البطريرك صفير هو الرجل النزيه.. كان استثنائياً متواضعاً، وديعاً وطيب القلب، لا يقيّم الناس وفق ما معهم من أموال أو ما لديهم من سلطة، يحب الفقراء والمهمشين".

ويضيف "كان يمارس ما يقتنع به، شجاع ولا يخاف. ويحسب تداعيات مواقفه على الناس، ويدرس خطواته جيداً (...) كان ضد الحرب بالمطلق، إنه خسارة لا تعوض".