الناصرية: منذ عهد السومريين، قبل أكثر من خمسة آلاف سنة، تفخر ذي قار بأنها كانت على الدوام منطقة تأبى الخضوع. وحتى اليوم، وخلال أربعة أيام من التظاهرات الدامية، قدمت هذه المحافظة الريفية في قلب منطقة العشائر في جنوب العراق العدد الأكبر من "الشهداء".

منذ الثلاثاء، من بين 34 عراقياً قُتلوا في الاحتجاجات وخلال التصدي لها، كان أكثر من نصفهم من أبناء هذه المحافظة التي تبعد 300 كيلومتر جنوب بغداد.

أما مركز المحافظة، مدينة الناصرية المحاذية لأنقاض مدينة أور القديمة، فهي "مدينة الثورات والانتفاضات، ولا تزال"، مثلما يؤكد بفخر لوكالة فرانس برس المعلق السياسي أمير دوشي، الذي يعيش في المدينة التي تعد أكثر من نصف مليون شخص.

ويضيف المعلم ماجد العسمي الذي يشارك يومياً في التظاهرات "حتى وإن فقدنا شهداء، فسوف نستمر في الحراك طالما لم تلب مطالبنا".

ويضيف الرجل البالغ من العمر 45 عاماً "أنا أشارك في الاحتجاجات منذ عشر سنوات وسنواصل الاحتجاج حتى سقوط النظام، حتى يلفظ أنفاسه الأخيرة".

لطالما شكلت الناصرية معقلاً تاريخياً للاحتجاج في العراق، وقبل ذلك في بلاد ما بين النهرين، كما يردد بفخر سكانها الذين يكرمون أسلافهم وفقًا لانتماءاتهم السياسية.&

وفي ذي قار، المحافظة الفقيرة ذات البنى التحتية المتهالكة أكثر من أي مكان آخر في العراق، يبدو الاختيار محرجاً ومرتبطا بالتقلبات والمنعطفات التاريخية.

في عام 1928، أنشأ فيها الحزب الشيوعي العراقي أحد أول فروعه في العراق. وعندما سقطت الملكية في عام 1958 في انقلاب دموي وتولى حزب البعث الحكم، كان من بين مؤسسيه الرئيسيين فؤاد الركابي، أحد سكان ذي قار البارزين.

حزب الدعوة، العدو اللدود لصدام حسين، الذي اعتلى السلطة بعد سقوطه في عام 2003 ، شارك في تأسيسه أيضاً أحد أبناء ذي قار.

كل هذه الأحزاب، يقول الأكاديمي حامد الشاطري، وهو من سكان الناصرية، لوكالة فرانس برس "خلقت وعياً قوياً بين الناس تجلى في العديد من الانتفاضات".

وقبل ذلك بكثير، في عشرينات القرن الماضي، كان أهل المحافظة في طليعة الانتفاضات التي قام بها شيعة الجنوب ضد الاستعمار البريطاني لما كان لا يزال يعرف باسم منطقة ما بين الرافدين.

موت بطيء

ثم، في عام 1991، عندما نهض الجنوب مرة أخرى مع الأكراد، ألقت الناصرية بنفسها في المعركة.

ويقول الشاطري نفسه إن سكان ذي قار لطالما "انتفضوا في وجه الظلم".

واليوم، وفي حين تعم الاحتجاجات العراق للمطالبة بتوفير الخدمات العامة اللائقة وحل مشكلة انقطاع الكهرباء وتوفير المياه الصالحة للشرب بعد عقود من المعاناة، لم يهدأ نشطاء ذي قار في تنظيم الإضرابات والاعتصامات والتظاهرات.

وفي المحافظة التي يعيش أكثر من 40% من سكانها تحت خط الفقر، يدفع العوز إلى الاحتجاج، يضاف إليه تقلبات الطقس بين الجفاف والفيضانات المدمرة للمحاصيل في حين يشكل العمل في الزراعة مصدر دخل لمعظم سكان المحافظة.

هنا، يقول راضي المعروف المسؤول في الحزب الشيوعي في الناصرية "الفقر والبطالة يتصاعدان" وفي المقابل "ليس لدى الحكومة سوى الوعود ولا توجد حلول" تقترحها. ولهذا السبب، يضيف المعروف "يعرض الشباب هنا صدورهم" للرصاص الذي أطلقته الشرطة منذ يوم الثلاثاء لتفرقة التظاهرات.

ويواصل قائلاً إن حياتهم "مجرد موت بطيء، الرصاص أرحم".&

منذ الثلاثاء ، نجا الذين سقطوا من هذا "الموت البطيء" في ذي قار، وفق تعبيره ودفنوا "شهداء"، ولن يتسنى لهم أن يروا ما ستؤول إليه "الانتفاضة" الجديدة التي ذهبت بأرواحهم.