لبنان غني بقطاع إعلامي واسع النطاق شديد التأثير. لكن هذا القطاع يقف مشدوهًا أمام زخم الثورة اللبنانية، فيتماهى معها بخطوط كبيرة، بينما يلتزم الإعلاميون الثورة كل على هواه. السرّ في التسييس.

إيلاف من دبي: ثمة أسباب عامة لمعاناة الإعلام اللبناني، تحديدًا الصحف اللبنانية، وثمة أسباب خاصة. أول الأسباب الخاصة، ارتباط الصحف، وغيرها من الأدوات الإعلامية التقليدية، بدوائر السياسة اللبنانية. فقليلة هي الصحف غير المرتهنة لهذا الطرف السياسي أو ذاك. على سبيل المثال، كانت صحيفة "السفير" التي أقفلت في يناير 2017 تتلقى دعمًا ماليًا جهات إيرانية وسورية، بعدما كانت تتلقى في الماضي دعمًا من ليبيا في أيام معمر القذافي، ومن رئيس الحكومة الراحل رفيق الحريري، ومن حزب الله. فالاعتماد على مال طرف معين يفرض على هذه الوسيلة الإعلامية أن تكون بوقًا له، وبالتالي أن تخسر شريحة، تكبر أو تصغر، من قرائها ومعلنيها.

ثمة أمر آخر. فتحت الصحف أبوابها للمستثمرين، كجريدة "النهار" مثلًا التي اشترى الأمير الوليد بن طلال والحريري وغيرهما أسهمًا فيها، فساهم المال الذي ضخوه إلى تأجيل المصيبة، لا تفاديها.

عائلية - سياسية

توقفت جريدة "المستقبل" في فبراير الماضي. وفي 18 سبتمبر الماضي، لقي تلفزيون "المستقبل" المصير نفسه، نتيجة الأزمة المالية التي ألمت برئيس الحكومة اللبناني سعد الحريري.

لكن "المستقبل" أداة واحدة من أدوات عدة يملكها آل الحريري، بحسب مشروع "مرصد ملكية وسائل الإعلام" الذي أطلقته منظمة مراسلون بلا حدود ومركز سكايز للدفاع عن الحريات الإعلامية والثقافية في مؤسسة سمير قصير في بيروت، في ديسبمر 2018. تملك عائلة الحريري أسهمًا في وسائل إعلامية عدة، وحصصًا في قطاعات المطبوعات والإعلام الإلكتروني والإذاعة والتلفزيون، وتمثّل وسائل الإعلام التي تشترك عائلة الحريري في ملكيتها نحو 30 في المئة من قراء مطبوعات لبنان، و7.7 في المئة من نسب الاستماع الإذاعي، و7.8 في المئة من نسب المشاهدة التلفزيونية في حينه.

إلى ذلك، قال المرصد إن في لبنان 4 شركات تلفزيونية متقدمة تملكها عائلات: المؤسسة اللبنانية للإرسال إنترناسيونال (عائلة الضاهر)، الجديد (عائلة خياط)، أم تي في (عائلة المر)، أو تي في (عائلة عون).

يفيد المرصد أن لبنان يبيّن معدلًا عاليًا للتسييس مقارنة بـ 16 دولة شملها المشروع، إذ فيه 29 وسيلة إعلامية من أصل 37 وسيلة شملها، مملوكة للدولة أو لنواب أو وزراء أو أحزاب سياسية. لذا، يبدو قطاع الإعلام في لبنان مرهونًا بمصالح عائلية وسياسية، تتقاطع حينًا وتتناقض أحيانًا.

خطاب تخوين

أتت الثورة اللبنانية لتظهّر هذه الخريطة ميدانيًا، على الرغم من أن معظم المحطات التلفزيونية والصحف اضطرت إلى التماهي مع الحدث غير المسبوق في الساحات، وإلى إرسال المراسلين إلى الميادين المكتظة بالثوار، والطرقات المقطوعة بالإطارات المشتعلة والعوائق المختلفة. وحده تلفزيون لبنان، الرسمي، نأى بنفسه عما يحصل، واستمر في برامجه المعتادة.

تظاهرة في صيدا في إطار الحراك الشعبي في لبنان - 5 نوفمبر 2019

لا غرابة في أن تكون قناة "المنار" الناطقة بلسان حزب الله الوحيد، وقناة "أو تي في" الناطقة بلسان التيار الوطني الحر، الذي أسسه رئيس الجمهورية ميشال عون ويرأسه اليوم وزير الخارجية جبران باسيل، في صف السلطة، مروجة لها، ومعبرة عن رفض شعارات الثورة وصوغ خطاب يشيطنها، ما دامت تطالب بمحاسبة كل المسؤولين عن خراب البلد. فالأولى ثابرت على بث خطب أمين عام حزب الله حسن نصرالله الذي خون فيها المتظاهرين واتهمهم بقبض الأموال من السفارات الغربية للعمل ضده، والثانية تولت مهمة الاستخفاف بالثورة والهزء بالثوار.

كلٌ على هواه

الأقنية كلها غطت الثورة، كل واحدة على طريقتها. مراسلو قناة "أم تي في" انضموا إلى الثورة والثوار، لكن... بعد عشرين يومًا تقريبًا من قومة اللبنانيين، استمروا في سؤال كل متظاهر يقابلونه: "لماذا نزلت إلى الشارع؟"، في ما قد يبدو بحثًا مستمرًا عن تناقضات بين اللبنانيين المتظاهرين ضد فساد السلطة.

إلا أن هذا لا ينفي أن مراسلتين للقناة، على الأقل، تعرضتا للاعتداء اللفظي والجسدي، من أنصار حزب الله عندما غزوا ساحات الاعتصام في بيروت، وكسروا خيام المعتصمين وأحرقوها. وإحداهما دخلت في شجار عنيف مع أحد الفنانين الموالين للسلطة، فهاجمها لفظيًا بكلمات نابية.

امرأة لبنانية في تظاهرة أمام القصر العدلي في بيروت في 6 نوفمبر 2019

كان هذا السلوك أكثر وضوحًا عند بعض مراسلي "المؤسسة اللبنانية للإرسال (أل بي سي)"، على الرغم من أن سياسية المحطة كانت إلى جانب الثورة بوضوح؛ حتى أن مغردين كثيرين على تويتر ساقوا اتهامات ضد إحدى مراسلات المحطة، التي يبدو أنها توالي السلطة، بأنها لا تنقل صورة ما يجري على الأرض بدقّة وموضوعية، وبأنها تتعمّد استفزاز المواطنين المتظاهرين كسؤال من تقابله على الهواء "من أرسلك إلى هنا؟"، وحتى بأنها صورت مقابلة "ملفقة" للإساءة إلى الثورة.

يسقط حكم الفاسد

فيما لقي مراسلو ومراسلات "أو تي في" صعوبة في استصراح الثوار، إذ كانوا يرفضون التحدث إليهم ما أن يدركوا انتماءهم، وجد مراسلو ومراسلات تلفزيون "الجديد" كل ترحيب أينما حلوا، خصوصًا في طرابلس وصيدا.

كانت ميزة تلفزيون "الجديد" شبكته الواسعة من المراسلين والمراسلات، إذ انتشروا في كل بقعة شهدت حراكًا أو صدامًا أو رفع شعارات، وساهموا في تأجيج الثورة من خلال إجراء مقابلات تحلت بالموضوعية، كما شهد الحميع بذلك.

ميزة أخرى لـ "الجديد": رافق هذا التلفزيون الحراك في أوقات متفرقة باستعادة تقارير مختلفة بثها سابقًا عن ملفات فساد، توصل قسم الصحافة الاستقصائية فيه إلى فضحها.

ومع اليوم التاسع عشر من الثورة، بث التلفزيون برنامج "يسقط حكم الفاسد" الذي فضح فيه الكثير من ملفات الفساد بالوثائق. وفي اليوم العشرين، بدأ يبث برنامجًا يوميًا عنوانه "يوميات ثورة"، فيه فقرات عدة، في مقدمها "يسقط حكم الفاسد"، وفقرة فضح الأخبار الملفقة والكاذبة التي تروجها أجهزة مختلفة كي تسيء للثورة والثوار، ما رفد الثورة فعليًا بجهد منتج، يقود إلى تغيير حقيقي، خصوصًا أن النيابات العامة المختلفة في لبنان تحركت وسطرت استنابات تحقيق مختلفة بحق أشخاص وردت أسماءهم في الملفات المكشوفة.

إعلام بديل

تقول "بي بي سي" إنه كما هو الحال مع كل تحرك ضد الحكومات والأنظمة العربية، يعود مصطلح "صحافة المواطن" إلى الواجهة لسرعته في تبادل المعلومات ومقاطع الفيديو، ولنقل ما يرى المواطنون أن الإعلام التقليدي يتجنب عرضه.

صفحة "الاعلام البديل" التي تعرف نفسها بأنها مُهتمّة بنقل أخبار تظاهرات ١٧ اكتوبر ٢٠١٩ بكل شفافيّة، بعيدًا عن التعتيم الإعلامي الذي تتعرض له بين الحين والآخر، نشرت دعوات لإغلاق مرافق عامة بعد فتح الطرقات في إثر استقالة الحريري. كذلك عملت الصفحة على نشر أخبار التحركات الميدانية للمحتجين ومقاطع الفيديو.

وأجرت الصفحة تصويتًا حول إمكانية الخروج من الشارع ومراقبة السلطة لوقت محدد. وفي ذلك تجاوزت الصفحة مهمة النقل الاعلامي الى استفتاء الناس حول موقفهم من الاحتجاجات.

صفحة "أخبار الساحة"، ودائمًا بحسب "بي بي سي"، تغطي حوادث وأخبار التظاهرات والاعتصامات في مختلف المناطق اللبنانية بسبب تفادي بعض وسائل الإعلام اللبنانية تغطية الاعتصامات بشكل واف بحسب رأيها، نجحت في نقل مقاطع فيديو لتظاهرات في قرى نائية لم تصل لها كاميرا الاعلام التقليدي.

وأنشأ المطور مارك فارا موقع "lebanonprotests" ليكون خريطة تفاعلية للتظاهرات على امتداد لبنان، وللطرقات المقطوعة. وتظهر الخريطة حجم المظاهرة في كل منطقة. ويسمح الموقع لرواده بتزويده بمواقع جديدة للتظاهرات وإحداثياتها، إضافة إلى رابط يثبت صحة الخبر.

استقالات "الأخبار"

ثمة حدث آخر استجد في المشهد الإعلامي اللبناني، سببته الثورة. إنه مشهد استقالات متتالية تقدم بها صحفيون من إدارة جريدة "الأخبار" الموالية لحزب الله، على خلفية تغطية الجريدة للثورة، واعتمادها خطاب حزب الله الذي يجعل من الثوار عملاء لسفارات أجنبية، يريدون زعزعة الاستقرار في لبنان.

متظاهرة لبنانية تلف كتفيها بالعلم اللبناني في وسط بيروت

بعد استقالة الصحافية جوي سليم من الصحيفة، وحجتها أن "مقاربة الانتفاضة ومعالجتها بعد أيام قليلة من اندلاعها كانت أقرب إلى الفضيحة برأيي، والجريدة تتحمل جزءاً من مسؤولية أي دماء يريقها المواطنون - مؤيدو أحزاب السلطة بحق المتظاهرين والمعتصمين"، أعلن رئيس قسم الاقتصاد في الصحيفة، محمد زبيب استقالته، قائلًا إن لا علاقة له بعد اليوم بملحق الاقتصاد الذي تصدر "الأخبار"، مؤكدًا أن استقالته تأتي "احتجاجًا على موقف إدارة الصحيفة من الانتفاضة وانفصامها".

وأعلنت الصحفية صباح أيوب أنها استقالت من "الأخبار" نتيجة تراكم أسباب، "آخرها أداء الصحيفة في تغطية انتفاضة 17 تشرين الشعبية".

كذلك أعلنت الصحفية فيفيان عقيقي أنها تقدمت باستقالتها للسبب نفسه، فيما أعلن الصحافي محمد الجنون عن قراره وقف الاستكتاب في "الأخبار"، لأنه "وجد أنّها لم تعطِ الحق المطلوب للحراك الشعبي وثورة 17 تشرين الاول" مؤكدًا في تغريدته أن القلم الحر لا تزيفه سياسات ولا انتماءات.

فهل تكون "الأخبار" أولى ضحايا الثورة اللبنانية على سلطة فاسدة وجماعات متسلطة، لا يهمها رأي الشعب اللبناني؟