ثمة أسئلة كثيرة مطروحة أمام الإدارة الأميركية الجديدة، خصوصًا بشأن العوامل التي أوصلت جو بايدن إلى البيت الأبيض، والمأثرون في سياسة الرئيس الجديد. فأي إجابات متاحة اليوم؟

إيلاف: مما لا شك فيه أن الرئيس الأميركي المنتخب جو بايدن رجل محظوظ، وكذلك حزبه الديمقراطي. كان محظوظًا ليس فقط لأنَّ المؤسسات الدستورية حسمت فوزه وسمَّته رئيسًا شرعيًا من قبل مجلسي الكونغرس يوم السادس من يناير الجاري، بل لأنه حقق غالبية في مجلس الشيوخ بانتخاب عضوين جديدين عن ولاية جورجيا للمرة الاولى منذ عشرات السنين.

كانت ولاية سلفه دونالد ترمب مرحلة مضطربة ومتخبطة بالأزمات، خصوصًا في العام الماضي 2020 الذي شهد تفاقم جائحة كورونا التي أصابت الملايين من الأميركيين، وقتلت مئات الآلاف منهم، كما شهدت أعمال عنف عنصرية، إضافة إلى أزمة اقتصادية متفاقمة وانقسامات سياسية حادة، لم تشهد الولايات المتحدة مثيلًا لها منذ عام 1800.

لذلك، يمكن القول إنَّ من جملة الحظوظ المصادفة للانتخابات الرئاسية إنتاج لقاح مضاد لفيروس كورونا القاتل في وقت قياسي في يوم الرابع عشر من ديسمبر 2020، فشكَّل ذلك مفصلًا محوريًا للبشرية قاطبة، وهو إنجاز علميٌّ وإنسانيٌّ عظيم.

عندما يجلس بايدن على مقعد الرئاسة في البيت الأبيض، يكون الرئيس الكاثوليكي الثاني الذي جلس على ذلك المقعد بعد الرئيس جون كنيدي في مطلع ستينيات القرن الماضي. فما الخريطة الانتخابية التي أوصلته إلى هناك؟ أو بكلام آخر، من هم الذين أوصلوه؟

هؤلاء أوصلوه

يأتي في المقام الأول الأميركيون من أصول إفريقية، خصوصًا النساء منهم. ثانيًا، الأصوات الكاثوليكية الذين نال منهم بايدن ما نسبته 55 في المئة (مقابل 45 في المئة من الكاثوليك الذين صوتوا لهيلاري كلينتون في انتخابات عام 2016).

كذلك، حصل على دعم يهودي ملحوظ، إضافة إلى أصوات الأميركيين الأصليين (الهنود الحمر)، والأميركيين الآسيويين، وأصوات الناخبين اللاتين، خصوصًا الذين يُعتبرون في عداد الطبقات الوسطى ـالدنيا. وبذلك، يكون بايدن قد حصل على ما مجموعه 14.15 مليون صوت زيادة عما حصلت عليه هيلاري كلينتون في عام 2016.

في المقابل، حصل منافسه ترمب على غالبية أصوات البيض من غير الجامعيين، وأصوات الإنجيليين، وأصوات الأميركيين الكوبيين الميسورين، واليهود الأميركيين المنحازين إلى تجمُّع الليكود الإسرائيلي، وهذا ما أسعفه في الفوز بولايتي فلوريدا وأوهايو.

وهكذا، فاز بايدن بما مجموعه 81 مليون صوت، وهذا رقم قياسي في التاريخ الأميركي منذ تأسيس الجمهورية بعد الاستقلال في أواخر القرن الثامن عشر.

دور أساس

أما الرجل الذي لعب الدور الأساس في وصول بايدن إلى ترشيح الحزب الديموقراطي له للرئاسة، وجعله مرشَّحًا قابلًا للفوز فهو رجل الكونغرس جايمس كلايبورن، الأعلى مرتبة بين النواب السود في مجلس النواب، وثالث أقدم نائب فيه.

المعروف أن بايدن في أول انتخابات محلية تمهيدية في ولاية أيوا حلّ في المرتبة الرابعة بين باقي مرشحي حزبه، ثم في الانتخاب التمهيدي لولاية نيو هامبشاير رفضته تلك الولاية بحلوله في المرتبة الخامسة، بحيث كاد يفقد حظَّه في الترشح للرئاسة، لكن ظروفه تحسَّنت بعض الشيء عندما حلَّ ثانيًا في ولاية نيفادا.

بعد تلك الهزائم الثلاث، ظنّ كثيرون أنه فقد حظوظه إلى أن تدخَّل كلايبورن بإعلان دعمه له في أهم انتخاب تمهيدي في ولاية كارولينا الجنوبية حيث فاز بايدن بنسبة 48 في المئة من الأصوات، بينما منافسه المرجح ومتقدِّمه في سباق الترشيح برني ساندرز لم ينل سوى 19 في المئة في تلك الولاية. نصره هذا في كارولينا الجنوبية دفعه إلى الصدارة لنيل ترشيح الحزب الديموقراطي له.

أي رئيس؟

السؤال الذي يُسأل الآن: أي رئيس سيكون بايدن، وأي رئاسة ستكون رئاسته؟

يقول عارفوه إنه سيكون رئيسًا واضحًا. مواقفه ليست محفوفة بالغوامض. صفحة مقروءة. وربما الأهم من ذلك أنه يفهم السياسة الخارجية ويتقنها. فهو متمرس بالحياة التشريعية لكونه قضى 45 سنة من حياته عضوًا في مجلس الشيوخ، وثماني سنوات في دائرة القرار الأعلى كنائب للرئيس الأسبق باراك أوباما.

وعلى امتداد نصف قرن من العمل السياسي في واشنطن تسنَّى له أن يتعرَّف على كل صحافي أو إعلامي مرَّ في واشنطن، كما عرف عن قرب كلَّ عضو جلس في مجلس الشيوخ من كلا الحزبين الجمهوري والديموقراطي. وهذا بحد ذاته يعطيه امتيازًا وأرجحية على أي رئيس آخر من حيث التعاطي مع وسائل الإعلام ومع أقرانه السياسيين.

وتدلُّ التعيينات التي أجراها حتى الآن أنه كسر الكثير من الحواجز السائدة بتعيينه أول امرأة وزيرة للخزانة (المالية)، وأول شخص من أصول إفريقية يقود وزارة الدفاع، وأول شخص من الأميركيين الأصليين (الهنود الحمر) وزيرًا للداخلية، وأول شخص من المثليين وزيرًا للنقل.

لكن قد يكون تعيين وليام بيرنز مديرًا لوكالة الاستخبارات الاميركية (سي.آي.إي) أمرًا بالغ الاهمية، فهو له اتصال مباشر مع بايدن وقريب منه، تمامًا كحال جايك سوليفان. فالاثنان قريبان من الرئيس، وهذا سوف يعطي بيرنز مجالًا واسعًا للوصول إلى كل فريق السياسة الخارجية، والأهم من ذلك كله أن بيرنز يعرف الشرق الأوسط اكثر من أي شخص آخر في الإدارة الجديدة.

من يؤثر في الرئيس؟

السؤال الآخر الذي يُسأل هو: من هم المستشارون الذين سوف يتأثر بهم بايدن أو يأخذ بمشورتهم؟

لا شك في أنه سوف يتأثر بنائبته كمالا هاريس (وهي مزيج من أصلين، أسود وهندي). وسوف يكون هناك تأثير كبير من وراء الستار للرئيس الأسبق باراك أوباما الذي لعب دورًا أساسيًا في الفوز الباهر الذي حقَّقه بايدن.

كذلك، سيصغي بايدن إلى مستشاريه السياسيين مثل طوني بلينكين (وزير الخارجية)، وجايك سوليفان (مستشار الأمن القومي)، وجون كيري (وزير الخارجية الأسبق والمكلَّف الآن بمتابعة شؤون التغيُّر المناخي والبيئة).

من الأدوار البارزة المتوقعة ما ستلعبه سوزان رايس، مستشارة الأمن القومي في إدارة الرئيس أوباما، وأيضًا المحامية آفريل هاينز المعينة مديرًا للاستخبارات المركزية (شغلت سابقًا منصب نائب مستشار الأمن القومي). كما ستكون هناك كلمة مسموعة لكل من وزير الدفاع ومدير الأمن الداخلي.

وربما كان سوليفان هو الذي سيجسِّد التفكير الجديد في الإدارة المقبلة، نظرًا إلى كونه يملك فكرًا رفيعًا، والكثير من التجربة والخبرة، كما يملك مزاجًا سمحًا من التعقُّل والسكينة في واحدة من أصعب وأقسى الوظائف في العالم. فهو الذي قاد المحادثات التي أسفرت عن وقف إطلاق النار في قطاع غزَّة عام 2012، وقاد أيضًا الافتتاح السرِّي للمفاوضات مع إيران وصولًا إلى الاتفاق النووي معها عام 2015، الاتفاق الذي ألغاه الرئيس ترمب من طرف واحد بعد نحو سنتين من توقيعه.

مؤشرات مهمة

السؤال الأهم الذي يتوق كثيرون في العالم لمعرفة اتجاهاته، يتعلق بالسياسة الدفاعية والسياسة الخارجية، وبالنسبة إلى الأميركيين الأوضاع الداخلية في بلادهم، وخصوصًا الأوضاع الاقتصادية والصحية.

في ذلك يمكن استقراء بعض المؤشرات:

أولًا- في السياسة الدفاعية:

أول مؤشِّر لقراءة التوجهات العسكرية والدفاعية للإدارة الجديدة هو تعيين الجنرال لويد جي أوستن وزيرًا للدفاع، وقد حرص بايدن على إسناد هذه الوزارة إلى ضابط كبير من أصول إفريقية لإعطاء إشارات مطمئنة، لا سيما أنه أول وزير أسود يقود وزارة الدفاع (البنتاغون). فهو ملم في العمق إلمامًا ممتازًا بمشكلات خارجية عويصة تمتد امتدادًا واسعًا من أفغانستان وباكستان إلى العراق، وإيران، واليمن، وليبيا، وسوريا، وانتهاءً بالقضية الفلسطينية.

ثانيًا - في السياسة الخارجية:

أول ما سيحظى باهتمام بايدن في السياسة الخارجية التركيز على إعادة بناء حلف شمال الأطلسي (ناتو)، وهو الحلف الذي زعزعه ترمب. ويأتي في المرتبة الثانية من الأولويات الخارجية التحدي الصيني. وتأتي في المرتبة الثالثة محاولة تقوية العلاقات الأميركية مع الهند، واليابان، وكوريا الجنوبية، وتايوان.

يأتي بعد ذلك معالجة التحدي الروسي إلى جانب قضايا إيران، والعراق، وأفغانستان، وسوريا، واليمن، ودول الخليج. وفي معالجة تلك التحديات، سيلعب جون كيري دورًا بارزًا باعتباره الأوسع خبرة في تلك المسائل الإقليمية في الشرق الأوسط، وقد تعاطى معها سابقًا خلال الديبلوماسية التي قادها في عهد أوباما، ويعرف قادة تلك البلدان معرفة شخصية. ولذا فإن كيري وأوباما وسوزان رايس، سوف يلعبون دورًا حاسمًا وراء الستار في معالجة المسائل المذكورة.

مما لا شك فيه أن القضية الفلسطينية سوف تكون مرئية على شاشة رادار بايدن، مع العلم أنه كان دائمًا متعاطفًا مع إسرائيل. لكن على الرغم من علاقته الطويلة مع إسرائيل فإنه يعلن تأييده لحل الدولتين. فهو، خلافًا لسلفه ترمب الذي سعى إلى فرض استسلام مقنَّع على الفلسطينيين، يشعر بأنه من المستحيل تحقيق سلام دائم من دون قيام دولة فلسطينية قابلة للحياة.

ثالثًا - في المسائل الداخلية:

إضافة إلى العقبات الكأداء والمعقَّدة في السياسة الخارجية، ورث بايدن بلدًا تنخره الأزمات الاقتصادية والصحية. والأولويات الثلاث التي سيوليها اهتمامه فور جلوسه على كرسي الرئاسة هي:

- محاولة رأب الصدع والانقسام في السياسة الأميركية الداخلية.

- محاولة السيطرة على وباء كورونا الذي ذهب ضحيته ملايين الناس حول العالم وبينهم أكثر من 350 ألف أميركي.

- محاولة إنعاش الوضع الاقتصادي وخلق فرص عمل للذين يتلقون مساعدات مالية من الدولة الاتحادية وعددهم نحو 21 مليون شخص.

أمام بايدن 18 شهرًا لمعالجة هذه التحديات الداخلية الصعبة قبل حلول موعد انتخابات الكونغرس في نوفمبر 2022.

في الختام، يمكن القول إن انتخاب بايدن لم يكن فقط فوزًا لشخصه، بل هو انتصار للانتخابات الرئاسية، وللمؤسسات الدستورية، والمسلكيات المهنية، على الرغم مما أحدثته تصرفات الرئيس ترمب من فرقة بين الأميركيين، وما أسفر عنه ذلك من فوضى… على الرغم من سوء سلوك الرئيس السابق.


تنشر "ايلاف" هذه المقالة بالاتفاق مع "الديبلوماسي"، وهذا تقرير عن الشرق الاوسط يُصدره شهريًا من لندن الصحافي اللبناني ريمون عطاالله، ويتوافر بالاشتراك (المجلد ١٣ - العدد ١٥٢ - يناير ٢٠٢١).