باريس: بعد ثلاث سنوات على طرد عدد كبير من الدبلوماسيين الروس من العواصم الغربية على خلفية الاتهامات بتسميم العميل السابق سيرغي سكريبال، عاد ممثلو موسكو في أوروبا إلى دائرة الضوء بعد سلسلة من فضائح التجسس الجديدة.

فمن النمسا إلى بلغاريا وتشيكيا وهولندا والنروج والسويد، تم طرد دبلوماسيين روس من عدة دول أوروبية في الأشهر القليلة الماضية بسبب أساليب التجسس العدوانية والجديدة لروسيا.

وبلغت القضية مستوى مرتفعاً من الحدّة بسبب الهجمات الإلكترونية المزعومة من قبل روسيا على الولايات المتحدة. ورغم أنّ موسكو نفت الاتهامات وقالت إنّها تفتقر إلى الأساس، فإنّ الاتحاد الأوروبي أصدر بيان تضامن حازمًا.

وكانت إيطاليا آخر دولة ترحّل ممثلين عن روسيا، في قرار اتخذته في وقت سابق من هذا الشهر بعد توقيف قبطان في البحرية ينقل وثائق سريّة إلى وكيل روسي.

وبينما تدرِج روسيا مزاعم التجسس ضمن ما تعتقد أنّها "حملة مناهضة" لها بقيادة الولايات المتحدة أو بريطانيا، يقول محللون إن النشاط الروسي السرّي في أوروبا بلغ ذروة جديدة في مرحلة ما بعد الحرب الباردة.

يعتبر مارك غاليوتي، الأستاذ في "كوليدج لندن" والمتخصص في الشؤون الروسية، أنّ عام 2014 كان بمثابة نقطة تحوّل على إثر انتفاضة في أوكرانيا أطاحت بحكومة موالية لموسكو التي قرأت المشهد على أنّه مؤامرة غربية.

وقال لفرانس برس إنّ "أجهزة الاستخبارات الروسية تعمل حالياً طبقا لعقلية زمن الحرب. إنّهم يعتقدون أنّهم وسط صراع وجودي على مكانة روسيا في العالم".

ويوافقه الرأي أندريه سولداتوف، رئيس تحرير موقع Agentura.ru الروسي الإخباري.

وقال إنّ "روسيا تعتقد أنّ أدنى إجراء من جانب الغرب على غرار انتقاد انتهاكات حقوق الإنسان أو عمل الصحافيين الأجانب، يمكن أن يندرج في مسار إشعال انتفاضة".

وتبدو روسيا قد مزّقت كتيّبها لمرحلة ما بعد الحرب الباردة في الوقت الذي تكافح فيه للحفاظ على مكانتها كقوة عظمى.

واتُهم اثنان من عناصر المخابرات العسكرية الروسية بتسميم العميل الروسي المزدوج السابق سكريبال الذي تمّ العثور عليه في آذار/مارس 2018 ملقى على مقعد مع ابنته في مدينة سالزبري البريطانية.

وبعد عام، قتِل قائد سابق للمتمردين الشيشان في وضح النهار في حديقة في برلين، في اعتداء يعتقد المدعّون الألمان أن روسيا أمرت به.

كما تتهم العواصم الغربية روسيا بتسميم المعارض البارز اليكسي نافالني بغاز أعصاب. وفور عودته إلى موسكو، سجن نافالني الذي نجا بعدما أمضى خمسة أشهر في مشفى ألماني.

أثارت تلك الاعتداءات المتصفة بقسوتها صدمة واسعة النطاق، بيد أنّ محللين يلفتون إلى أنّ بعض العمليات لم تحقق أهدافها وأنّ عدداً من العملاء الروس كشِفوا.

ونجا كلّ من سكريبال ونافالني ولكنّ امرأة بريطانية توفيت بعدما التقطت زجاجة عطر يعتقد أنها تحمل السم المستخدم ضد سكريبال، كما تعرّض شرطي بريطاني لإصابات بالغة.

ويقول موقع بلينغكات Bellingcat الاستقصائي إنّه نجح في تحديد عملاء روس من خلال اكتشاف نماذج خاصة بإنشاء بطاقات وهمية للمخابرات العسكرية ووكالة الأمن الروسيتين.

وألقى سولداتوف باللوم على الفساد وعمليات التطهير المتكررة في الأجهزة الأمنية، في خلق ثقافة "جواسيس مطيعين لكن غير أكفاء".

غير أنّ ثمة خبراء يرجّحون تعمّد روسيا الطابع الواضح لعملياتها في الخارج.

ويرى داميان فان بويفيلدي، المحاضر في الأمن الدولي في جامعة غلاسكو، أنّه "عندما تستخدم غاز أعصاب مثل نوفيتشوك لقتل شخص ما، فهذا يعني أنك تريد أن يُعرف".

وأشار مركز صوفان، وهو مركز أبحاث أميركي يولي أهمية كبرى للشؤون الأمنية، في تقرير إلى أنّ نوفيتشوك كان يشكّل أسلوباً "مرهقاً" تلجأ إليه أجهزة الأمن الروسية.

وأضاف أن استعداد روسيا للتسبب "بوفاة بطيئة ومؤلمة" بغاز الأعصاب "يهدف إلى بعث رسالة واضحة للآخرين الذين يجرؤون على التفكير في تحدي (الرئيس فلاديمير) بوتين وقبضته على السلطة".

وفي ظلّ النزعة الروسية المتزايدة، تبدو الحكومات الأوروبية نفسها مجاهرة أكثر من المعتاد.

فعلى سبيل المثال، سبق لصحيفة "لوموند" الفرنسية اليومية أن نقلت في عام 2019 عن مسؤولين رفيعين في الاستخبارات الوطنية أنّ 15 من عملاء المخابرات الروسية، بما في ذلك الرجلان المشتبه بهما في تسميم سكريبال، استخدموا جبال الألب كقاعدة خلفية للعمليات في أوروبا لمدة أربع سنوات.

وقال مسؤول فرنسي رفيع طلب عدم الكشف عن اسمه، "في بعض الأحيان نقرر الكشف عن عملياتنا لمكافحة التجسس".

"موقفنا هو أن نظهر بوضوح أننا لن نتسامح بعد الآن تلك الأعمال".