الرباط: تنقل رواية "مؤنس الملك" للكاتب والفنان التشكيلي المغربي ماحي بنبين لـ "حكاية تفيض بسحر الحكايات الغابرة"، فيما "تغرق في كابوس مأساة إنسانية". هي أكثر من رواية تنحصر أحداثها ومصائر أبطالها بين دفتيها. رواية بقدر ما هي ممتعة بمضمونها، يمكن اعتبارها "وثيقة" يستعيد من خلالها القارئ أحداثا ووقائع وشخصيات مؤثرة طبعت التاريخ المعاصر للمغرب، خصوصا ما ارتبط منها بحكم الملك الراحل الحسن الثاني، من قبيل المحاولة الانقلابية الفاشلة في 1971 أو حدث المسيرة الخضراء في 1975.

سيرة كاتب
لرواية "مؤنس الملك" قيمتها كعمل إبداعي يتداخل فيه التخييلي والواقعي، الذاتي والموضوعي، جاء متناغما مع باقي أعمال كاتب يترك لأسئلته الحارقة أن تتناسل سردا وتشكيلا، مقتسماً رؤيته مع قرائه، بخصوص عدد من القضايا، منطلقاً من أفكار يطور بها أحداث رواياته، بداية مع "غفوة الخادم"(1992) و"جنازات الحليب"(1994) و"ظل الشاعر"(1997) و"أكلة لحوم البشر"(1999)؛ وصولا إلى "درب العْفــُو"(2019)، مرورا بـ"غبار الحشيش"(2001) و"أرض الظل المحروق"(2004) و"نجوم سيدي مومن"(2009) التي تناول فيها الأحداث الإرهابية التي هزت الدار البيضاء في 16 مايو 2003، والتي حوّلها المخرج المغربي نبيل عيوش إلى فيلم سينمائي تحت عنوان "يا خيل الله"، و"الله يخلف"(2013) و"مجنون الملك" التي صدرت في 2017 باللغة الفرنسية، والتي يحكي فيها جانبًا من سيرة والده، قبل أن تنشر بالعربية، عن "هاشيت أنطوان" بلبنان، من ترجمة أدونيس سالم، لكن تحت عنوان "مؤنس الملك".

غلاف رواية "مؤنس الملك" لماحي بنبين

في مراكش، ربما جالستَ ماحي بنبين، فحدثكَ عن تجربته الفنية والروائية، وعن جزء من سيرته الذاتية التي يتداخل فيها الخاص والعام، بشكل يجعلك تأخذ فكرة عن المأساة التي عاشتها عائلته، وتقف على وجهة نظره بصدد عدد من قضايا البلد، لتستبد بك مشاعر يختلط فيها التقدير والتعاطف مع الرجل، قبل أن تنتهي إلى أن الأمر لا يتعلق، فقط، بمأساة عائلية، أو بتناول فني وروائي متواصل لأفكار وقناعات إبداعية، بل بتوصيف عام واستعادة لما عاشه البلد، ما بين ستينيات وتسعينيات القرن الماضي، من صراعات وتمزقات ومآسي، تم العمل على طيها بـ"الإنصاف والمصالحة".

ربما حدثكَ ماحي بنبين عن الدور الذي لعبتْه والدته في حياته. عن شقيقه عزيز الذي قضى نحو عشرين سنة في سجن تازمامارت، وعن والده الفقيه بنبين وعلاقاته بالملك الراحل الحسن الثاني والباشا الكلاوي والفنانة أم كلثوم والشاعر محمد بن ابراهيم، وغيرهم ممن تقاطع مصيره مع مصائرهم، من قريب أو من بعيد.

ربما استعاد ماحي بنبين طفولته ومساره الدراسي، وتعلقه بوالدته، وكيف تمنى، بعد مرحلة الباكالوريا (الثانوية العامة )، أن يصير فناناً، هو الذي لم يكن يعرف، بالضبط، أي مجال فني يستهويه أكثر. وكيف سافر إلى فرنسا لاستكمال دراسته في تخصص الرياضيات، قبل أن يمتهن التدريس، من دون التخلي عن حلم امتهان الفن.

فضلاً عن قيمته الفنية والأدبية وحضوره في الخارج حتى صار، اليوم، من أعمدة الفن التشكيلي والنحت في بلده، وأكثرهم حظوة، كما حاز عدداً من الجوائز عن كتاباته الروائية، يتميز ماحي بنبين، الذي ولد عام 1959، في عمق المدينة القديمة لمراكش، بوجوده ، في فترة من حياته، في صلب مأساة عائلية تصلح لرصد جانب مثير ومعقد من تاريخ المغرب المعاصر، من جهة أنه أحد أبناء الفقيه بنبين، الذي اشتغل مؤنساً للملك الراحل الحسن الثاني منذ منتصف ستينيات القرن الماضي؛ وشقيقه عزيز أحد المعتقلين السابقين بسجن تازمامارت، سيء الذكر والصيت، على خلفية انقلاب الصخيرات الفاشل.

ماحي بنبين (تصوير: أحمد بن اسماعيل)

حين يحدثكَ ماحي بنبين عن مأساة عائلته، تتأكد أن ضحايا الاعتقال والسجن، خلال ما سميت بـ"سنوات الرصاص" في المغرب، لم يكونوا، فقط، من قضوا في المعتقلات أو أفنوا زهرة عمرهم في ظلمتها، بل آباؤهم وأمهاتهم وأشقاؤهم وباقي معارفهم.

عائلة شكسبيرية
يرى ماحي بنبين أن معظم الكُــتاب لا يفعلون أكثر من إعادة كتابة ما عاشوه، بطريقة أو بأخرى؛ مشيراً إلى أنه ترعرع وسط عائلة شكسبيرية، كان أحد أبنائها معتقلاً في تازمامارت، في وقت كان فيه الأب يقضي وقته داخل القصر الملكي، مؤنساً للملك.

يستعيد ماحي بنبين لحظة خروج شقيقه من سجن تازمامارت، وكيف أن أول شيء طلبه منه، بعد خروجه من جحيم المعتقل سيء الذكر، هو أن يأخذه لرؤية والده. فما كان منه إلا أن ثار في وجهه، قائلاً له كيف ترغب في رؤية من خذلك فتنكر لك وتبرأ منك، وتخلى عنا.

كان لقاء عزيز بوالده لحظة مؤثرة. عناق ودموع. سيقول عزيز لماحي، في وقت لاحق، إنك أخطأت بمقاطعة والدك، مشيراً إلى أنه اقتسم الزنزانة، حين كان في تازمامارت، مع 30 معتقلاً، وأن أربعة، فقط، هم من ظلوا على قيد الحياة، لأنهم لم يحملوا بغضاً أو حقداً في داخلهم، ضد أي كان، بعدما توافرت لديهم القدرة على الصفح والتسامح. قال عزيز لشقيقه ماحي إن البغض يقتل صاحبه، أولاً، وأنه سمُّ قاتل، لا يمكن أن يحل مشكلاً. فقط، الصفح والتسامح والتغاضي عن أخطاء الآخرين، ما يمنح المرء تصالحاً مع الذات.

مضمون هذا الكلام الذي جمع ماحي وعزيز، سنجده في رواية "مؤنس الملك"، حين سيخاطب هابيل (عزيز) والدته، بعد خروجه من السجن، مشيرا إلى أنه غير حاقد على والده، وأنه يود كثيرا أن يراه، كما إنه ليس غاضبا من أحد، مشددا على أن "الكراهية تُعمل سُمها في قلب صاحبها قبل أن تصيب الآخرين، فتهده وتنهشه، وتقتله ببطء"، فيما "المسامحة دواء عجائبي ... من بين المعتقلين الثلاثين في المبنى باء، لم يبق منا على قيد الحياة سوى أربعة .. لأننا تعلمنا أن نلفظ من قلوبنا سم الكراهية".

صالَحَ ماحي بنبين والده فوجده شخصاً راقياً ومثقفاً، فارتبط به حد التعلق. وقد ظل يردد، منذ مطلع التسعينيات، أنه سيكتب عنه رواية، حتى تحققت الرغبة مع "مؤنس الملك"، حين صار في الستين من العمر، وتصالح مع ذاته، بعدما أخذ برأي شقيقه الذي صرخ في وجهه ذات نقاش: "أنا خرجت من تازمامارت، وأنت ما زلت في داخله. أخرج منه إلى الحياة. تنفسْ قليلاً".

هكذا، حوّل ماحي بنبين الصدمات التي واجهت عائلته إلى دافع إيجابي. أخذ عن والدته قيمة الأسرة وحفظ ذكرى من نحب، ومن شقيقه معاني الصفح والتسامح، قبل أن يقترب من والده الفقيه بنبين، الأديب والإنسان، الذي سيتعلم منه أن الأمور ليست دائماً إما سوداء أو بيضاء، وأنها يمكن أن تكون في منطقة البينَ بيْن؛ طالما أن لكل حقيقته، من جهة أنه لا أحد يملك الحقيقة مطلقاً، وبالتالي فمن كان معتقلاً في تازمامارت كانت له حقيقته، كما إن من كان يعيش في القصر، ملكاً أو في خدمة الملك، له حقيقته، في صدد ما جرى.

عتبات "مؤنس الملك"
يضعنا ماحي بنبين، من خلال عتبات روايته، في صورة ما يقترحه علينا من سرد: سيرة غيرية، إن شئنا القول، فيها شيء من التخييل الذاتي. بين عنوان الكتاب (مؤنس الملك) وطبيعة النص (رواية)، ثم الإهداء (إلى أبي)، وصولا إلى ما كُتب على ظهر الغلاف، يعلن الكاتب عن نواياه في صدد مضمون النص وسياق السرد، مرورا بكلام لفكتور هيغو، نقرأ فيه: "مسكين أنت أيها الشحرور ! كم تخفي سعادة المهرج آلاما دائمة لا شفاء منها ! كم هي حزينة مهنة الإضحاك!".

من أعمال ماحي بنبين التشكيلية

بعتبات الرواية، تعلن الشخصية الرئيسة عن نفسها فيما تتوسع في شرح العلاقة التي تبني للعنوان، بخصوص "المؤنس" و"الملك".
يختصر ماحي بنبين، من خلال نص صغير على ظهر غلاف "مؤنس الملك"، علاقته بوالده، حيث نقرأ: "ولدت في عائلة شكسبيرية، بين والد عاش طوال أربعين عاما في خدمة الملك، وشقيق أبعد إلى سجن من سجونه. تخيلوا قصرا مرعبا وساحرا يعاقب أوفى أوفيائه، وتتحكم نزعات الغيرة بليله. للحكايات أبواب يعرف الحكاؤون جيدا أنها تفضي إلى السلطة من جهة، وإلى الحرية من الجهة المقابلة. عند ذلك الباب، وقف والدي وكان عليه أن يختار. وقد اختار سموّه. تخلى عن زوجته وأولاده، وترك شقيقي لمصيره، لتعيش عائلتنا طوال 20 عاما مسكونة بألم الغياب. ما حجة مؤنس الملك؟ وما حجة الوالد الذي فيه؟ لمَ قد يزج إنسان بنفسه في العزلة ويرمي نفسه في أحضان العبودية؟ غريبة هذه الدنيا، وغريبة كانت الحياة التي اختارها أبي. منذ سنوات وأنا أحاول أن أروي قصته. اليوم أضعها بين أيديكم: حكاية تفيض بسحر الحكايات الغابرة، وتغرق في كابوس مأساة إنسانية".

نواة "مؤنس الملك"
في سياق الصدى الإيجابي الذي خلفته رواية ماحي بنبين، يرصد الكاتب والباحث المراكشي عبد الجليل الأزدي طبيعة "مؤنس الملك"، راسما بورتريها تتداخل فيه سيرة الابن (الكاتب) والأب (الفقيه بنبين) على حد سواء، في ارتباط بمأساة العائلة، ليكتب، في سياق تفاعله مع مضمون هذه الرواية: "المؤلف، وبإقرار شخصي، يعرب عن أن روايته ناتجة من صراع شكسبيري بصم حياته الشخصية والعائلية لعدة عقود قبل أن يشتبك معه من بوابة الأدب والتخييل. وتعود خيوطه الأولى الى عام 1971 عندما وجد الضابط عزيز بنبين نفسه متورطا إلى جانب عدد من زملائه في محاولة انقلاب عسكرية على الملك الحسن الثاني.

وفي أعقاب تلك المحاولة ألقي بعزيز وضباط آخرين في سجن تزمامارت الذي قدم عنه الكثير من التفاصيل واحد من رفاق عزيز وضحايا هذا المعتقل السري الرهيب (أحمد المرزوقي في روايته: تزمامارت - الزنزانة رقم 10). بقي عزيز هناك عقدين، ولقي الكثير من السجناء حتفهم بسبب ظروف الاعتقال غير الإنسانية والتي شكلت مادة للكثير من الكتابات والاعترافات. وحين كان عزيز يموت بالتقسيط في جحيم تزمامارت، كان أبوه الفقيه محمد بنبين ضمن الدائرة الأكثر قربا من الملك. كان فقيها ذا حظ كبير من الأدب والشعر والنكتة. وكان مؤنس الملك. وبدلا من أن يلتمس العفو لابنه، تبرأ منه وكأنه لم يخرج من بين صلبه وترائبه.

وحين غادر عزيز السجن عام 1991، لم يتردد في طلب لقاء والده، وهو ما أثار استغراب المؤلف ماحي بنبين. وقد شكلت هذه المأساة نواة رواية ماحي بنبين التي اتكأت على أحاديث لوالده، سجلها بالصوت والصورة أخوه نجيب على امتداد خمسة وعشرين عاما، عن تفاصيل ليالي الأنس في بلاط الملك على امتداد أربعين عاما. إذ كان الفقيه مؤنسا له. كان ذا عمق شعبي. وكان معروفا بخفة دمه وروحه المرحة وثقافته الواسعة في حقول الفقه والأدب والشعر والنكتة. وهذا الفقيه نفسه الذي توفي عام 2008، أسند اليه المؤلف مهام السارد على امتداد ستة وأربعين ومائة صفحة تستعيد الكثير من العناصر السير ذاتية في روايات ماحي بنبين الأولى والثانية: صورة الأب الفقيه في رواية "غفوة الخادم"، وصورة الأخ المغيب والغائب كما رسمتها رواية "جنازات الحليب". وفي هذا الامتداد، يذهب السرد نحو الجوهري ويزهد في النوافل رغبة في عدم إثقال كاهل المحكي الروائي بسيول النوادر والنكت والأحجيات والمستملحات عن ليالي الأنس في القصر الملكي".

قصة مؤنس
في "مؤنس الملك"، يترك ماحي بنبين (الابن) لوالده الفقيه بنبين، الشخصية الرئيسة في الرواية، مقاليد السرد وحرية ضبط إيقاع واستراتيجية سرد الأحداث وتحديد مساراتها، حيث نقرأ: "هذه الرواية المدهشة هي روايتي. الحقيقة أنني لم أخترها، كما إنني لم أعترض عليها، بل تركت الأمور تسلك مسارها الطبيعي، كما هي حال بقية البشر".

يتحدث السارد بضمير المتكلم، متوجها بكلامه، بين الحين والآخر، إلى قراء مفترضين. يقول: "كما ترون، إن الهدف الأسمى من وجودي العبثي في هذه الدنيا ما هو إلا إسعاد الملك. فأنا لا أعيش لغير ذلك. ولا شيء في العالم يسعدني ويرضيني أكثر من رؤية وجه مولانا مشرقا".

غلاف رواية ماحي بنبين في نسختها الفرنسية

يشير السارد إلى أنه احتفظ بأشياء مهمة وأخرى تافهة، وراكم كما هائلا من المعلومات لو احتواها أي فكر آخر لأحدثت فيه تشويشا وارتباكا. يقول، في هذا الصدد: "يكفيني أن أشد طرف خيط واحد حتى أستعيد وبدون أي عائق كل ما يتصل به من الذكريات. كان الماضي ينبسط أمامي كما تغمر مياه المد اليابسة، فيزيح الحاضر من طريقه بكبرياء جد يتقدم للوقوف أمام أبنائه وأحفاده. لقد كنت حريصا على أن أوضح لكم هذا الأمر، لأشرح لكم كيف أن رجلا في مثل حالتي استطاع الانضمام إلى حاشية ملك _العالم الذي لا يعرف الرحمة_ ويصبح محط أنظار الجميع وحسدهم".

يحدد السارد مكان وزمان ما يستعيده من أحداث، فإذا الأمر يتعلق بقصر فسيح، وملك ينهش أحشاءه بلا هوادة وحش خفي. يتعلق الأمر، هنا، بالأيام الأخيرة من حياة الراحل الحسن الثاني، الذي وافته المنية في 23 يوليو 1999.

سنتعرف إلى العلاقة التي ربطت السارد بالملك الراحل، وكيف بدأت والمسارات التي قطعتها، قبل أن ننتهي إلى المرحلة الأخيرة من حياة ملك طبع بشخصيته تاريخ البلد والمنطقة. يقول الفقيه بنبين، في "مؤنس الملك"، منطلقا من رصد آخر أيام الملك الراحل: "كان كل شيء يبدو طبيعيا، لكن الحقيقة غير ذلك تماما ... لكنني أحسست بكتلة من الأحزان تقبض على صدري. كنت أصلي لله صبحا ومساء لكي يخلص مولاي من مرضه، أو، إذا اقتضى الأمر ولم يكن هناك من مفر، لكي ينزل ذلك المرض بي أنا. كنت مستعدا لأن أتحمل ألمه الجسدي، والتشنجات التي تمزق أمعاءه، والسكاكين التي تخترق خاصرتيه. ألم أكن طوال خمسة وثلاثين عاما خادمه المتفاني، ومؤنسه المضحك صاحب المخيّلة التي لا تنضب، والفقيه الديني المعتمد لديه، مع أنه أمير المؤمنين؟ ألم أكن مستشاره الأدبي، ومرجعه من دون منازع في عالم الشعر الخيالي، الشاهد على ذلك الزمن حين كان العرب يخوضون حروب الرباعيات والقصائد، وحين كان النحاة يتجادلون شهورا حول صحة لفظة ما، أو تصريف فعل، أو تشكيل كلمة، ذلك الزمن حين كانت المعادلات الرياضية أو الفلكية بمنزلة ديانة .. ذلك الزمن المبارك الذي يبدو الآن كأنه لم يكن سوى ضرب من الخيال؟".

شخصية الفقيه
ترصد الرواية طبيعة وسياق العلاقة بين مؤنس (الفقيه بنبين) وملك (الحسن الثاني)، لنقرأ على لسان السارد: "غريب هو قدري ! أنا، محمد بن محمد، رجل من عامة الشعب، لا تميزني من سواي سوى قدرتي على حفظ كل ما أسمعه. لقد وهبتني السماء ذاكرة قل نظيرها بين البشر، قادرة على تسجيل الهمس الذي يبلغ أذنيّ. أحفظ كل شيء .. كل شيء! أستطيع أن أروي، وبأدق التفاصيل، محادثة عادية جرت منذ خمسين عاما بيني وبين شخص جمعتني به معرفة عابرة. أما الكتب التي قرأتها، وقد قرأت الكثير، فبوسعي أن أُسمّعها كاملة، حتى مع مقدمتها، بدون إغفال فاصلة واحدة منها".

يشدد السارد على أن الله قد منحه قدرة مدهشة ليحفظ كل شيء، الجيد منه والسيء، بحيث يمكن لشخصية القارئ أن تصير محصلة لقراءته، وما حفظته ذاكرته؛ لافتا إلى أنه بذل جهدا هائلا لكي يتلخص من الكراهية والأحقاد التي تنتج منها، ومن الضغائن المرة والجهنمية التي يعيشها الأشخاص غير القادرين على النسيان؛ لأن في المسامحة شيئا من النسيان.

اختار السارد أن يروي "حسنات" الذاكرة، التي كان لها الفضل في ارتقاء الفقيه بنبين السريع إلى الدوائر العليا للسلطة. لذلك، ترسم الرواية، منذ البداية، بورتريها لشخصية الفقيه بنبين، من أين جاء، وكيف استطاع أن يصير "رجل الحاشية الأول لدى الرجل الأول في المملكة"، مستثمرا تلك "النعمة الإلهية" التي جعلت منه ما هو عليه، حيث نقرأ على لسانه: "نعم، أدين بكل شيء إلى ذاكرتي، التي عرفتُ بغريزتي كيف أستفيد منها منذ نعومة أظفاري. دراسة القرآن والحديث النبوي الشريف كانت بالنسبة إليّ أمرًا في غاية السهولة، كما إن حفظ ألف بيت من الشعر لأتمكن من قواعد اللغة كان بالنسبة إليّ بسهولة شربة ماء، ما أثار غيرة الكثيرين من رفاقي في مدرسة ابن يوسف. أما في الشعر، فلا يوجد شاعر لم أحفظ ديوانه كاملا".