إيلاف من لندن: في منتصف كل أغسطس، نتذكر راحلًا كبيراً. إنه غازي عبد الرحمن القصيبي، السياسي الليبرالي والدبلوماسي والأكاديمي والمحامي والأديب الروائي والشاعر السعودي، الذي يعدّ من كبار المفكرين والساسة التكنوقراط في المملكة. "إيلاف" تسجل في الذكرى شهادات حياة عن الراحل الكبير، وتنبش في أوراق قديمة عن سيرة عطاء لا ينضب.

عمل القصيبي سفيرًا للمملكة العربية السعودية في البحرين بناءً على رغبته، وبقي فيها ثماني سنوات. ثم عيّن في فترة حساسة ومليئة بالأحداث الجسام سفيرًا لخادم الحرمين الشريفين في بريطانيا، حيث بقي أحد عشر عامًا، ليغادر سلك الدبلوماسية إلى ملاك الخدمة العامة، وزيراً للمياه ثم المياه والكهرباء ثم العمل.

وإلى كل ذلك كان القصيبي أكاديميًا فذاً، ترك إرثًا تعليميًا كبيرًا، وشاعرًا وروائيًا وكاتبًا أصدر الكثير من المؤلفات، كان لكل منها الوقع الكبير في مجتمعه، خصوصًا أنه توسلها للتعبير عن آراء اعتبرت متقدمة في حينها أو خارجة على "القانون"، وتحديدًا في أعماله الروائية مثل "أبو شلاخ البرمائي" و"دنسكو".. و"شقة الحرية" التي أصدرها في عام 1996، راويًا قصة شباب من توجهات فكرية وسياسية مختلفة، اضطروا إلى الإقامة معًا في القاهرة للدراسة. فيقدم القصيبي في هذه الشقة تيارات فكرية شاعت بين الشباب العرب بين عامي 1948 و1967. إلى ذلك، تعد حوادث الرواية مستوحاة من تجربته الذاتية في أثناء دراسته القانون في جامعة القاهرة.

قليل من كثير
ولد القصيبي في مارس 1940 "في بيئة مشبعة بالكآبة"، تمامًا كما يرسمها بنفسه. فجده لأمه رحل عن الدنيا قبل ولادته بأيام، وأمه رحلت بعد تسعة أشهر من ولادته. يروي: "ترعرعت متأرجحًا بين قطبين أولهما أبي وكان يتسم بالشدة والصرامة (كان الخروج إلى الشارع محرّمًا على سبيل المثال)، وثانيهما جدتي لأمي، وكانت تتصف بالحنان المفرط والشفقة المتناهية على (الصغير اليتيم)".

هكذا، نشأ القصيبي بين مطرقة السلطة الأبوية القاسية وسندان الجدة الحنون. وهكذا عاش بين ضفتين أينما ذهب، وهذا يمكن أن يكون عامل نجاحه في مناصبه كلها: شديد كالرمح، رؤوم كالأم.

أعوام عشرة

في منتصف أغسطس من هذا العام، تمر عشرة أعوام على رحيل من شغل وظائف مهمة في الدولة السعودية، وقدم للعالمين العربي والإسلامي أعمالًا أدبية جعلته من أهم الأدباء السعوديين. فالراحل الكبير تنقل في مناصب دبلوماسية وجامعية ورسمية عديدة، جمعت حوله جمعًا غفيرًا من الأصدقاء، جذبتهم إليه مناقبيته العالية في العمل، وأخلاقه السامية في الحياة.

في كل عام، يتحلق حول شخصه صحبٌ يتذكرونه، يحيونه بينهم بالكلمات التي تعجز أحيانًا عن القول العدل في حق رجل جمع المجد من أطراف عدة، فشبكها وثبتها في يده.

ليست ذكريات، إنما هي شهادات حياة من رجال عاصروا القصيبي، أو عايشوه، أو قرأوه، تجمعها "إيلاف" تحية للقصيبي في ذكراه العاشرة.

رجال في رجل
يقول عبدالله المدني، الكاتب والأكاديمي البحريني المختص في العلاقات الدولية، في القصيبي إنه يختلف عن غيره من مبدعي وأعلام الخليج في نواح عديدة، "إذ يمكن اعتباره مجموعة من الشخصيات المثيرة اندمجت في شخصية واحدة جذابة متميزة بالتواضع الجم والكرم اللامحدود والانفتاح على الجميع.. شخصية أدهشت الناس بقدرتها الفذة على العمل في أكثر من حقل من حقول المعرفة، وأثبتت علو كعبها لجهة خوض السجالات والمعارك الفكرية المحركة للمياه الراكدة والمنتجة لرؤى إنسانية جديدة. أضف إلى ما سبق وطنيته النادرة وولاؤه العميق ونزاهته المشهودة وخدماته الكثيرة لوطنه وبني دينه وعروبته".

يضيف المدني لـ"إيلاف": "أستطيع أن أقول جازمًا، بحكم علاقة الصداقة التي ربطتني بالراحل الكبير بسبب تشابه الأفكار والرؤى من ناحية، وتقاطع تخصصه الأكاديمي وبعض جوانب سيرته الدراسية واهتماماته في سنواته المبكرة مع سيرتي واهتماماتي وتخصصي من جهة أخرى - رغم فارق السن والمقام بطبيعة الحال- أن القصيبي لم يكن يرد أحدًا يطرق بابه. بمعنى آخر، حرص حتى آخر يوم في حياته، وفي حدود صلاحياته ونفوذه وعلاقاته، أن ينتصر للمظلوم والمكلوم، وأنْ يرسم الإبتسامة على الشفاه التي تعذبت جراء غرور موظف متعجرف، أو لائحة بيروقراطية مقيتة، أو فساد مسؤول حكومي، وأن يساعد بالنصيحة والرأي السديد والتوجيه كل إنسان طموح يسعى إلى تحقيق حلم ما."

الإنساني أولًا

يتابع المدني لـ "إيلاف": "للأمانة، ترددت مرات كثيرة على الرجل في مكتبه بالسفارة السعودية في لندن طالبًا رأيه في موضوع رسالتي للدكتوراه وعنوانها ’العلاقات السعودية الهندية في نصف قرن: تأثير العوامل الداخلية في رسم السياسات الخارجية‘، فشجعني قائلا: ’إنه موضوع مثير ولم يسبقك إليه أحد لكنك ستجد بسبب ذلك صعوبات كثيرة لعدم وجود مراجع تستند إليها، خصوصًا أن الجهات الحكومية، بحسب تجربتي، ستبخل عليك بالوثائق الرسمية الأصيلة وكأنها سر من الأسرار الحربية‘".

لكن المدني لم يخرج من عند الراحل خالي الوفاض: "أسدى إلي بعض النصائح في كيفية التدرج لجهة كتابة الأطروحة، وأخبرني كذلك ببعض ما دار بينه وبين رئيسة الحكومة الهندية الراحلة أنديرا غاندي خلال زيارتها النادرة إلى السعودية في عام 1982، بعد انقطاع الزيارات بين البلدين على مستوى القمة منذ عام 1955، حيث كان القصيبي الوزير الذي رافقها في تلك الزيارة".

في وصف المدني، كان القصيبي إنسانًا قبل أن يكون وزيرًا أو سفيرًا. ومن دلائل انسانيته أنه حين كان وزيرًا للصحة، أنشأ جمعية أصدقاء المرضى، وأسس برنامجًا يقوم على إهداء والدي كل طفل يولد في مستشفيات الوزارة صورة لوليدهم بعد ولادته مباشرة مع قاموس للأسماء العربية، فضلًا عن تعزيز عملية التبرع بالدم، وبث ثقافتها، وتحفيز المواطنين نحوها. كذلك ظهرت في عهده لمسات روحانية في المستشفيات العامة كتعليق آيات من القرآن الكريم داخل تلك المستشفيات وتوزيع المصاحف على المرضى والمصابين، وتأسيس جمعية الأطفال المعوقين في الرياض.

عاشق البحرين

يقول المدني: "جزء كبير مما تميزت به شخصية القصيبي المثيرة يُعزى إلى مرحلته البحرينية. فهو لئن ولد في الأحساء وقضى فيها سنوات طفولته الأولى، إلا أن سنوات التالية كانت في المنامة. أحب القصيبي البحرين وعشقها عشق المتيم. كيف لا وهي البلاد التي تلقى فيها ما يُعرف بالصدمة الحضارية الأولى، والتقى فيها أول مرة بالكهرباء التي سيصبح وزيرها، وشهدتْ أزقتها لسعته المراهقية الأولى وجنون صباه الأول، وشكل فيها أوفى علاقات الصداقة مع خيرة شباب البحرين ممن سافر معهم لاحقًا إلى القاهرة حيث تقاسم معهم مقاعد الدرس وأماكن الإقامة ووجبات الطعام ومرابع اللهو على نحو ما سرده بالترميز والاسم المستعار في أولى تجاربه الروائية ’شقة الحرية‘. ثم حافظ على تلك العلاقات وسقاها بماء الود، وهو يتدرج في المناصب العليا في بلاده، علمًا أنه أرتبط بعلاقات خاصة مع ثلاث شخصيات بحرينية معروفة: الشاعر الراحل عبدالرحمن رفيع، والوزير الراحل يوسف أحمد الشيراوي، والمفكر الدكتور محمد جابر الأنصاري".

يتجلى عشق القصيبي للبحرين في قصيدته الأثيرة "العودة إلى الأماكن القديمة"، وهو العنوان نفسه الذي وضعه على أحد دواوينه الشعرية مع إهداء إلى صديقه البحريني محمد صالح الشيخ عبدالله، أو "رفيق الأماكن القديمة" كما يضفه.

مثيرة للجدل
يتذكر المدني لـ "إيلاف" أنه التهم رواية القصيبي الأولى "شقة الحرية" في جلسة واحدة، "لأني وجدتُ في أحداثها وشخوصها ما مرّ عليّ وعلى أقراني خلال دراستنا الجامعية، على الرغم من إختلاف المكان والزمان. كما أتذكر أني كتبتُ مقالة مطولة في جريدة ’أخبار الخليج‘، دافعت فيها عن الرواية بمواجهة الهجوم الضاري الذي تعرضت له من قبل بعض كتاب صحيفة ’القدس العربي‘ اللندنية وغيرها من الصحف الحاقدة على السعودية ومبدعيها ورموزها".

ما كتبه المدني في تلك المقالة: "إن مواقف النقاد في بعض الصحف العربية المهاجرة، والتي حفلتْ بالكثير من المغالطات حول العمل وجاء معظمها من أناس هواياتهم الفطرية وانتماءاتهم الفكرية والمرجعية لا تتقاطع مع هوية الدكتور غازي القصيبي ومواقفه وآرائه، تكشف بجلاء ووضوح أسباب موقفهم السلبي الحاد من الرواية، مما يجعل النقد هنا دون معنى، لأنه لا يستهدف الرواية كعمل فني، وإنما يستهدفها كعمل سياسي مرتبط بمواقف مؤلفها السياسية والفكرية، حتى أن ناقدًا معروفًا من هؤلاء لم يجد حرجًا في وصف ’شقة الحرية‘ بأنها عمل يحمل في ثناياه إهانتين: واحدة للتاريخ، وأخرى لفن الرواية!! هكذا بكل بساطة ووقاحة".

لم يقرأ روايتي
يثمّـن القصيبي مقالة المدني، "ودفعها إلى محمد محفوظ ليضمها إلى كتابه ’البروفسور غازي القصيبي وعالمه الغريب جدًا‘، بل اقترح عليّ ذات مرة ونحن في لندن أن أكتب عملًا روائيًا عن تجربتنا الطلابية في بيروت كي يقارن بينها وبين تجربته مع رفاقه في القاهرة، ويكتشف إن كان ثمة تغيير قد حدث بين زمانهم وزمننا. والحقيقة أن الفكرة اختمرت في رأسي، لكن الدراسة منعتني من تنفيذها فورًا، إلى أن جاء وقت شعرتُ فيه بضرورة تحقيقها. وهكذا ظهرتْ روايتي الأولى ’في شقتنا خادمة حامل‘ من وحي أحداث حدثت لي أو لرفاقي أو لأحد معارفنا أثناء دراستنا في بيروت في النصف الأول من سبعينيات القرن العشرين".

يضيف المدني: "غير أن المبكي والمحزن حقًا هو أن صاحب فكرة دخولي مجال الأدب الروائي بدأ رحلته المرة مع المرض وقت ميلاد الرواية، فلم تساعده ظروفه على قراءتها أو إبداء الرأي فيها. واطلع الناقد والأكاديمي المصري صلاح فضل، أستاذ النقد في كلية الآداب بجامعة عين شمس، على روايتي، فعلق: ’مع أن الرواية مكتنزة بصفحاتها القليلة واسلوبها المقتصد، فإنها تحفل بقدر هائل من التحليلات الدقيقة، وتزخر بمشاهد مثيرة للمتعة، مما يجعلها باكورة روائية لأستاذ موهوب يمتلك حسًا فنيًا مرهفًا، ورؤية إنسانية عميقة‘، مضيفًا: "إنها رواية تستمد عنوانها من روايتين بارزتين في الأدب العربي أولاهما رواية ’في بيتنا رجل‘ لإحسان عبدالقدوس، والأخرى رواية ’شقة الحرية‘ لغازي القصيبي".

شديد القسوة كالرمح
في أثناء غزو العراق للكويت، أثارت مقالات القصيبي ردات فعل كثيرة من قبل شيوخ ودعاة، حتى من قبل دول دعمت صدام حسين في غزوه الكويت. ثم، جمع القصيبي هذه المقالات في كتاب "في عين العاصفة"، الذي شاع.

قدم للكتاب عثمان العمير، ناشر "إيلاف" ورئيس تحريرها ورئيس تحرير "الشرق الأوسط" في أثناء أزمة الكويت. يقول العمير إن أهمية هذا الكتاب "تتمثل أولًا في أن كاتبه هو الراحل القصيبي نفسه، أما السبب الآخر فهو أن الكتاب يصور مرحلة حساسة ومفصلية من تاريخ الشرق الأوسط والخليج"، مستذكرًا أجواء كتابة تلك المقالات بقوله: "فاجأني غازي بفاكس فيه المقال الأول وكان مقالًا رائعًا أعجبني حقيقة، فقد كنا في حاجة إليه كإعلام خليجي".

مما جاء في مقدمة العمير للكتاب قوله: "إن القصيبي كان شديد القسوة ضد خصومه كالرمح، فهو كان يعتقد أنه يخوض معركة انتهت بانتهاء احتلال صدام للكويت.. وكان طريفًا دخول القصيبي في حروب الكاسيت ضد خصومه وقتذاك، فقد اتجه غازي إلى تسجيل أشرطة للدفاع عن آرائه تحولت لاحقًا إلى كتب، ووقتها كانت أشرطة الكاسيت تنافس مواقع التواصل الاجتماعي اليوم".

كسب المعركة

يصف عبد الرحمن الراشد، الإعلامي السعودي ورئيس التحرير السابق لصحيفة "الشّرق الأوسط" والمدير العام السابق لقناة "العربيّة"، القصيبي بالدبلوماسي الشرس، متذكرًا مواقفه "في ذكرى وفاته وذكرى غزو الكويت، الذي جرحنا كثيرًا، وهز مفاهيمنا، ونظرتنا إلى العالم من حولنا. كان محركًا كبيرًا للعواطف ومفسرًا للمواقف. كنا قلة في وجه جيش كبير من مثقفي العالم العربي الذين هللوا وباركوا الغزو ، حتى في بعض الدول التي وقفت حكوماتها ضد غزو الكويت، ملأوا الصحف والإذاعات صراخًا دفاعًا عن جريمة صدام وهجومًا علينا".

يقول الراشد لـ "إيلاف": "رغم منصبه الدبلوماسي، قرر أن يكتب مقالة يومية ضد الغزو في منتهى الشراسة. سألني مرة قلت له سعداء بما تكتب، قال يهمني أن أعرف رأي الذين لم تعجبهم مقالاتي. قلت له المشترك بين معارضيك انهم ضد لغتك وانها لا تتناسب والمتوقع من سفير. فتبسم سعيدًا: ’آه يعني مزعوجين؟!يا عبدالرحمن، لكل مقام مقال، طبعًا هم اعتادوا مجاملاتنا وما قد يوحي بضعفنا، وما حدث من السعودية ضد الغزو صدمهم. من حيث اللغة في هجومي على المجرم صدام فهي ليست خارج المقبول، أحب أن أذكرك بأنه حتى ربنا جل جلاله قال في كتابه، «تبت يدا أبي لهب وتب، ما أغنى عنه ماله وما كسب، سيصلى نارًا ذات لهب، وامرأته حمالة الحطب، في جيدها حبل من مسد»، هذا القول في أم جميل أخت أبي سفيان المرأة السليطة اللسان ضد رسول الله، سماها حمالة الحطب، فما يقوله صدام وأزلامه يجيز لنا اكثر من ذلك‘. فلاشك أن غازي قاد معركة جدلية عظيمة وكسب المعركة".

تصدى للصحوة والفتنة
يصف سعيد السريحي، الأديب وعضو مجلس إدارة النادي الأدبي الثقافي في جدة، القصيبي بالرجل الاستثنائي الذي عاش في حقبة استثنائية، وبأنموذج الرجل المخلص لوطنه. يقول لـ"إيلاف": "هو بالنسبة إلي قامة وطنية، ولعل من الصعب أن يُلم الإنسان بوقفات القصيبي التي بالطبع جميعها تستحق الوقوف، لا سيما موقفه الشجاع تجاه الصحوة حينما كانت تتقلب في أزياء شتى وتتغول بمختلف الأوجه، عندها تصدى القصيبي للصحوة ولم يكن لأي رجل آنذاك أن يتصدى لتوغلها. فهو كان يناضل وحده ضد أولئك الدعاة ويحذر من فتنتهم التي يوشكون أن يوقعوا البلاد فيها. وقتئذ لم نصغ للقصيبي وهو ما جعلنا نعاني هذه الفتنة الطويلة ولم نستيقظ منها إلا في ظل ما قام به ولي العهد الأمير محمد بن سلمان حينما كفانا شر هذه الفتنة وأغلق أبوابها ومكننا من أن نعيش في وطن حر".

يختم السريحي شهادته بالقصيبي: "لعلنا نتذكر كثيرًا تلك المقالات التي كتبها في عين العاصفة ردًا على خطباء الصحوة في موقفهم من الغزو العراقي على الكويت وما ترتب عليه من استعانة بالقوات الأميركية الصديقة للتصدي لهذا الغزو وتحرير دولة الكويت، ورد على أولئك الخطباء بما جمعه في كتابه الشهير ’كي لا تكون فتنة‘".