إيلاف من بيروت: يحضر نادل المقهى في منطقة النويري في بيروت مساءً، سراجاً مضاءً على الكاز إلى زبائنه، ويثبته أمام كراسيهم، ويعتذر منهم قائلا: «لقد أعادونا إلى العصر الحجري حرفياً. ومن لم يعش ذلك العصر، يختبره الآن».

سخرية النادل، لا تلغي واقعاً يختبره اللبنانيون الآن، وهو أن العاصمة بيروت، كما مناطق أخرى، تعيش في ظلام دامس، وذلك بفعل أزمة انقطاع الكهرباء الرسمية، والتقنين القاسي في شبكة الكهرباء الموازية (مولدات الاشتراك) التي وفرت بديلاً مقبولاً خلال السنوات العشر الماضية، إثر الفشل في التوصل إلى حل ينهي أزمة التقنين القاسي بفعل عجز محطات التوليد الرئيسية عن تأمين كفاية اللبنانيين بالتغذية الكهربائية، وبفعل الفشل في إصلاح محطات النقل، والاتفاق السياسي لتطوير معملين لإنتاج الكهرباء، وفقًا لتقرير نشرته صحيفة "الشرق الأوسط".

تفاقمت الأزمة أخيراً بسبب التأخير في تأمين الاعتمادات المصرفية الضرورية لاستيراد فيول يشغل معامل الإنتاج، فتوقف بعضها عن الإنتاج، ما تسبب في زيادة التقنين، الذي وصل إلى عشرين ساعة يومياً في بعض المناطق في الأسبوع الماضي.

هذا التقنين، تسبب في ضغط على الشبكة الموازية، التي لم تحتمل تأمين التغذية لساعات طويلة لأسباب تقنية متعلقة بالحمولة الزائدة في موسم الحر، وبسبب انقطاع المازوت (ديزل أويل) وارتفاع سعره، على ضوء الشح في المادة.

حاول اللبنانيون البحث عن بدائل. وزاد الطلب على مصابيح الـ«ليد» التي يتم تشريجها من الكهرباء، وتشغيلها في لحظة انقطاعها لتوفير الإنارة للغرف داخل العاصمة والمناطق. ومع ارتفاع ثمنها بالنسبة للعائلات الفقيرة، لجأ البعض إلى وسيلة اختفت منذ أكثر من 30 عاماً من بيوت اللبنانيين لمواجهة العتمة الشاملة، وهي سراج «الكاز»، أو «القنديل» الذي يشتعل فيه فتيل صغير داخل زجاجة، على مشتقات بترولية. مضت سنوات طويلة على اختفاء السراج من بيوت اللبنانيين، لكن أزمة الكهرباء، دفعتهم لإنزاله من المقتنيات «الأنتيك» وإعادة تشغيله.

يقول حسن (مالك متجر لبيع المقتنيات المنزلية) إن طالبي السراج أو إكسسواراته يتزايدون يومياً. ويتحدث بلهجة ساخرة عما وصلت إليه الحال، لكنه واقع لا مفر منه: «الناس غير قادرين على دفع 500 ألف ليرة شهرياً بدل اشتراك موتور (ما يعادل 335 دولاراً وفق سعر الصرف الرسمي، و70 في المائة من الحد الأدنى للأجور)، كما أن الناس غير قادرين على شراء مصابيح صغيرة تعمل على البطارية بـ250 ألفاً... الفقراء يبحثون عن بدائل في غياب أي أفق لحل أزمة الكهرباء».

ويحجم اللبنانيون عن شراء مواد غذائية تحتاج إلى التبريد، فيما اختار آخرون النزوح إلى القرى الجبلية بسبب العجز عن تأمين التبريد في ظل الحر في العاصمة والمدن الساحلية. وتتكرر الأزمة في شهري يوليو (تموز) وأغسطس (آب) من كل عام، على ضوء تزايد الحاجة للتغذية الكهربائية، حيث تشير التقديرات اللبنانية إلى أن أرقام الاستهلاك ترتفع بشكل قياسي عما تكون عليه في الربيع والخريف، بمعدل يتجاوز العشرين في المائة، بحسب "الشرق الأوسط".

ويعاني لبنان من أسوأ أزمة مرتبطة بالتغذية الكهربائية، حيث أدى التأخير في تزويد محطات الإنتاج بالوقود، نتيجة النقص في السيولة بالدولار الأميركي لدى الحكومة ومصرف لبنان، إلى توقف معامل الإنتاج، كما ازدادت الأزمة عندما توقفت المحطات العائمة المستأجرة من قبل الحكومة لتوليد الكهرباء عن الإنتاج في شهر مايو (أيار) الماضي، والتي كانت توفر 400 ميغاواط تقريباً يومياً. وانسحبت البواخر في الفترة الماضية، على ضوء نزاع مع السلطات اللبنانية التي لم تدفع مستحقاتها البالغة 150 مليون دولار خلال 14 شهراً، بسبب نزاع قضائي متصل بالفساد ودفع عمولة لدى توقيع العقود في العام 2013.

ويحتاج لبنان إلى 2.5 ميغاواط من التغذية الكهربائية، تتكفل شبكة الكهرباء الموازية (مولدات كهربائية) بنصفها تقريباً، فيما تتكفل معامل إنتاج الطاقة بتأمين النصف الآخر. ويشكل معملا دير عمار (الشمال) والزهراني (الجنوب) 55 في المائة من إجمالي الطاقة الكهربائية الإنتاجية في لبنان، أي ما يوازي 900 ميغاواط وحوالي 9 إلى 10 ساعات تغذية يومياً.

وأدى انخفاض مخزون الوقود إلى مستوياته الدنيا، إذ أشرف على النفاد، إلى تراجع في التغذية بالتيار الكهربائي بنحو 400 ميغاواط من إجمالي الطاقة المنتجة. وحاولت السلطات اللبنانية احتواء الأزمة، إذ أصدر رئيس الجمهورية ميشال عون، ورئيس مجلس الوزراء حسان دياب، موافقة استثنائية قبل أسبوعين لفتح اعتمادات مستندية لشراء المحروقات اللازمة لمؤسسة كهرباء لبنان، وذلك من خلال إعطاء سلفة خزينة للمؤسسة، استناداً إلى القانون الذي أقره مجلس النواب بإعطاء مؤسسة الكهرباء سلفة خزينة لشراء محروقات بحد أقصى قدره 300 مليار ليرة (200 مليون دولار على سعر الصرف الرسمي).

ويوفر مصرف لبنان المركزي العملة الصعبة لاستيراد المواد الأساسية، ومن ضمنها المحروقات لتشغيل معامل إنتاج الكهرباء، لكن التعثر المالي يؤخر دفع المستحقات بالعملة الصعبة، وهو ما يفاقم الأزمة. ويقتصر دور وزارة المال على إعطاء مؤسسة كهرباء لبنان كفالتها بفتح الاعتمادات المستندية لشراء المحروقات، من فيول وغاز أويل اللازمة للمؤسسة، وذلك بموجب القوانين التي تتيح لها بذلك.

حالت الخلافات السياسية منذ أربع سنوات دون تطبيق خطة الكهرباء ووقف استنزاف الموازنة المالية العامة للدولة، واحتياطي مصرف لبنان، كون لبنان يحتاج إلى معملي كهرباء، ينتج كل منهما 1000 ميغاواط، تضاف إلى الـ1600 ميغاواط من المعامل الموجودة لتأمين تغذية كهربائية لمدة 24 ساعة يومياً.

فالحكومات المتعاقبة لم تتوصل إلى تفاهم لتنفيذ خطة الكهرباء وإصلاح القطاع، بدءاً من تعيين الهيئات الناظمة، وهو مطلب المجتمع الدولي الذي يعتبر أن قطاع الكهرباء يستنزف الخزينة بملياري دولار سنوياً. وبلغت خسائر لبنان من قطاع الكهرباء أكثر من 40 مليار دولار، علماً بأن الاستنزاف السنوي (ملياري دولار) كان يعادل قبل الأزمة الاقتصادية نحو 30 في المائة من واردات الدولة السنوية.