إيلاف من لندن: ناقش مفكرون ومثقفون عرب إشكاليات النهضة وتجديد الفكر في ندوة رعاها منتدى الفكر العربي في عمّان، مع مؤشرات بأن هناك محاولات جادة لمفكري النهضة في تأسيس الرؤية العربية المعاصرة.
وأكدت المداخلات أن النهضة تعتمد على الحرية والإبداع والبحث والابتكار واحترام القيم، مع ضرورة إدامة الحوار الفكري لتجنب المزيد من صراعات الفُرقة والتشرذم.

وعقد منتدى الفكر العربي، يوم الأربعاء الماضي، لقاءً حوارياً عبر تقنية الاتصال المرئي شارك فيه عدد من المثقفين والأكاديميين من لبنان والأردن وليبيا، وألقى المفكر والناقد د. أمين ألبرت الريحاني الرئيس السابق لمؤسسة الفكر اللبناني والنائب السابق لرئيس جامعة سيدة اللويزة للشؤون الأكاديمية، محاضرة بعنوان "النهضة العربية الثانية من المدينة العُظمى إلى تاريخية الفكر".

مشاركون
وشارك في اللقاء، الذي أداره الأمين العام للمنتدى د. محمد أبوحمّور، كل من : د. عدنان بدران رئيس الوزراء الأسبق والمستشار الأعلى لجامعة البترا ومجلس أمنائها عضو المنتدى، و د. فايز خصاونة الوزير الأسبق ورئيس مجلس أمناء جامعة اليرموك سابقاً عضو المنتدى، ود. منذر حدادين الوزير الأسبق والأكاديمي، والمفكر اللبناني د. أديب صعب، والأستاذة في كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالجامعة اللبنانية الكاتبة د. سوسن الأبطح، والكاتبة الليبية المقيمة في هولندا رزان المغربي، والكاتبة والباحثة في العلوم السياسية من الأردن د. نادية سعد الدين.

مفكرو النهضة الرواد
تناول المحاضر د. أمين ألبرت الريحاني ما شهده القرن العشرون من إسهامات مفكري النهضة الرواد ومحاولاتهم الجادة لتأسيس الرؤية العربية المعاصرة والمستقبلية، مشيراً إلى أهم ما تبلور من فلسفة وأفكار اللبناني المهجري أمين فارس الريحاني وعدد من المفكرين العرب حتى نهاية القرن العشرين حول شروط النهضة وإشكالياتها ومناهج تجديد الفكر وتطويره .
وتناول المشاركون في المداخلات من جانبهم ضرورة إدامة الحوار الفكري لتجنب المزيد من صراعات الفُرقة والتشرذم وتحقيق الاستقرار والتطور للمجتمعات العربية، وتحليل العوامل المؤدية إلى النهضة من حيث الاعتماد على الحرية والإبداع والبحث والابتكار واحترام القيم، وأكد بعضهم أن نهضة الأجزاء دون نهضة الكل لا تؤدي إلى المستقبل المنشود، وأن التحـول يجـب أن يكـون تدريجياً بتطوير الفكـر ومفاهيـم المجتمـع، مع فهم رسالة الدين الجوهرية في سياق تطور المجتمع والتفاعل مع مفاهيمه، ولفتوا إلى ضرورة الاهتمام بالجانب التنويري والموضوعي والروحي لفكر النهضويين، ودور مؤسسات الثقافة والفكر في تبني الفكر التنويري لحل مشكلة عدم تطبيق مفاهيم النهضة وافتقاد الآليات لذلك، وكذلك متابعة النهضة العربية عبر تجليات الدولة الحديثة والرؤى الإصلاحية التي تعالج إشكاليات الهوية والعولمة.

النهضة الثانية
وتناول د. أمين ألبرت الريحاني ما شهده القرن العشرون من محاولات جادة في تأسيس الرؤية العربية المعاصرة، منذ أطلق أمين فارس الريحاني (1876-1940) فكرة التساهل الديني في محاضرة له في نيويورك عام 1900، كأساس لتصور المستقبل العربي ومستقبل الشعوب التائقة إلى التحرر والاستقلال الفكري عن كل المعوقات التي تؤخر سنّة التطور، وتحدّ من إمكانيّات النهوض الفكري الذي يمكن أن يُطلق عليه النهضة العربية الثانية.

وتناول تمثُّل فكرة التساهل الديني بوصفها شعلة للروح الوطنية في الدولة المدنية كما تمثلت في عدد من آثار الريحاني الكبير الأدبية والفكرية باللغتين العربية والإنجليزية ومنها كتابه "الريحانيات" وكتاب "خالد".
وأضاف أن الريحاني القادم من المهجر الأميركي ونتيجة رحلته العربية التي سجلها في كتابه "ملوك العرب" كان يدعو إلى تأسيس دولة الولايات العربية المتحدة.

وأشار د. الريحاني إلى ما عبر عنه مفكر وناقد يساري من لبنان هو عمر فاخوري الذي كان يرى أن السياسة هي "فعل توثيق الروابط بين جميع المواطنين"، وفق كتابه "الحقيقة اللبنانيّة"، وكان عمر قد بحث أيضاً في سُبل نهضة العرب في كتابه "كيف ينهض العرب".
وأشار د. الريحاني أيضاً إلى نتاج المفكر محمد أركون كامتداد حديث في نهاية القرن العشرين لما فعله الريحاني في مطلع القرن نفسه، إذ أدرك الاثنان أهمية نقد الفكر والدعوة إلى إعادة فهم الدين فهماً معاصراً متفتحاً للتمكن من بناء فكر سياسيّ معاصر.

ادامة الحوار
وقال الأمين العام للمنتدى د. محمد أبوحمّور في كلمته التقديمية: إن هذا اللقاء يأتي في سياق إدامة الحوار الفكري بين المثقفين والفلاسفة على اختلاف أطيافهم، إسهاماً في بناء رؤية نهضوية جامعة، وتجنب المزيد من صراعات الفُرقة والتشرذم بسبب تحييد الفكر عن دوره في تعزيز التماسك المجتمعي.

وأوضح د. أبوحمور أن الاختلالات التي عانتها المجتمعات العربية كانت اختلالات أساسية في الهياكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، عدا التشوهات الثقافية نتيجة التسييس أو الاستقطاب الإيديولوجي، مما أدى إلى القصور التنموي، وأوجد ثغرات ضعف تسللت منها أجندات الأطماع الخارجية لتحقيق أهدافها، كما جاء انهيار التماسك الاجتماعي نتيجة ضعف المشاركة في القرار التنموي.

حرية التعبير
وقال د.عدنان بدران في مداخلته: إن أمين الريحاني الأول الذي أقام في نيويورك بعد هجرته إلى أميركا في مطلع القرن العشرين، وجد تلك البلاد قد اعتمدت في انطلاقتها على الحرية والإبداع والبحث والابتكار، واستقت نهضتها من حرية التعبير في أوروبا التي انطلقت منها الحركة التنويرية والثورة الفرنسية بعد نهاية الصراع بين الكنيسة والدولة . وأشار إلى أن مفهوم الدولة المدنية لا يلغي المحافظة على قدسية الدين واحترام العبادات والقيم الإيمانية والأخلاقية والجوانب الاجتماعية المتعلقة به، بل يحافظ عليها بعيداً عن السياسة.
وأوضح د. فايز الخصاونة حاجة النهضة العربية الجديدة لخطط استراتيجية تتفق عليها الأمة العربية قولاً وفعلاً، وترتكز هذه الخطط وطنياً على الدولة المدنية، والمواطنة التي تنبذ التمييز بين المواطنين على أساس الدين أو المذهب أو الجندر أو غيرها، إضافة إلى الارتكاز على الديمقراطية، داعياً إلى التوافق على هذه المرتكزات وتغليب المصلحة القومية، مشيراً إلى أن نهضة الأجزاء دون نهضة الكل لا تؤدي إلى المستقبل المنشود.

حركة مستمرة
ومن جهته رأى د. منذر حدادين أن النهضة العربية هي حركة واحدة مستمرة لمجهودات المفكرين العرب سواء كانت فلسفية أم سياسية أم غير ذلك، منذ القرن التاسع عشر وحتى القرن العشرين، وأن التحول يحتاج إلى دعائم من الإصلاح الفكري والثورة الصناعية، في الوقت الذي ما تزال فيه مجتمعاتنا تعتمد استهلاكياً على إنتاج الغرب والشرق، فيما ينبغي أن يكون التحول تدريجياً من خلال تطوير المجتمع والفكر.

وبيّن د. أديب صعب، أنه لا بد من فهم مقولات الدين وفق منهجية وضع التفاصيل في ضوء الكل أي رسالة الدين الجوهرية؛ مشيراً إلى نظامين معرفيين لهذا النوع من التفكير وهما فلسفة الدين وعلم الكلام الجديد، مما يعد ضرورياً لإعداد المجتمع من أجل التفاعل مع المفاهيم والدعاوى الفلسفية والاجتماعية، إضافة إلى تعليم الدين نفسه.

التسامح الديني
وقالت الأكاديمية والكاتبة اللبنانية د. سوسن الأبطح: إننا وبعد أكثر من مئة سنة من النهضة العربية بمختلف طروحاتها وأفكارها مثل التسامح الديني، إلا أننا لم نتمكن من الترويج للجانب التنويري والموضوعي والروحاني لفكر الفلاسفة والكُتّاب النهضويين، بل كان هناك أحياناً ما يروج لصورتهم كجاحدين على الرغم من دفاعهم عن الإيمان، مما نفّر العامة من فكرهم الذي اشتمل بعضه على الدولة المدنية، وبالتالي لا يطرأ أي تغيير على الفكر.

ورأت الكاتبة والأديبة الليبية رزان المغربي أن تاريخنا يمتلئ بالسرديات التنويرية التي لم تشهد تجلياً في الواقع لعدم وجود آليات لتطبيق وتنفيذ لهذه الرؤى مما أدى إلى الانغلاق، ومن ثم ينبغي على مؤسسات الثقافة والفكر أن تتبنى الفكر التنويري من أجل التقدم في حل هذه المشكلة.

وبيّنت الكاتبة والباحثة في العلوم السياسية د. نادية سعد الدين أن النهضة العربية الثانية لا تزال تواجه العديد من الإشكاليات والمعوقات بسبب ضبابية بعض المشاريع الإصلاحية وتيه الفكرالعربي بين الطروحات السياسية والدينية، إضافة إلى المعوقات الاجتماعية وتلك المتعلقة بالديمقراطية والحريات والعدالة والمساواة. وقد نجمت عن هذه المعوقات تأخر النهضة العربية التي ينبغي أن تُتابع الآن من داخل تجليات الدولة العربية الحديثة، وعبر رؤى إصلاحية تعالج الإشكاليات المتعلقة بالهوية والعولمة.