إيلاف من لندن: ناقش مثقفون ومفكرون عرب مستقبل التعددية في إطار وحدة الدولة، وأكدوا على الدور الأساسي للدولة في النظام الديمقراطي لحفظ الأمن وحماية حرية التعبير والتفكير.

ودارات النقاشات التي رعاها منتدى الفكر العربي ومقرّه العاصمة الأردنية عمّان، في ندوة عبر تقنية الاتصال المرئي في الأسبوع الماضي، حيث قدم د. أديب صعب الفيلسوف والأكاديمي ومؤلف خماسية في فلسفة الدين من لبنان، محاضرة شرح فيها المعنى العددي للتعددية لصون القيم الاجتماعية وتنظيم التعدديات في الدولة الواحدة، مؤكداً أن فكرة العروبة هي مثال للوحدة في التنوع، وتقوم على اللغة والثقافة مع استيعاب الثقافات الحية في المجتمعات العربية.

وأدار اللقاء وشارك فيه د. محمد أبو حمور الوزير الأسبق والأمين العام لمنتدى الفكر العربي، وشارك في المداخلات كلٌّ من : د. الطاهر بن قيزة أستاذ الفلسفة الحديثة والابستمولوجيا من تونس، والباحث المغربي د. ياسين اليحياوي من مركز الدراسات الإسلامية بجامعة مونستر في ألمانيا، ود. فاطمة جعفر الأكاديمية ورئيسة منتدى التنوع الثقافي في الأردن، والمطران د. قيس صادق المساعد البطريركي الأنطاكي، ود. حنا الحاج أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية، والباحثة في فلسفة السياسة والقانون حنان البوعمري من المغرب.

نداء عمّان
وأشير في اللقاء إلى أن "نداء عمّان" الصادر عن مؤتمر المواطنة الحاضنة للتنوع في المجال العربي، الذي عقده المنتدى في شهر أغسطس الماضي، أكد أن تحقيق قيم المواطنة يتعزز بالتعددية وقيم التسامح والتضامن.

وتناول المشاركون في مداخلاتهم الدور الأساسي للدولة في النظام الديمقراطي لحفظ الأمن وحماية حرية التعبير والتفكير، والتعددية كنتاج للنظام العادل والديمقراطي في المجتمع وأثر أزمة الثقة عليها.

كما أكد مشاركون دور دولة القانون في ترسيخ العدالة والمساواة مما يعمل على تقوية انتماء الفرد إزاء وحدة الدولة، ودعا بعضهم إلى تأكيد أهمية التنشئة البيتية والتعليمية على التعددية وضرورة وجود آلية لتعزيزها، وكذلك التكوين على المواطنية مما يوسع مساحة السلم وقبول الآخر داخل المجتمع التعددي، والأبعاد الجديدة لفكرة "الوحدة في التنوع" من أجل الإصلاح الاجتماعي والسياسي.

خلل عربي
ورأى المُحاضر د. أديب صعب أن هناك خللاً في العالم العربي يؤدي إما إلى طمس التنوّع، وإما إلى تنوع فوضوي لا يفضي إلى الوحدة، وركز في محاضرته على أن الحل يكمن في نظام تكون معه الدولة وحدة في التنوع أو وسطاً لتطبيق التعددية؛ مقترحاً معنى جديداً للتعددية هو المعنى العددي؛ أي أن كل مجتمع هو تعددي وإنْ كان أفراده ينتمون إلى عرق واحد أو دين واحد؛ مشيراً إلى أن هذا المعنى يصون القيم الاجتماعية وعلى رأسها الحرية والعدالة والمساواة واحترام كرامة الإنسان، لكن لا بد أن يكون هناك مبدأ توحيدي ينظم التعدديات وتجسده دولة مركزية قوية.

وقال د. صعب: إن هذه الوحدة تأتي وفق نمطين رئيسيين: الأول هو اقتطاع أحد عناصر التعددية بناءً على أغلبية ما، دينية أو عرقية أو سياسية، وإقامة نظام الحكم على ذلك.

والثاني هو أن تكون الدولة آلة إدارية، انطلاقاً من تعدديات المجتمع الراهنة بالمعنى العددي، وأوضح أن هناك ثوابت وطنية وقومية للدولة يجب صونها، ومن هذه الثوابت العروبة التي تعد مثالاً للوحدة في التنوع.

وأشار د. صعب إلى أن انحسار دعاوى العروبة باسم تجمعات مذهبية وعرقية حالياً أمر مؤسف؛ داعياً إلى رسم خط دفاع جديد عن العروبة يقتضي إعادة تحديد هذا المفهوم بحيث يؤدي إلى تأسيس كيان عربي قوي على هيئة اتحاد ثقافي- اقتصادي- سياسي، من غير أن يعني هذا كياناً واحداً بشكل دولة بالضرورة.

وأوضح أن العروبة التي يدعو إليها تقوم على اللغة والثقافة مع استيعاب الثقافات الحيّة التي وجدت أو نشأت على الأرض العربية.

قيمة التنوع
وأشار د. محمد أبو حمور الأمين العام للمنتدى إلى أن القيمة الكبيرة للتنوع والتعددية لم تستثمر على الوجه الصحيح في العالم العربي، مما فاقم التحديات والصراعات في بعض أجزائه، كما أن استبعاد دور الفكر من الحياة العامة جعل الاستقطابات السياسية تحاول توظيف الثقافة والفكر لصالحها، ما أدى في بعض المجتمعات إلى تصاعد خطابات التطرف والتفرقة وتفكك المكونات الاجتماعية وفقدان الأمن والاستقرار.

كما أشار د. أبو حمور إلى أن "نداء عمّان" الصادر عن مؤتمر "المواطنة الحاضنة للتنوع في المجال العربي"، الذي عقده المنتدى خلال شهر أغسطس الماضي، أكد أن تحقيق قيم المواطنة والعدالة الاجتماعية يتعزز بالتعددية، وإعلاء قيم التسامح والسلم واللاعنف والتضامن والمشترك الإنساني في إطار الوحدة، والعلاقة التصالحية بين الدولة والمواطن والمجتمع.

ومن جهته أشار أستاذ الفلسفة الحديثة د. الطاهر بن قيزة من تونس إلى صعوبات تتعلق بتطبيق فكرة إدارة التنوع والتعددية في بعض المجتمعات العربية، نظراً لعدم وجود دراسات سيسيولوجية كافية تؤدي إلى معرفة خصوصية المجتمعات والفوارق بين مكوناتها، وقال: إن الفقر المعرفي النظري يؤدي إلى سوء فهم عام.

وأوضح أن دولة الوحدة تعني أنها رابطة أفقية وليست عمودية، غير أن دورها يعد أساسياً في النظام الديمقراطي من حيث حفظ الأمن وحماية حرية التعبير والتفكير والضمير؛ مبيناً أن لكل ملة أو طائفة أو مكون في المجتمع سردية خاصة به، ومهمة الدولة أن توجد رابطاً بين هذه السرديات في إطار سردية عامة متناغمة.

ضرورة معرفية
وبيّن الباحث د. ياسين اليحياوي من مركز الدراسات الإسلامية بجامعة مونستر في ألمانيا، الضرورة المعرفية للتعددية، وقال: إن البحث في مفهوم التعددية يعد عملاً حديثاً لا يتجاوز عمره أربعة عقود وزاد الاهتمام به مع تسارع وتيرة العولمة؛ مشيراً إلى أن التعددية هي نتاج النظام العادل والديمقراطي في المجتمع.

وأضاف د. اليحياوي أن من معوقات التعددية أزمة فقدان الثقة في المجتمعات، ذلك أن فرض هذه التعددية من السلطة يؤدي إلى ذلك، لأن تأسيس المجتمع التعددي يأتي نتيجة المجتمع ولا يفرض عليه؛ موضحاً أهمية البعد التأويلي السليم للنص الديني في إيجاد أفق جديد للتفكير في التعددية ببعديها الديني والدنيوي.

وقالت د. فاطمة جعفر رئيسة منتدى التنوع الثقافي في الأردن: إن الفرد بحد ذاته متعدد الانتماءات، فله انتماء ديني وسياسي وطبقي وقبلي وجنسي، وهذه الانتماءات تتجاذب داخل الفرد لتشكل هوية واحدة، وتصبح هذه الهوية سلبية عندما يصبح أحد الانتماءات مهدداً بخطر ما. وبهذا المعنى يختلف الأفراد عن بعضهم بعضاً.

لكن الدولة القوية التي لا تسمح بتفشي الصراع بين المكونات الاجتماعية هي دولة القانون القائمة على ترسيخ العدالة والمساواة، مما يشعر الفرد بانتماء عام لهذه الدولة.

وأشارت د. فاطمة إلى الحالة الأردنية في التنوع ودور الدولة القوي في إرساء السلم والوئام وحماية العيش المشترك بين المكونات الاجتماعية، ودعت إلى مزيد من الحوار لتعزيز المشاركة في إطار الهوية الوطنية الجامعة.

أوضاع المشرق العربي
وتناول المطران قيس صادق المساعد البطريركي الأنطاكي في مداخلته، تطورات الأوضاع في المشرق العربي منذ الثورة العربية الكبرى التي كانت تعبر عن هواجس الأمة العربية في التحرر والوحدة والاستقلال . غير أنه تعددت الحركات التحررية والقومية والدينية والأنظمة عسكرية، وحدث التمزق الذي أوجد المعاناة نتيجة الخلافات وتدخلات المستعمر الأجنبي لتشتيت وحدة الأمة.

وأشار المطران قيس صادق إلى أهمية التنشئة البيتية والمدرسية والأكاديمية على أسس التعددية والوحدة واحترام الآخر في دولة القانون، وضرورة إيجاد الآلية التي تعزز كل ذلك ولا سيما أمام ما يشهده العالم خاصة في الغرب من حركات تغيير وهدم في القيم التربوية الأخلاقية؛ موضحاً أن الدليل التربوي العالمي الذي شارك في وضعه ممثلون عن تسع ديانات في العالم يسعى إلى برنامج لتعزيز القيم الأخلاقية والروحية من منظور متعدد الأديان .

التعددية نعمة
وقال د. حنا الحاج أستاذ علم الاجتماع السياسي في الجامعة اللبنانية: إن التعددية نعمة وليست نقمة، وهي ليست فعلاً بشرياً بل هي إبداع للخالق في خلقه، لكن سوء إدارة التعددية نتاج بشري وفعل غرائزي جراء حب الغلبة والتسلط الذي يؤدي إلى الابتعاد عن الإنسانية، في الوقت الذي لا يمكن التخلص من الآخر المختلف، وإنما السعادة هي في وحدة البشر.

وأضاف د. الحاج أن الأخطار التي تهدد التعددية تنبع من العدائية والكره والتصادم، ومن هنا تبنى مركز تموز للدراسات في لبنان أهداف التكوين على المواطنية التي توسع مساحة السلم وقبول الآخر داخل المجتمع ودولة الحق؛ داعياً إلى الاهتمام بإدارة التعددية والتنوع في إطار مفهوم "مواطنون لا رعايا" وصدق النوايا لدى من بيدهم الأمور.

واعتبرت الباحثة في فلسفة السياسة والقانون حنان البوعمري من المغرب أن د. صعب أعطى أبعاداً جديدة لفكرة "وحدة في التنوع" من خلال دراساته المتضمنة في خماسيته "فلسفة الدين"، من أجل إصلاح اجتماعي وسياسي على الصعيد العربي؛ مشيرةً إلى السؤال المحوري لكل فلسفة سياسية يتمحور حول أي وحدة لأي تنوع؟ وهو سؤال من المناسب أن يدور البحث بشأن انطباقه على العالم العربي.