إيلاف من لندن: دعا ولي العهد البريطاني الأمير تشارلز أمير ويلز إلى بناء اقتصاد عالمي يتبع مسارا واثقا ومستداما لإنقاذ الكوكب. وعلى هامش مشاركته في اجتماعين عالميين مهمين، هما قمة العشرين في رما وقمة العمل المناخي في غلاسكو، كتب الأمير البريطاني مقالات تلقت "إيلاف" نسخة منه.

وهذه هي المرة الأولى لأحد افراد العائلة الملكية البريطانية وعلى مستوى ولي عهد المشاركة في لقاءات عالمية مخصصة أساسا لرجال السياسة او الاقتصاد لبحث قضايا عالمية وأقليمية مختلف الأهداف والأجندات.

نص المقال

وفي الآتي نص مقال أمير ويلز:

من واجبنا، الآن، ترجمة الكلمات الجميلة إلى أفعال أفضل وأجمل لأجل كوكبنا

دُعيتُ هذا الأسبوع للحديث في اجتماعين عالميين مهميْن - قمة مجموعة العشرين في روما وقمة العمل المناخي 26 في اسكتلندا. وكانت رسالتي لكليهما هي نفسها. فما من قضية أهم وأكثر إلحاحاً من مستقبل صحة وسلامة كوكبنا وسكانه. ولا شكّ أن صحة كوكبنا اليوم هي ما يقرّر صحة وسعادة الأجيال القادمة وازدهارها الاقتصادي. وهذا هو قطعاً ما يجب أن نضعه نُصب أعيننا. ولطالما شعرتُ بأننا نتحمل مسؤولية عظمى تجاه تلك الأجيال التي لم تولد بعد.

ولحس الحظ، وبعد ما يقرب من خمسين سنة من محاولات التوعية بأزمة المناخ والبيئة المتفاقمة سوءاً، أشعر أخيرا بحدوث تغيّر في المواقف. حيث يبدو الآن أنه أصبح مقبولا على نطاق واسع ضرورة العمل العاجل والحقيقي على الأرض. لقد أمضيت قسماً كبيراً من السنوات الخمسين تلك أصغي إلى عدد كبير من الناس. وتعلمتُ من خبراء العالم الذين كرّسوا حياتهم لمعالجة تغير المناخ.

ولقد أصغيْتُ دائماً بانتباه شديد إلى زعماء العديد من الدول، ولا سيما دول الكومنولث التي تُعدّ مجتمعاتها من أكثر المجتمعات على وجه الأرض عُرضةً للتأثر بتغيّر المناخ، كما وجدت أنه من المستحيل أن نصمّ آذاننا عن سماع الأصوات اليائسة للشباب الذين يشعرون بالقلق على الدنيا التي سيرثونها من جيل الأوصياء المؤتمن حالياً على كوكبهم.

واستمعت أيضاً لقادة القطاع الخاص الذين يتوقون بشكل مطّرد إلى الاستثمار في مشاريع الابتكار والتقنيات الجديدة التي ستسهم في تحقيق النّقلة السريعة الضرورية إلى الاستدامة، وتضمن لنا جميعا كوكباً أنظف وأكثر أماناً وصحة. أما المفتاح فهو، في رأيي الشخصي، في يد مؤسسات القطاع الخاص. لكنني غير متأكد من أننا نصغي إليها بالقدر الكافي....

الأسواق المستدامة

قبل سنتيْن تقريباً أسست مبادرة الأسواق المستدامة، وازدهرت المبادرة وانضم إليها حتى الآن حوالي 300 من كبار المسؤولين التنفيذيين في العالم ومن كل قطاع من قطاعات الاقتصاد. وقد اكتشفتُ مدى تأثرهم وتفهمهم لرغبات عملائهم ومستثمريهم الذين بدأوا الآن يطالبون بتغييرات في الطريقة التي تعمل بها الشركات.

عملاؤهم بمثابة جماعة ضغط قوية. فالمستهلكون في نهاية المطاف مسؤولون عن أكثر من ستين بالمئة من إجمالي الناتج المحلي العالمي. ولنأخذ مثالاً واحداً فقط، أستوحيه من مؤتمر مجموعة العشرين الأخير الذي عُقد في روما، حيث انضم إليّ هناك أعضاءٌ بارزون من قطاع الأزياء الذين سيطلقون هوية رقمية جديدة للملابس لتوضيح كيفية تصميمها وتصنيعها وتوزيعها.

إنه مثال على الالتزام الذي تحرص الشركات على إظهاره؛ وهو النوع من الاستثمار الذي يمكنها هي فقط أن تعرضه. إنها تعتقد، كما أعتقد أنا، أن لعملائها الحق في معرفة أن ما يشترونه قد صُنع بشكل مستدام - ومن ثمّ ستكون خياراتهم مستقبلا على هذا الأساس.

لكن ما سبب أهمية هذا النوع من الاستثمار الخاص؟ إذا أردنا تحقيق الهدف الحيوي بألا يتجاوز ارتفاع درجة حرارة الأرض 1.5 درجة - وهو ما سوف ينقذ غاباتنا ومزارعنا ومحيطاتنا وحياتنا البرية – فإننا نحتاج إلى تريليونات من الدولارات من الاستثمار سنويا لإنشاء البنية التحتية الجديدة اللازمة لتحقيق الانتقال إلى الاستدامة. والحكومات وحدها لا تستطيع حشد هذا الكم من المبالغ. لكن بإمكان القطاع الخاص المساهمة في ذلك بالدخول في شراكة وثيقة مع الحكومات والمجتمع المدني.

دور الحكومات

إذاً ما الذي يجب أن يحدث حتى نجتاز الحواجز ونفتح أبواب هذه الفرص؟

أولاً، إن ما فهمته من شركات في جميع أنحاء العالم هو أنها بحاجة إلى إشارات واضحة من الحكومات حول الأسواق حتى تتمكن من التخطيط على المدى الطويل. من شأن هذا أن يعزز الثقة في المشاريع القائمة، ويجذب الاستثمار المؤسسي اللازم لمشروعات جديدة. ففي الوضع الراهن، لا نرى سوى القليل جداً من المشاريع الجاهزة للاستثمار نظراً لضعف الثقة في النظام. ولفعل ذلك، لا مناص من مواءمة خطط البلد والقطاعات والاستثمار. وفي هذا السياق، سيكون لبنوك التنمية متعددة الأطراف دورٌ حاسم في تهيئة البيئة التي تمكّن الاستثمار الداعم لمستقبل مستدام.

الشيء الثاني الذي تحتاج إليه هو تصحيح الاختلالات في الأطر المؤسسية والتنظيمية والقانونية. ويبدو أن تعديل الحوافز، وفرض تسعيرة مناسبة على الكربون، وإيجاد طرق مبتكرة ومتوافقة مع الاستدامة لمعالجة عبء الديون المتزايد، وكذلك تنفيذ البرامج القُطرية، كلها في الواقع أمورٌ بالغة الأهمية إذا ما أردنا دعم البلدان الأشد فقراً والأكثر عرضة لآثار تغير المناخ أثناء مسيرة التحول. وتبدو الحلول واسعة النطاق ممكنة فقط في حال وجود شراكة أوثق بين الحكومة والبنوك الرئيسية متعددة الأطراف والقطاع الخاص والمستثمرين فيه.

وأخيراً وليس آخراً، يخبرني قادة الأعمال أنه، وخلافاً لدور بنوك التنمية متعددة الأطراف، توجد حاجة ملحة لاستكشاف كيف يمكن لمجموعة العشرين تطوير آلية لتوفير ضمانات ضد المخاطر السيادية التي من شأنها أن تساعد في الإفراج عن المبالغ الهائلة من الأموال المطلوبة لجعل هذه الشراكة بين القطاعين العام الخاص واقعاً ملموسا. وهذا بدوره هو أملنا الوحيد إذا أردنا أن نبقي الاحترار العالمي عند 1.5 درجة مئوية.

إننا نرى أخيرا اتفاقاً عالمياً واسعاً على أننا نواجه تهديداً هائلاً لمستقبل البشرية والطبيعة نفسها، وأن من واجبنا، الآن، ترجمة الكلمات الجميلة إلى أفعال أفضل وأجمل. وما من شك بأننا إذا تمكنا من تنحية الاختلافات جانباً، بإمكاننا أن نرى في ذلك فرصة فريدة لإطلاق العنان لتعافٍ كبير صديق للبيئة يستفيد منه الجميع ...

وهكذا يمكن أن تكون هذه قصة النمو في عصرنا، حيث نبني اقتصاداً عالمياً يتبع مساراً واثقاً ومستداماً، وبالتالي ينقذ كوكبنا.