بعد الهجوم الذي شنته حركة حماس على إسرائيل في 7 أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وما تلاه من الحرب المشتعلة في غزة واجتياح الجيش الإسرائيلي للقطاع الذي تسيطر عليه الحركة، يبدو المشهد السياسي ملتبسا في العالم برمته.
وفي حين أن معظم ساسة العالم أكدوا دعمهم الكامل لإسرائيل في البداية، تغير الوضع بعد تطور الصراع في غزة ومقتل آلاف الفلسطينيين على يد الجيش الإسرائيلي.
وفي ما يبدو موقفا ثابتا من قبل أحزاب اليمين في الغرب والمتمثل بالدعم الكامل لإسرائيل، تتخبط أطياف اليسار في تحديد موقفها مما قد يؤثر على مستقبلها السياسي في أكثر من بلد.
ولفترة ليست ببعيدة كانت العلاقة بين إسرائيل واليمين في الغرب إشكالية، فلطالما كانت إسرائيل متوجسة حيال أحزاب اليمين خاصة وأن النازية والفاشية ولدتا من رحمها.
فما الذي تغير وأدى إلى تغيير أحزاب اليمين في الغرب لمواقفها؟ وماذا عن أطياف اليسار الغربي؟ كيف تتباين مواقفها، وما العوامل التي تقف وراء هذا التباين؟
اليمين في الغرب وإسرائيل: تاريخ إشكالي وتغير "براغماتي"
في منتصف العقد الماضي بدأت تخرج تصريحات على لسان بعض الزعماء اليمينيين الأوروبيين تجاهر بدعم إسرائيل، وهذه التصريحات في واقع الأمر يمكن أن تُقرأ على أنها علامات على تحول جوهري في خطاب اليمين المتطرف في القارة الأوروبية.
يقول البروفيسور توبايس كريمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكسفورد في المملكة المتحدة: "لقد تراجعت التصريحات العلنية المعادية للسامية وإنكار المحرقة وأفسحت المجال لظهور "محبة جديدة للسامية" تستلزم الثناء على المساهمات اليهودية في الحضارة "اليهودية المسيحية"، ومنظور جديد لإسرائيل كمنارة للحرية والتسامح والقومية في الشرق الأوسط".
ويضيف كريمر أن البعض من قادة اليمين ذهب إلى أبعد من ذلك: "مثل خيرت فيلدرز في هولندا أو فيكتور أوربان في المجر، اللذين أعلنا أن وجهات النظر الإيجابية تجاه إسرائيل هي "الاختبار الحاسم" الجديد لكونها جزءا من الحركة الشعبوية الوطنية. حتى أن بعض الأحزاب، مثل حزب التجمع الوطني الفرنسي أو حزب البديل من أجل ألمانيا، أنشأت فروعا يهودية مثل حزب التجمع الوطني اليهودي (الذي تأسس عام 2016) أو حزب اليهود البديل من أجل ألمانيا (الذي تأسس عام 2018)، وذلك بهدف إثبات أوراق اعتمادها كمدافعين عن الجاليات اليهودية الأوروبية ضد معاداة السامية الإسلامية أو اليسارية".
وبطبيعة الحال جاء هذا التحول الصارخ في موقف اليمين الأوروبي مفاجئا للكثير من المراقبين، ربما كون العديد من تلك الأحزاب التي تسعى الآن إلى تقديم نفسها كمدافعة عن الحياة اليهودية وكأصدقاء لإسرائيل في الخارج ترجع أصولها إلى النازيين والفاشيين الجدد، كما أنها لم تتوان يوما عن إظهار معاداة السامية وإنكار المحرقة.
ويشرح كريمر: "في عام 2018، قلل ألكسندر غاولاند، زعيم المجموعة البرلمانية لحزب البديل من أجل ألمانيا في البوندستاغ الألماني، من شأن النازية إذ وصفها بأنها ’نقطة عديمة الأهمية‘ في تاريخ الأمة، في حين كتب برلماني آخر من الحزب نفسه وهو ولفغانغ غيديون، أن ’اليهود هم من جلبوا على أنفسهم مبررا كافيا للأعمال العدائية التي كان عليهم مواجهتها في ألمانيا‘ وعلى نحو مماثل، في فرنسا، أنكر جان ماري لوبان، مؤسس الجبهة الوطنية ورئيسها لفترة طويلة، المحرقة وغرف الغاز بصورة ما، إذ وصفها عام 2016 بأنها ’تفصيل تاريخي‘".
ولكن على عكس والدها، فإن مارين لوبان، الزعيمة السابقة لحزب التجمع الوطني (الجبهة الوطنية سابقا)، ومعظم ممثلي الموجة الجديدة من الزعماء اليمينيين الأوروبيين الذين أشرفوا على صعود أحزابهم في العقد الماضي من الهامش السياسي إلى السلطة السياسية، عازمون على الانفصال علنا عن هذه السردية المتمثلة في معاداة السامية العلنية. لكن السؤال الحاضر بقوة هو ما مدى أصالة ومصداقية هذا التوجه وما أسبابه؟
يرى البروفيسور كريمر أن الأكاديميين والنقاد وممثلي المنظمات اليهودية الرئيسية في أوروبا، يميلون إلى تفسير الأمر على أن الدافع الأساسي وراء دعم اليمين المتطرف لليهود وإسرائيل يعزى إلى حد كبير لرفضهم للإسلام، خاصة بعد الصدمة التي أحدثها تدفق اللاجئين في 2015-2016، والتي وصل فيها ملايين المهاجرين ، والأغلبية الساحقة منهم من المسلمين من دول الشرق الأوسط مثل سوريا.
ويشرح كريمر: "تحول تركيز الغضب الشعبوي اليميني من ’اليهودي العالمي‘ إلى ’الآخر الإسلامي‘ الذي يُنظر إليه الآن باعتباره التهديد الرئيسي للشعب النقي والمتجانس الذي يدعي الشعبويون الدفاع عنه. وباتباع منطق ’عدو عدوي صديقي‘، فإن اليهود، الذين يُنظر إليهم على أنهم أعداء المسلمين، يظهرون الآن كحلفاء محتملين للأوروبيين - باعتبارهم ضحايا أبرياء يجب حمايتهم، أو لاستخدامهم كورقة تجعل من الإسلاموفوبيا أكثر قبولا اجتماعيا".
لكن على الرغم من أن هذا التفسير لتغير موقف اليمين المتطرف له ما يبرره، لكنه في رأي كريمر لا يمثل القصة بأكملها: "إن نظرة فاحصة على الديناميات داخل الأحزاب الشعبوية اليمينية في أوروبا تشير إلى أن موقفها المتغير تجاه اليهود وإسرائيل هو علامة على تحول أوسع يحدث في القارة؛ على وجه التحديد، التحول من التطرف العنصري أو الديني التقليدي إلى تطرف علماني وحضاري جديد، ألا وهو سياسة الهوية البيضاء".
وعلى ما يبدو ووفقا لسياسية الهوية البيضاء تلك، بات يُنظر لليهود وإسرائيل على أنهم "غربيون"، ففي إسرائيل، كما في الغرب هناك فصل بين الدين والدولة، وهي تعترف بحقوق المثليين وتتبنى المساواة بين الجنسين.
يقول كريمر: "من هنا جاء مديح الشعبويين الجديد للمساهمات اليهودية في التاريخ والثقافة الغربية، وهو جزء من ذلك التحول الخطابي من العنصرية إلى ما يسميه الباحثون طريقة جديدة للتمييز بين "نحن" و"الآخر" تعتمد على"التعددية" ومبدأ "متساوون ولكن مختلفون"، والذي ينص على أن دولا أو ثقافات أو مجموعات عرقية معينة لها الحق في الدفاع عن ثقافتها ضد الغرباء عن حضارتها. وفي هذا السياق، يُنظر الآن إلى وجود الجاليات اليهودية في أوروبا على أنه علامة هوية رئيسية للمجتمعات الغربية الحديثة، أما دولة إسرائيل، مركز اليهود خارج أوروبا، فقد أصبحت تلعب دورا مركزيا باعتبارها نموذجا لكيفية تعايش الشعوب والأمم، كما بات يُنظر إلى الصهيونية باعتبارها مثالا للقومية الحديثة الجريئة".
لكل تلك الأسباب أصبحت دولة إسرائيل بشكل عام وحكومة بنيامين نتنياهو بشكل خاص، تجسد مثالا للقومية الحديثة، تستحق الثناء والمحاكاة، في نظر الكثير من زعماء اليمين المتطرف في أوروبا.
اليسار في الغرب: تحول من دعم إسرائيل إلى الوقوف مع القضية الفلسطينية
منذ تأسيسها بعد حرب عام 1948-1949، حظيت دولة إسرائيل بدعم واسع النطاق من قبل معسكر اليسار في أوروبا، إذ كان ينظر لها على أنها صاحبة قضية، تتمحور حول وجود أقلية مضطهدة تسعى إلى تقرير مصيرها، الأمر الذي يتماشى مع أفكار وأخلاقيات اليسار.
يقول الدكتور ريتشارد جونسون المحاضر في كلية السياسة والعلاقات الدولية في كلية كوين ماري- جامعة لندن: "تاريخيا، كان حزب العمال هو الحزب الصهيوني الرئيسي في السياسة البريطانية، فقد كان الحزب الموطن الطبيعي لليهود الفارين من المذابح في أوروبا الشرقية في أوائل القرن العشرين. وعلى مدى العقود السبعة التالية، كان حزب المحافظين وكثير من النخبة المحافظة في الرأي العام في بريطانيا يميلون إلى تأييد العرب، إذ كان يُنظر إلى الدول العربية على أنها أكثر أهمية من الناحية الاستراتيجية بالنسبة للمصالح الدبلوماسية والاقتصادية للمملكة المتحدة، في حين كانت القضية الصهيونية قضية أكثر رومانسية، تتمحور حول مناصرة مجموعة أقلية مضطهدة".
ويتابع قائلا: "في الستينيات والسبعينيات، واصل حزب العمال الدفاع عن إسرائيل، وخلال حرب عام 1973، أدان زعيم حزب العمال هارولد ويلسون حكومة المحافظين لفشلها في إرسال أسلحة إلى إسرائيل لمواجهة التهديد العربي. في هذه السنوات، تمتع حزب العمال بدعم قوي من الناخبين اليهود، وكان حوالي 10 في المئة من نواب الحزب من اليهود وقال زعيم الحزب حينها، هارولد ويلسون إنه لا يوجد صديق أقرب لإسرائيل من حزب العمال البريطاني".
بدأت الصورة تتغير بعد حرب عام 1967، والتي أسفرت عن احتلال إسرائيل لسيناء المصرية، وقطاع غزة والضفة الغربية والجولان السوري، فلم يعد يُنظر إلى إسرائيل على أنها دولة ضعيفة مهددة بالإبادة ومحاطة بالأعداء من كل حدب وصوب، بل أصبحت بعد تلك الحرب قوة إقليمية مهيمنة.
أربك هذا التطور العديد من أخلاقيات اليسار، التي كانت متعاطفة بشكل تلقائي مع قضية المستضعفين، وما كان للأجيال الشابة من اليساريين الأوربيين إلا أن يعيدوا تقييم الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، ووفقا للمعطيات الجديدة وفي ضوء التغيرات التي حصلت بدا الاحتلال ظلما واضحا وبينا.
ثم في عام 1977، انتخب الإسرائيليون أول حكومة يمينية، بقيادة رئيس الوزراء، مناحيم بيغن، ما جعل المشروع الإسرائيلي يبدو فجأة أقل جاذبية في نظر اليسار الأوروبي. ويعزو مراقبون ذلك إلى أن الصهيونية لم تعد في نظر اليساريين حركة تحرير أو طوق نجاة لأمة مضطهدة، بل أضحت تجسيدا لكل ما التزم اليسار بمعارضته.
يقول الدكتور جونسون: "منذ الثمانينيات، تلاشت قوة الصهيونية اليسارية في بريطانيا. لقد انقلبت الأمور، وأصبح اليسار أكثر صراحة في الوقوف مع القضية الفلسطينية، وفي الحقيقة هناك مجموعة متنوعة من التفسيرات لذلك، بما فيها صعود اليسار الجديد (الذي صوّر إسرائيل على أنها دولة استيطانية استعمارية وليست دولة أسسها اللاجئون العائدون إلى ديار أجدادهم)، والأثر السلبي الذي خلفه احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة، وتراجع حزب العمال الإسرائيلي والحركة الاشتراكية في إسرائيل، بالإضافة إلى الازدياد المطرد للناخبين المسلمين في بريطانيا".
حرب غزة وتخبط معسكر اليسار الغربي
بعد هجوم حماس على إسرائيل في أوائل أكتوبر/تشرين الأول الماضي وانطلاق العمليات العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزة، وجدت الأحزاب اليسارية في دول مثل فرنسا وبريطانيا وأسبانيا، نفسها في مأزق حول كيفية تصنيف تصرفات حماس ومستوى القوة التي يحق لإسرائيل أن تستخدمها في ردها العسكري.
يقول البروفيسور توبايس كريمر، أستاذ العلوم السياسية في جامعة أوكسفورد في المملكة المتحدة: "بينما يحدث كل هذا، فإن أحزاب يسار الوسط في أوروبا، والتي كانت تاريخيا المدافع الرئيسي عن الجاليات اليهودية في القارة، تتخبط في التعامل مع ميول داخل صفوفها تجاه معاداة السامية. ومع تحول تركيز اليسار من الجاليات اليهودية في أوروبا إلى الجاليات الإسلامية الأكبر حجما، بالإضافة إلى تحول التركيز أيضا من النقابات العمالية إلى الجامعات، حيث أصبح الميل إلى ربط إسرائيل بالاستعمار وحتى نظرية تفوق العرق الأبيض بمثابة عامل توحيد لتحالف اليسار، أضحت الأحزاب اليسارية نفسها مترددة في الدفاع عن اليهود".
وربما يبدو الانقسام في صفوف اليسار حول هذه القضية واضحا بشكل كبير في فرنسا، حيث أثار حزب "فرنسا الأبية" اليساري ، الذي شكل في العام الماضي ائتلافا مع أحزاب أكثر اعتدالا مثل الاشتراكيين والخضر، غضب حلفائه عندما وصف زعيمه هجوم حماس بأنه "هجوم مسلح" لكنه لم يصف الحركة بأنها منظمة إرهابية. ويعزو مراقبون موقف زعيم الحزب جان لوك ميلينشون، إلى سعيه لتعزيز صورته كمدافع عن المضطهدين بهدف استمالة الناخبين المسلمين الذين يشكلون نسبة لا يستهان بها من سكان فرنسا.
لكن بطبيعة الحال مواقف ميلينشون كلفته الكثير، إذ تم تعليق التحالف اليساري، ولا تلوح في الأفق أي فرص لإعادة إحيائه.
وكذلك اليسار في الجارة بريطانيا ليس بحال أفضل، فقد أثار زعيم حزب العمال، كير ستارمر، الاستياء داخل حزبه عندما قال إن لإسرائيل الحق في حجب الكهرباء والمياه عن غزة كجزء من ردها على هجوم حماس، قبل أن يتراجع عن هذا التصريح، كما أنه لم يدع إلى وقف إطلاق النار، بحجة أن ذلك "سيشجع" حماس. وقد اتهمت شخصيات بارزة في الحزب ستارمر بالدعم "المفرط" لإسرائيل على حد تعبيرهم، كما تبع ذلك استقالة العشرات من أعضاء الحزب بسبب هذه القضية.
وفي إسبانيا، اضطر رئيس الوزراء الاشتراكي بيدرو سانشيز لمحاولة تخفيف الأضرار بعد تصريحات زعيمة حزب بوديموس اليساري ، إيوني بيلارا، عن أن الحملة العسكرية الإسرائيلية ترقى إلى مستوى "الإبادة الجماعية"، وأنه يجب محاكمة رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو بتهمة ارتكاب جرائم حرب، كما دعت إلى قطع بلادها للعلاقات الدبلوماسية مع إسرائيل، وفرض عقوبات اقتصادية عليها.
أثارت هذه التصريحات رداً غاضبا من قبل السفارة الإسرائيلية في مدريد، مما أضطر وزارة الخارجية الإسبانية إلى القول أن بيلارا لا تعبر عن وجهة نظر الحكومة الرسمية بشأن السياسة الخارجية، وأن إسبانيا تعترف بحق إسرائيل في الدفاع عن نفسها ضمن حدود القانون الدولي.
وعند تشكيله لحكومة جديدة في 20 نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي، أعاد سانشيز تكليف معظم وزرائه، واستبعد منها حزب بوديموس، وزعيمته إيوني بيلارا.
التعليقات