إيلاف من أصيلة: أجمع متدخلون، مساء الاثنين، في افتتاح ندوة "أزمة الحدود في إفريقيا: المسارات الشائكة"، ضمن فعاليات موسم أصيلة الثقافي الدولي ال45، في دورته الخريفية، التي تنظمها مؤسسة منتدى أصيلة، إلى غاية 31 أكتوبر الجاري، على أن موضوع الحدود في إفريقيا معقد ومتشعب، لأنه على درجة عالية من الحساسية السياسية، لارتباطه بسيادة الدول وهويتها، وبأحقيتها في حماية واسترجاع وحدتها الترابية.
وأثار قرار منظمة الوحدة الأفريقية، في 1963، باعتماد الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية في إفريقيا، انتقادات، تحدثت عن تسببه في توترات، وذلك جراء استغلال أنظمة القرار المذكور، لكي تستفيد مما ليس لها حقٌّ تاريخي فيه.

وتوقف متدخلون، في هذا السياق، عند مفارقة انتقاد مؤتمر برلين في 1885 – الذي "نظم" الاستعمار الأوروبي في أفريقيا - والقبول ب"عطايا" الاستعمار.


محمد بن عيسى يلقي كلمة افتتاح الندوة

هوية منتدى أصيلة
انطلقت أولى ندوات جامعة المعتمد ابن عباد المفتوحة في دورتها ال38، بكلمة لمحمد بن عيسى، الأمين العام لمنتدى أصيلة، شدد فيها على أن الدورة الخريفية لهذا العام، من موسم أصيلة، تأتي لتؤكد ثباتا على الخط الفكري، الذي يشكل هوية المنتدى، كفضاء مفتوح للتداول في القضايا الكبرى، المطروحة على المستوى العربي والإفريقي والدولي، وما تثيره من رؤى ومواقف.

وشدد بن عيسى على أن الوفاء لهذا الخط الذي رسم لكل مواسمأصيلة، هو الذي جعل من المدينة "منصة حرة للرأي والرأي الآخر، ومنتدى لحوار عميق بين نساء ورجال الفكر والسياسة والإبداع، من كل الأطياف والقارات والجنسيات والثقافات والأديان، اتسم على الدوام، بقدر عال من النضج والتبصر والمسؤولية، في ملامسة القضايا الاستراتيجية وتحليل الظواهر المعقدة".


جانب من الجمهور

أسباب عديدة للأزمة
تحدث بن عيسى عن أزمة الحدود في إفريقيا، وقال إنها "تطرح إشكاليات تمس السيادة ووحدة الوطن، بل هي تمس أساس وجوهر الوجود الذي تقوم عليه الأوطان". وقال إن هناك أسبابا عديدة لأزمة الحدود، لم تتم معالجتها في وقتها، بالحزم الذي يستدعيه الموقف، وعلى قاعدة مبدأ الإنصاف، المنسجم مع حقائق التاريخ والجغرافيا، وهو ما جعل دولا وأنظمة معينة، تستفيد من مخلفات هذا الوضع، وذلك لأغراض توسعية؛والأدهى أن تظل تلك الأنظمة مصرة على تثبيت وضعٍ هو من مخلفات الحقبة الاستعمارية.

واستحضر بن عيسى، في هذا السياق، ما جرى سنة 1963 في مؤتمر منظمة الوحدة الأفريقية، حين تم استصدار قرار غير منصف في منظمة الوحدة الإفريقية، يقضي باعتماد الحدود الموروثة عن الفترة الاستعمارية في إفريقيا، وهو ما نتجت عنه توترات ونزوعات توسعية، لدى أنظمة استغلت القرار المذكور، لتستفيد مما ليس لها حقٌّ تاريخي فيه. وأضاف: "لقد شاهدنا كيف أدى ذلك الانحراف، إلى أزمات عانت منها أقطار إفريقية، شرقا وغربا، شمالا وجنوبا".

ورأى بن عيسى أنه لن يكون ممكنا التغلب على نتائج وعواقب هذه المعضلة، إلا بالمقاربة المتبصرة، في إطار أجواء الأخوة والتعاون، ومنطق المصلحة المشتركة، وليس بمنطق القوة والتوسع.

مبادرات مغربية
قال فؤاد يزوغ، السفير المدير العام للعلاقات الثنائية بوزارة الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، في كلمة ألقاها نيابة عن ناصر بوريطة، وزير الشؤون الخارجية والتعاون الإفريقي والمغاربة المقيمين بالخارج، إن موضوع الحدود هو "إشكالية شائكة" على مستوى إفريقيا، مشيرا إلى أن الأمر يتعلق بإرث استعماري خلق ندوبا وتداعيات سلبية جدا، وأزمات لم يتم حلها إلى اليوم. وتساءل: "اليوم، هل المشاكل قدر؟ وهل علينا أن نجتر دائما هذه الإشكاليات المتعلقة بأزمات الحدود؟".

وتحدث يزوغ،عن التعاون والاندماج الإقليمي، الذي يمكنه أن يكون حلا لكل الإشكاليات المتعلقة بالحدود. وقال إن المغرب، تحت قيادة الملك محمد السادس، أطلق مبادرات لصالح إفريقيا. وتحدث، في هذا السياق، عن مبادرة تسهيل ولوج دول الساحل إلى المحيط الأطلسي، التي تتيح فرصا كبيرة للتحول الاقتصادي للمنطقة برمتها، بما ستسهم فيه من تسريع للتواصل الإقليمي وللتدفقات التجارية ومن ازدهار مشترك في منطقة الساحل، حيث أنها يمكن أن تكون حلا لإشكالية الحدود،ولهذا "الظلم الجغرافي" للبلدان المعنية، بشكل يمكنها من الخروج نحو قارات أخرى، وتحقيق الاندماج الإقليمي، خدمة لشعوبها.

كما تحدث يزوغ عن مبادرات أخرى، متوقفا عند مشروع أنبوب الغاز نيجيريا – المغرب، الذي سيوفر الغاز لجميع دول غرب إفريقيا ويفتح طريق تصدير جديد إلى أوروبا، مشددا على أن كثيرين يظنون أن هذا المشروع يهدف إلى تصدير الطاقة من إفريقيا نحو قارات أخرى، مشيرا إلى أنه على العكس من ذلك، فهذا مشروع سيفيد تطور وتنمية القارة السمراء من خلال تنمية الدول التي سيمر منها هذا الأنبوب، بشكل يفيد ديناميتهاالاقتصادية والصناعية، بما يضمن تحقيق تنمية تساعد شعوبها على الرفاه والازدهار.
كما تحدث يزوغ عن مبادرة "الشراكة من أجل التعاون الأطلسي"، التي تروم تحقيق تكامل بين الدول المطلة على المحيط الأطلسي، مشيرا إلى أنها تركز بشكل خاص على مواضيع، تشمل الأمن والاقتصاد الأزرق والربط.

آثار مدمرة
قال فيكتور بورغيس، منسق الندوة ووزير الخارجية الأسبق في الرأس الأخضر، إن المؤرخين والمثقفين والسياسيين، في شتى أنحاء إفريقيا، ما زالوا يذكرون بكل امتعاض ما طبع مؤتمر برلين لعام 1885، حين تقاسمت القوى الأوروبية الرئيسيةأراضي وموارد إفريقيا في ما بينها، في وقت كانت فيه القوة الجيوسياسية والاقتصادية والعسكرية لكل طرف هي المحدد الذي شكل خريطة القارة السمراء، لذلك أقدمت على ذلك وكأن القارة لم تكن مأهولة، ولم يكن لديها تاريخ ولا ثقافة، ولا تقاليد تستحق أن يحافظ عليها، فقط لأن الأفارقة وكياناتهم السياسية، لم يكونوا يشكلون جزء من اهتمامات ومعادلات القوى الأوروبية؛فيما لا تزال معظم المفارقات الجغرافية والسياسية الناتجة عن هذا الأمر تشغل عقول الرجال والسياسة في إفريقيا.

وأضاف بورغيس أنه كان لتقسيم إفريقيا والاحتلال الاستعماري الذي أعقبه آثار مدمرة على المجتمعات والكيانات السياسية في فترة ما قبل الاستعمار، بعد أن وجدت الأوضاع الإنسانية والديناميات السياسية والاقتصادية والثقافية الداخلية نفسها معلقة أو متغيرة أو ملغاة، إن لم نقلمختفية تماما.

بين السعر والقيمة
انطلق مصطفى حجازي، خبير الاستراتيجية السياسية والمستشار السياسي للرئيس المصري السابق ، من طرح يرى أن الجغرافيا، باعتبارها فلسفة المكان وفلسفة الأرض، هي تاريخ ساكن، بينما التاريخ هو جغرافيا متحركة؛ ليقول بأن إفريقيا هي في بحث دائم عن ذاتها وعن شخصيتها الطبيعية والبشرية والتكاملية والحضارية.
وعاد حجازي إلى ما حدث سنة 1884، التي جعلت إفريقيا ترث حدودا بكل آلامها، مشددا على أن محاولة اقتسام ونهب القارة بشكل قانوني، إذا جاز التعبير، لم يخل من طرح فلسفي، سمي بعد ذلك ب"عبء الرجل الأبيض"، وهو مصطلح يتم تقديمه على أنه يتبنى الموقف الإمبريالي الذي يرى أن مسؤولية الأوروبيين والأميركيين البيض هي نقل الحضارة إلى شعوب الدول المستعمرة.

من جهة ثانية، شدد حجازي على أننا حين نتحدث عن آفاق المستقبل يلزم أن نتحدث عن المطلوب وليس المتاح أو الفتات؛ داعيا إلى التفريق بين السعر والقيمة، مع تشديده على أنه ليس بالضرورة أن يكون للأوطان سعر، كما أنه لا ينبغي أن يكون للمستقبل سعر، ولكن للأوطان قيمة. وأوضح أن أي تصور براغماتي – سعري يتحدث عن التعاون الاقتصادي كجسر، فقط للعبور بإفريقيا إلى مستقبل واعد، يصبح مقاربة قاصرة، وأنه يلزم أن نتحدث عن مقاربة مبدئية وشاملة عن الثقافة والعدل والشراكة في الحلم، وحقوق الناس في العيش بسعادة، مشددا على أن السعادة شيء مبدئي وقيمي، ولكنها ليست شيئا يُسعر.

تركة الاستعمار
قال زكرياء أبو الذهب (المغرب)، أستاذ العلاقات الدولية بجامعة محمد الخامس بالرباط، إن مسألة الحدود تثير إشكالا فلسفيا وأبستمولوجيا، وأنطولوجيا، مشددا على أن التركة الاستعمارية ما زالت تعشش في الأذهان، وحتى في القانون الذي لا ينصفنا حين تكون مرجعيته غربية.
ومثل أبو الذهب لذلك بمسألة الحدود الموروثة عن الاستعمار، كما أقرتها منظمة الوحدة الإفريقية. وقال إن المغرب عانى من هذه المسألة الأمرين؛ مذكرا، في هذا الصدد، بالحدود الشرقية مع الجزائر، والإشكال مع إسبانيا حول الصحراء.

كما تحدث أبو الذهب عن "تقرير المصير"، الذي قال عنه إنه يبدو عادلا في شكله، ويسعى إلى تطبيق إرادة الشعوب، ولكن، في كنهه هناك مجموعة من الميكانيزمات والأشياء التي تحدث نوعا من اللاعدل.

ودعا أبو الذهب إلى انتفاضة لسبر أغوار بعض القوانين وإعادة بناء المفاهيم.

عطايا الاستعمار
انطلق الصادق الفقيه الأمين العام لمنتدى الفكر العربي بعمان(السودان) من "واقع الحال" الذي يشمل التاريخ الاستعماري وما بعده، والجغرافيا؛ وقال "إننا لا يمكن أن نتحدث عن الحدود دون أن نتطرق إلى التاريخ والجغرافيا"، مشيرا إلى أن الحدود الإفريقية فيها تعدد مربك في كل شيء، وأن ما تركه المستعمر زاد كثيرا من هذا الإرباك.

وأوضح الفقيه أن الاستعمار عمد إلى رسم الحدود رسما مستقيما. وقال إنه لا يعني بالاستقامة الخط المستقيم جغرافيا وتاريخيا، ولكن "التسعير"، كما تحدث عنه حجازي، أي رسم الحدود وفقا لمصالح المستعمر وللتسعيرة التي وضعتها الدول الاستعمارية لمستعمراتها ولمصالحها هناك. وأضاف أن الدول المستعمرة عقّدت الأمور كثيرا في إفريقيا، في زمن استعمارها وقبل خروجها منها.

وتطرق الفقيه إلى قرار منظمة الوحدة الإفريقية المتعلق بالحدود الموروثة عن الاستعمار، مشيرا إلى أن المؤسسة القارية لم تجمد الحدود، وإنما جمدت كل متعلقات الحدود، مشيرا إلى أن أخطر هذه المتعلقات التي جمدت وما زالت سارية، تتعلق بما تركه الاستعمار مرتبطا بالعقل والثقافة والحالة الاجتماعية والاقتصاد السياسي.

وأضاف الفقيه موضحا أن القارة الإفريقية تتحدث بلسان غير لسانها وتتحرك في حدود لم يكن لها شأن في رسمها، وهي حدود بين الدول وداخل الدول. وفضلا عن كل هذا، يضيف الفقيه، ظلت هناك إشكاليات كثيرة، مثل "فرق تسد".

وقال الفقيه إن هناك قضية تبرز حين تضطرب الأوضاع بين الدول المختلفة داخل القارة، تتعلق ب"العطايا الاستعمارية"، وهي عطايا، قال عنها إنها تعقد غالبية المشكلات في عالم اليوم.

وشدد الفقيه على أنه قد تركت بين كل حد وحد بؤر للصراع، ممثلا لذلك بالسودان وعلاقاته مع دول الجوار.


مفارقات الحدود
من جهته ، تحدث حاجي أمادو سال وزير العدل السنغالي السابق، عن الاستعمار الذي خلق الحدود ورسمها خدمة لمصالحه، متوسعا في توضيح وجهة نظره، من خلال استعراض مفارقات هذه الحدود، من خلال وضعية موريتانيا والسنغال وغامبيا.

وتحدث صال عن أوضاع القارة الإفريقية، والتخلف الذي تعاني منه، مشددا على أنها تحتاج إلى دورة استدراكية للحاق بركب النمو والتطور.

من جهته، طرح احمدو ولد عبد الله وزير الخارجية الموريتاني الأسبق والممثل الخاص السابق للأمم المتحدة في غرب أفريقيا ، ملاحظات بخصوص إشكالية الحدود، مشيرا إلى أن النقاش حولها يعود إلى 1684، وليس 1884؛ قبل أن يتحدث عن مسألة سيادة الدول، في العصر الحديث، وكيف تحولت الحدود إلى مصدر للنزاعات.

وتطرق ولد عبد الله، بدوره، إلى قرار منظمة الوحدة الإفريقية المتعلق بالحدود الموروثة عن الاستعمار، وذكر، في هذا السياق، بتحفظ كل من الصومال والمغرب، وقال إنهما لم يعترفا بالحدود الموروثة عن الاستعمار.

وعلى أن الحدود صارت إشكالا معقدا، أضحت له تداعيات قانونية واقتصادية وسياسية وأمنية، قبل أن تفاقمه التطورات التكنولوجية المتسارعة.