جميع الحروب، باستثناء أقصرها، تشهد أوقاتاً يصبح فيها القتل روتيناً كئيباً اعتيادياً لا يتغير. هناك أيضاً لحظات وأحداث، كتلك التي شهدتها منطقة الشرق الأوسط في الأيام القليلة الماضية، تضع المتحاربين وحلفاءهم على مفترق طرق، بحيث يتعين عليهم اتخاذ قرارات كبيرة.
وأصبح قادة الحكومات والقوات المسلحة في إسرائيل وطهران، وفي مقر حزب الله في الضاحية الجنوبية لبيروت، وحتى في أماكن أبعد كالخليج وأوروبا والولايات المتحدة أمام مواجهة لعدة خيارات.
ومقتل عمال الإغاثة الأجانب في غزة قد يستنفد أخيراً صبر حلفاء إسرائيل، وعلى رأسهم الولايات المتحدة.
وقد منعت إسرائيل ومصر الصحفيين الأجانب من دخول غزة، باستثناء الزيارات العرضية والقصيرة الخاضعة لرقابة مشددة برفقة الجيش الإسرائيلي. وفي عصر الحرب غير المتكافئة، يحتاج المتحاربون إلى الفوز في المعركة الإعلامية، إذ يمكن أن يعتمد النصر أو الهزيمة على التصوّرات بقدر ما يعتمد على حقائق ووقائع المعركة. وأيضاً عندما يكون لدى الأطراف المتحاربة ما تود أن تخفيه، فإن الصحفيين يُمنعون من دخول أرض الحرب.
ولكن حتى بدون وجود مراسلين أجانب في قلب الحدث، أصبحت الأدلة تتراكم على أن إسرائيل لا تحترم التزاماتها بموجب قوانين الحرب الخاصة باحترام حياة المدنيين، كما تدعي، أو تسمح بحرية حركة المساعدات الإنسانية في ظل المجاعة التي خلقتها تصرفات إسرائيل نفسها. وبعد مقتل فريق المطبخ المركزي العالمي في غزة، استخدم الرئيس الأميركي جو بايدن أقوى الكلمات، حتى الآن، في تصريحاته العلنية لإدانة تصرفات إسرائيل.
ويجب على الرئيس الأمريكي ومساعديه أن يقرروا الآن ما إذا كانت الكلمات كافية أم لا. وحتى الآن، قاوم الرئيس ومساعدوه الدعوات الرامية لفرض شروط على استخدام الأسلحة الأمريكية في غزة، أو حتى قطع خطوط الإمداد.
وبينما لا تزال الأسلحة تتدفق على إسرائيل، قد يشعر رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو، الذي يعتمد على القوميين اليهود المتشددين للبقاء في منصبه، أنه لا يزال قادراً على تحدي الرئيس بايدن. والاختبار الرئيسي سيكون اجتياح مدينة رفح، وهو خطة تعتقد الولايات المتحدة أنها ستفاقم الكارثة الإنسانية في غزة. إن المصالح الأمريكية والآفاق السياسية للرئيس بايدن في عامه الانتخابي قد تضررت بالفعل، بسبب ما يعتقده الأفراد في العديد من الدول أنه تواطؤ مع إسرائيل.
وهذا الأسبوع عاد نتانياهو إلى العمل، بعد خضوعه لعملية جراحية لعلاج فتق، على وقع مظاهرات ضخمة تُطالب باستقالته وإجراء انتخابات مبكرة لتشكيل برلمان جديد. إن الشروخ الثقافية والسياسية العميقة بين الإسرائيليين، والتي وُضعت جانباً بعد أحداث السابع من أكتوبر، عادت لتظهر على مصراعيها مرة أخرى ويصدح بها الشارع هناك. ورئيس الوزراء أمام ورطة سياسية، إذ يُلقي خصومه باللوم عليه لأنه تهاون في حماية إسرائيل لدرجة سمحت لحماس باكتشاف فرصة ناجحة للهجوم.
إن ملايين الإسرائيليين الذين يعتقدون أنهم يخوضون حرباً عادلة ضد حماس لا يثقون في نتانياهو. وتتضمن لائحة اتهاماتهم لرئيس الوزراء: إطالة أمد الحرب لتأجيل اللحظة التي يُحاسب فيها على أخطائه، والفشل في إعادة الرهائن الإسرائيليين إلى وطنهم بأمان، وإبعاد الحلفاء الحيويين بدءاً من الرئيس بايدن، وأضف إلى ذلك حقيقة أن حماس لا تزال تقاتل بعد هذا الهجوم الكبير وعلى مدى ستة أشهر، ولا يزال قائدها في غزة يحيى السنوار على قيد الحياة في مكان ما في القطاع.
وثمة حسابات جديدة حول المراحل التالية للأزمة في الشرق الأوسط بعد اغتيال جنرال إيراني كبير في دمشق، والذي يُفترض على نطاق واسع في إسرائيل أنه من عمل سلاح الجو الإسرائيلي. كان ذلك بمثابة انقلاب لأجهزة الاستخبارات التي أغفلت أو تجاهلت هجمات حماس قبل ستة أشهر، كما أنه تصعيد ستكون له عواقبه في الحرب الأوسع نطاقاً في المنطقة.
قد تحدث بعض هذه العواقب على مقربة من المكان الذي أكتب فيه هذا المقال، حيث أطل عبر بحر الجليل باتجاه مرتفعات الجولان، وهي المساحة الشاسعة من جنوب سوريا التي احتلتها إسرائيل في حرب الشرق الأوسط عام 1967 وضمتها لاحقاً. وتقع دمشق على بعد أقل من 50 ميلاً من شمال إسرائيل، كما أن الحدود مع لبنان قريبة من المكان. في الليل على وجه الخصوص، هناك نشاط جوي إسرائيلي مستمر، مع سماع هدير الطائرات التي تقوم بدوريات أو تتجه لقصف لبنان أو سوريا.
تدور هنا حرب ظل بالتوازي مع الحرب في غزة منذ أكتوبر الماضي. وقد بدأت هذه الحرب بمهاجمة حزب الله اللبناني لإسرائيل، دعماً ومساندة لحماس في غزة. لم يكن هذا الهجوم هو الهجوم الذي كانت تأمله قيادة حماس، فلا حزب الله ولا رعاته في طهران يريدون حرباً شاملة مع إسرائيل، وبشكل غير مباشر، مع داعميها الأمريكيين. ولم يرد الأمريكيون ذلك أيضاً، فكبحوا غريزة إسرائيل للرد بكل قوة.
لكن حزب الله لا يزال يقيد الآلاف من القوات الإسرائيلية ويجبر إسرائيل على إجلاء نحو 80 ألف مدني من المناطق الحدودية. وقد أدى الرد الإسرائيلي، المحدود مقارنةً بالحروب الحدودية السابقة، إلى نزوح ما لا يقل عن نفس العدد من المدنيين في الجانب اللبناني.
ومنذ بداية هذا العام اختلف الأمر، فقد كانت إسرائيل هي التي تحدد الوتيرة، وتقصف أعداءها في العمق اللبناني والسوري. وجاءت القفزة الأكبر في سلم التصعيد يوم الاثنين الماضي مع اغتيال الجنزال الإيراني في غارة جوية على القنصلية الإيرانية في العاصمة السورية دمشق.
وفي مقابلات أُجريت هنا في شمال إسرائيل، أعرب المسؤولون والسكان المحليون عن دعمهم القوي ليس فقط لعملية الاغتيال بل لغزو جنوب لبنان وتدمير حزب الله وإجباره على التراجع عن الحدود.
لم تثنِهم تجربة إسرائيل في العقدين الأخيرين من القرن العشرين، عندما احتلت شريطاً واسعاً من جنوب لبنان في محاولة لحماية شمال إسرائيل، حتى أنها أنشأت ميليشيا لبنانية خاصة بها للمساعدة في القتال. انسحب الإسرائيليون في عام 2000، تحت مضايقات عسكرية مستمرة من حزب الله، بعد أن قرر رئيس الوزراء إيهود باراك، وهو قائد سابق للجيش، أن احتلال جنوب لبنان (أطلقت عليه إسرائيل اسم "المنطقة الأمنية") لم يجعل الإسرائيليين أكثر أماناً وأهدر حياة قوات إسرائيل.
تجولت بين أنقاض مصنع أفيفيم للنبيذ، الذي يقع على السلك الحدودي مباشرةً. لقد دُمر المصنع في غارة لحزب الله الأسبوع الماضي. يعتقد مالك المصنع، شلومي بيتون، والذي كنت برفقته أن السبيل الوحيد لاستعادة الحياة الكريمة والآمنة هو عودة إسرائيل إلى لبنان لخوض معركة حاسمة مع حزب الله، فقد أصبح شمال إسرائيل مدينة أشباح بعد عمليات الإخلاء.
"ليس هناك خيار آخر، وإلا فإن المجتمع لن يعود للعيش هنا، ربما مجرد عدد قليل من الرجال المجانين مثلي - الأطفال لن يعودوا"، يقول شلومي بيتون.
وفي كريات شمونة، وهي بلدة حدودية كان يقطنها 25 ألف إسرائيلي، لم يتبق فيها أكثر من 3000 شخص، معظمهم من الجنود والعمال الأساسيين. وقد أراني رئيس البلدية، أفيخاي ستيرن، الأحياء المهجورة والمباني المدمرة. ويعتقد ستيرن أن إسرائيل قادرة على إزالة تهديد حزب الله في الشمال باجتياح حاسم ومدمر على غرار حرب غزة.
وقال رئيس البلدية شتيرن إن 10 آلاف مقاتل من حزب الله تدربوا، العام الماضي، للاستيلاء على شمال إسرائيل.
وقال لي: "يمكن أن يحدث ذلك هنا، تماماً مثل غزة. لم يتدربوا على توجيه حركة المرور في بيروت، والطريقة الوحيدة لوقف ذلك هي الذهاب إلى لبنان للقضاء على هذا التهديد في أقرب وقت ممكن".
قبل ستة أشهر بالضبط، وبسرية تامة، كانت حماس تضع اللمسات الأخيرة لخطة المعركة التي أطلقت عليها اسم "طوفان الأقصى". لقد أدى القتل في السابع من أكتوبر وكل ما تلاه إلى تدمير التفكير الكسول والمتمني بإمكانية إدارة الصراع المستمر منذ قرن بين العرب واليهود للسيطرة على الأرض الواقعة بين نهر الأردن والبحر الأبيض المتوسط.
وقد أعادت حماس الصراع إلى قمة جدول أعمال العالم بعدما قتلت حوالي 1200 شخص معظمهم من المدنيين الإسرائيليين، واحتجزت أكثر من 250 إسرائيلياً ومواطناً أجنبياً كرهائن في غزة. ويُعتقد أن العديد من الإسرائيليين الـ 134 الذين لا يزالون هناك قد لقوا حتفهم. كان ذلك أسوأ يوم لإسرائيل منذ انتصارها في حرب الاستقلال عام 1948.
إن "الانتقام القوي" الذي وعد به نتانياهو قتل حتى الآن أكثر من 32 ألف فلسطيني، معظمهم من المدنيين. وقد سوت قوة النيران الإسرائيلية التي زودتها بها الولايات المتحدة معظم غزة بالأرض، وانتشرت الحرب في جميع أنحاء الشرق الأوسط، وربما تدخل الآن مرحلة جديدة.
في الأسابيع القليلة الأولى من فصل الربيع، تبدو الأراضي الحدودية بين إسرائيل ولبنان جميلة بشكل مخادع. كانت الزهور البرية وأكواز الصنوبر، وليس الشظايا، تحت أقدامي بينما كنت أسير على امتداد الحدود مع ضباط الجيش الإسرائيلي. أي شعور بالسلام كان بالطبع وهماً على واحدة من أخطر الحدود في الشرق الأوسط، فإيران وحزب الله يتخذان قرارات بشأن كيفية الرد على الاغتيالات في دمشق، والطريقة التي تزيد بها إسرائيل من الضغط العسكري في لبنان، وسيرغب الحليفان في معايرة ردهما لتجنب حرب مدمرة أوسع نطاقاً لا يريدها أي منهما.
وإسرائيل لا تريد هذه الحرب أيضاً. لكن عملية الاغتيال الجريئة في المجمع الدبلوماسي الإيراني في دمشق قد تكون علامة على أن إسرائيل تعتقد أن إيران والشبكة التي تسميها محور المقاومة قد تتراجع أولاً. وإذا كان الأمر كذلك، فهي استراتيجية محفوفة بالمخاطر، فإيران سترغب في استعادة قدرتها على ردع إسرائيل، والتي من الواضح أنها لن تنجح، وستحاول الرد بطريقة تفاجئ إسرائيل.
ومن غير المرجح أن تكون المجتمعات الحدودية الفارغة المترامية الأطراف خيار إيران الأول للانتقام. يمكن أن تحاول إيران استهداف هدف إسرائيلي في بلد آخر، أو شن هجمات إلكترونية بدلاً من استخدام الصواريخ، أو تكثيف برنامجها النووي.
ويحاول المبعوث الأمريكي، عاموس هوكستين، إيجاد طريقة لإحياء قرار مجلس الأمن الدولي الذي أنهى الحرب الكبيرة الأخيرة بين حزب الله ولبنان في عام 2006، والذي لم يحترمه أي من الطرفين، لكنه يوفر إطاراً للتفاوض.
وعند مفترق الطرق هذا، لا تريد إسرائيل ولا إيران ولا حزب الله حرباً شاملة ستكون عواقبها وخيمة عليهم جميعاً. لكن لا يبدو أن أي طرف مستعد لوقف الانزلاق نحوها.
التعليقات